شهر الله المحرّم - فضائله، صيامه، يوم عاشوراء، تنبيه هام فيه | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الخميس،05-سبتمبر-2019

شهر الله المحرّم - فضائله، صيامه، يوم عاشوراء، تنبيه هام فيه

كيف يمكن للمرء أن يستفتح عامه الجديد فيعرف قيمة الأيام والشهور، وما يجري عليه فيه من الأحوال ويدور، ويكون فيها مرضيّاً عند خالق الساعات والدهور، وهل نعلمُ أن شهر الله المحرم من أعظمِ الشُّهور، حدثت فيه وقائع، واشتهرت له فضائل، ونجّى الله فيه أقواماً، وتاب فيه على أقوامٍ، فكيف تحبّ أن يدخل عليك هذا الشهر ويمضي! وماذا ترتِّبُ له من الأعمال، وعلى أي شيء تنوي حين يدخل عليك هذا العام هيّا بنا نعيش قليلاً مع نفحات هذا الشهر وفضائله.

أولاً: الحكمة من ابتداء السنة به:

أيها القارئ الحبيب، والأخ اللبيب ما الحكمة أن الله افتتح السنة بشهر حرام، وختمها بشهر حرام؟

لا شكّ أن في ذلك حكمة تدعو المؤمن للتأمّل والتفكُّر وأعظم حكمة يمكن أن نأخذها أن الله نبّهنا ألا نختم عامنا أو نبدأه بما يهتِكُ حرمة الأوقات فعظّم شأنها وجعلها من الأشهر والأيام الحُرم؛ لينزجر المرء العاقل عند تغليظِ الأمر وحكمه؛ فينزجر بالتعظيم للشعائر وحفظ الحرمات وحدود الأوقات.

إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام، فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرّم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه (لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: صـ٨٧).

فضل شهر الله المحرّم:

إذن ليس شهراً في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرّم، وكان يسمى شهر الله الأصم من شدة تحريمه، وهو أول شهر في السنة الهجرية، وهو شهر مبارك معظم، من الأشهر الحرم الأربعة التي أشار القرآن إليها بقوله:

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثۡنَا عَشَرَ شَهۡرٗا فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ يَوۡمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ مِنۡهَآ أَرۡبَعَةٌ حُرُمٞۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُۚ فَلَا تَظۡلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمۡۚ.[التوبة: ٣٦].

وأكّد الحبيب صلى الله عليه وسلم حرمتها بقوله:

إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان. (متفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه. صحيح البخاري: ٣١٩٧، صحيح مسلم: ١٦٧٩).

هكذا تميّزت الأشهر الحرم دون غيرها من الأشهر، وزادت حرمتها وتأكّدت بشدة التحريم في شهر الله المحرم لأن أهل الجاهلية كانوا يغيِّرون فيه ويبدلونه؛ يحلونه عاماً ويحرِّمونه عاماً، يتلاعبون في الشهور والأيام حسب الأهواء إلى أن جاء الإسلام فعظّم هذه الأشهر وأكّد حرمتها امتحاناً وابتلاءً.

تسميته وإضافته لله تعالى:

قال أهل العلم: وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله، وإضافتُه إلى الله تدل على شرفه وفضله، فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصّ مخلوقاته، كما نسب محمدًا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم إلى عبوديته، ونسب إليه بيته وناقته، ولما كان هذا الشهر مختصًّا بإضافته إلى الله تعالى، وكان الصيام من بين الأعمال مضافًا إلى الله تعالى، فإنه له من بين الأعمال ناسَبَ أن يُختصَّ هذا الشهر المضاف إلى الله بالعمل المضاف إليه المختص به وهو الصيام. وقد قيل في معنى إضافة هذا الشهر إلى الله عز وجل: إنه إشارة إلى أن تحريمه إلى الله عز وجل ليس لأحدٍ تبديلُه، كما كانت الجاهلية يُحلّونه ويُحرّمون مكانه صَفَر، فأشار إلى شهر الله الذي حرَّمه فليس لأحدٍ من خلقه تبديل ذلك وتغييره:

شهرُ الحرام مباركٌ ميمونُ *** والصوم فيه مضاعفٌ مسنون
وثوابُ صائمهِ لوجه إِلــــَـهِهِ *** في الخُلدِ عند مليكهِ مخزُونُ.
(لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: صـ٩١).

قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفَضْل الْعِرَاقِيّ فِي شَرْح التِّرْمِذِيّ: مَا الْحِكْمَة فِي تَسْمِيَة الْمُحَرَّم شَهْر اللَّه وَالشُّهُور كُلّهَا لِلَّهِ؟!

يَحْتَمِل أَنْ يُقَال: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَشْهُر الْحُرُم الَّتِي حَرَّمَ اللَّه فِيهَا الْقِتَال، وَكَانَ أَوَّل شُهُور السَّنَة أُضِيفَ إِلَيْهِ إِضَافَة تَخْصِيص وَلَمْ يَصِحّ إِضَافَة شَهْر مِنْ الشُّهُور إِلَى اللَّه تَعَالَى عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا شَهْر اللَّه الْمُحَرَّم. اهـ(شرح سنن النسائي للإمام السيوطي: صـ١٤٤ - ١٤٥ جـ٣، ط دار الكتب العلمية).

فضل الصيام في شهر الله المحرم:

ورد في الصحيح أن أَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الفريضة، الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ، صِيَامُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ

فإن قيل إن الإكثار ورد على صيام شهر شعبان قلنا: قال الإمامُ النوويُّ رحمه الله تعالى في ذلك: لَعَلَّهُ إِنَّمَا عَلِمَ فَضْلَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ أو لَعَلَّهُ كَانَ يَعْرِضُ فِيهِ أَعْذَارٌ مِنْ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا.(شرح صحيح مسلم للإمام النووى رحمهم الله تعالى: جـ٨ صـ٥٥، ط المصرية للأزهر).

وقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا كَانَ صَوْم الْمحرم أفضل الصّيام من أجل أَنه أول السّنة المستأنفة فَكَانَ استفتاحها بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ أفضل الْأَعْمَال.. (المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس أحمد بن عمر بن إبراهيم القرطبي: صـ٢٣٥ جـ٣، دار ابن كثير، والكلم الطيب).

بل إن الصيام في شهر الله المحرّم سببٌ ظاهر في التوبة على العباد، وطريقٌ لاستجلاب الرضى من رب الأرباب، وهو مسلكُ الأنبياء والعبّاد والزهّاد، فعَنْ سيدنا ‏عَلِيٍّ رضي الله عنه أنه سَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ:أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ لَهُ: مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَسْأَلُ عَنْ هَذَا، إِلَّا رَجُلًا سَمِعْتُهُ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا قَاعِدٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ شَهْرٍ تَأْمُرُنِي أَنْ أَصُومَ بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ؟ قَالَ:

إِنْ كُنْتَ صَائِمًا بَعْدَ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصُمُ المُحَرَّمَ، فَإِنَّهُ شَهْرُ اللَّهِ، فِيهِ يَوْمٌ تَابَ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ، وَيَتُوبُ فِيهِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ. (أخرجهُ الترمذي في سننه: ٧٤١، وعبدُ اللهِ بن الإمامِ أحمدَ في "المسند" للإمام أحمد رحمه الله تعالى: ١٣٢٢).

قال أهل العلم في هذا حث للناس على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء، وترجية لقبول التوبة، فمن تاب فيه إلى الله عز وجل من ذنوبه تاب الله عليه كما تاب فيه على من قبلهم.(لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: صـ١٤٠)

فضل صيام عاشوراء في شهر الله المحرم:

مما سبق تبين لنا فضله وفضل الصيام فيه بشكل عام لكنْ لبعض أيامه خصوصية أظهرُ في فضيلة الصيام وسبب التوبة والنجاة، وليوم عاشوراء فضيلة عظيمة وحرمة قديمة، فقد كان نوح وموسى عليهما السلام يصومونه لفضله وكان أهل الكتاب يصومونه، بل حتى قريش كانت تصومه في الجاهلية،(لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي: صـ١٢٣).

وقد وردت الأحاديث الشريفة والأحوال الجليلة في فضل عاشوراء وصيامه، منها:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ. (أخرجه مسلم: ١١٦٢).

الحكمة من صيام عاشوراء:

والحكمة من صيامه، أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى عليه السلام وقومه من فرعون وجنوده، فصامه موسى شكراً لله تعالى، وصامه حبيبنا صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ فَرَأَى اليَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟»، قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى، قَالَ:

فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ»، فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. (متفق عليه).

وقد ورد في أحاديث أخرى تدل على صيام تاسوعاء معه والحكمة في ذلك ما قاله النووي رحمه الله نقلاً عن العلماء أن في ذلك وجوهاً:
أَحَدُهَا:أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مُخَالَفَةُ الْيَهُودِ فِي اقْتِصَارِهِمْ عَلَى الْعَاشِرِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما..
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ وَصْلُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِصَوْمٍ، كَمَا نَهَى أَنْ يُصَامَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَحْدَهُ.
الثَّالِثَ:الاحْتِيَاطُ فِي صَوْمِ الْعَاشِرِ خَشْيَةَ نَقْصِ الْهِلالِ، وَوُقُوعِ غَلَطٍ فَيَكُونُ التَّاسِعُ فِي الْعَدَدِ هُوَ الْعَاشِرُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ. انتهى(المجموع شرح المهذب: صـ٤٧٦ جـ٧، ط دار الكتب العلمية).

أحوال الصيام ليوم عاشوراء:

لصيام هذا اليوم أحوالٌ دلّت عليها أقوالُ النبي صلى الله عليه وسلم وبيّنها العلماء من ذلك:
أولاً:صيام اليوم التاسع واليوم العاشر؛ لـِحديث أبي قتادة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيام يوم عاشوراء:

أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله. (صحيح مسلم: ١١٦٢).

ولـِحديث ابن عباس عند مسلم أيضاً:

لئن بقيتُ إلى قابل لأصُومنّ التاسع والعاشر. (صحيح مسلم: ١١٣٤).

ثانياً:صيام اليوم التاسع والعاشر والحادي عشروهذا أكمل الأحوال وأضمن في تحري اليوم؛ لـِحديث ابن عباس مرفوعاً:

صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمًا أَوْ بَعْدَهُ يَوْمًا. (رواه الإمام أحمد وابن خزيمة).

ثالثاً:إفراد العاشر بالصيام؛ لحديث أبي قتادة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ. (أخرجه مسلم: ١١٦٢) .

وحديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ

مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا اليَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَهَذَا الشَّهْرَ يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ. (صحيح البخاري: ٢٠٠٦) ، (هذه الأحوال مقتبسة بتصرف من لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي).

فما أجمل أن يكون المسلمُ مراعياً هذه الفضائل آخذاً بهذه الأحاديث، مطبّقاً لها في أوقاته، مغتنماً فيها أيام عمره وساعات حياته، ليظفرَ بما رتّبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على هذه الأعمال من العطايا والجوائز، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم جميعاً لذلك.

تنبيه هام:لا شكّ أنّ قتلةَ سيدنا الحسين رضي الله عنه ظلمةٌ، مجرمون وأناسٌ جائرون اعتدوْا على أهل البيت واستحقوا فيه غضب الله أيّاً كانوا هم، ونحن أهل السنة والجماعة نحزن حزْنًا شديدًا لهذه الذكرى الأليمة ولكننا نصبر على هذه الفاجعة العظيمة، وفي الشرع الحنيف لا يجوز الحداد على الميت فوق ثلاثة أيام إلا للزوجة على زوجها كما ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فَإِنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. (أخرجه البخاري في صحيحه: ١٢٨٠).

ونرى هذه الحادثة مأساةً عظيمةً ألَمّتْ بأهل البيت الذين تركهم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيةً معلومة في نصرتهم ومحبتهم والولاء لهم رضي الله عنهم جميعاً، فنسأل الله أن يلحقنا بأهل البيت مع المحبة والرضى والقبول، ونعوذ بالله من مبغضيهم وأعدائهم..

تعليقات (1)



رمز الحماية