قلبه يميل إلى الإظهار لولا ملاحظته لأعين الخلق ومراءاتهم فليحذر العبد خدع النفس فإن النفس خدوع والشيطان مترصد وحب الجاه على القلب غالب، وقلما تسلم الأعمال الظاهرة عن الآفات فلا ينبغي أن يعدل بالسلامة شيئا والسلامة في الإخفاء وفي الإظهار من الأخطار ما لا يقوى عليه أمثالنا، فالحذر من الإظهار أولى بنا وبجميع الضعفاء.
القسم الثاني: أن يتحدث بما فعله بعد الفراغ، وحكمه حكم إظهار العمل نفسه والخطر في هذا أشدّ لأن مؤنة النطق خفيفة على اللسان، وقد تجري في الحكاية زيادة ومبالغة وللنفس لذة في إظهار الدعاوي عظيمة، إلا أنه لو تطرق إليه الرياء لم يؤثر في إفساد العبادة الماضية بعد الفراغ منها فهو من هذا الوجه أهون، والحكم فيه أن من قوي قلبه وتم إخلاصه وصغر الناس في عينه واستوى عنده مدحهم وذمهم، وذكر ذلك عند من يرجو الاقتداء به والرغبة في الخير بسببه فهو جائز بل هو مندوب إليه إن صفت النية وسلمت عن جميع الآفات لأنه ترغيب في الخير والترغيب في الخير خير.
وقد نقل مثل ذلك عن جماعة من السلف الأقوياء قال سعد بن معاذ: ما صليت صلاة منذ أسلمت فحدثت نفسي بغيرها ولا تبعت جنازة فحدثت نفسي بغير ما هي قائلة وما هو مقول لها وما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول قولا قط إلا علمت أنه حق.
وقال عمر رضي الله عنه: ما أبالي أصبحت على عسر أو يسر لأني لا أدري أيهما خير لي. وقال ابن مسعود: ما أصبحت على حال فتمنيت أن أكون على غيرها وقال عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال شداد بن أوس: ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت حتى أزمها وأخطمها[1] غير هذه، وكان قد قال لغلامه: ائتنا بالسُّفْرَةِ[2] لنعبث[3] بها حتى ندرك الغداء، وقال أبو سفيان لأهله حين حضره الموت: لا تبكوا عليّ فإني ما أحدثت ذنباً منذ أسلمت، وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: ما قضى الله في بقضاء قط فسرني أن يكون قضى لي بغيره وما أصبح لي هوى إلا في مواقع قدر الله.
فهذا كله إظهار لأحوال شريفة وفيها غاية المراآة إذا صدرت ممن يرائي بها وفيها غاية الترغيب إذا صدرت ممن يقتدى به فذلك على قصد الاقتداء جائز للأقوياء بالشروط التي ذكرناها فلا ينبغي أن يسد باب إظهار الأعمال والطباع مجبولة على حب التشبه والاقتداء بل إظهار المرائي للعبادة إذا لم يعلم الناس أنه رياء فيه خير كثير للناس ولكنه شر للمرائي، فكم من مخلص كان سبب إخلاصه