فلسفة النجاح | الشيخ فارس


نشرت: يوم الإثنين،22-يونيو-2020

فلسفة النجاح

لا شك أن النفس البشرية مفطورة على حبّ الجمال والكمال، تميل له وتسعى إليه، مهما تنوّعت أفنان ذلك الجمال أو الكمال ومهما اختلفت صوره وأشكاله، وما ذاك إلا لسرّ لطيف يخفى دركه على كثيرين، وهو أن هذه الأرواح تميل بفطرتها لمحبة خالقها المتصف بالجمال والكمال، فما ميل النفس في الحقيقة إلى الكمال الحادث إلا ميل لمحدثه القديم وموجده الأزلي جل وعلا.

إن من أعظم هذه الكمالات التي تسعد الطبيعة البشرية بتحصيلها، وتسر النفس الإنسانية بنسبتها إليها، كمال النجاح، فما من عاملٍ يعمل إلا وهدف النجاح ماثل بين يديه، وما من طالبٍ يدرس إلا وغاية النجاح قائمة نصب عينيه، فترى كل واحد من هؤلاء يسلك السبل المختلفة، متنقّلا من باب إلى باب حتى يصل إلى الغاية التي ينشدها، فتسكن بذلك نفسه، وتهدأ سريرته، ويشعر بالإنجاز الذي يمكِّنه من استشعار قيمة وجوده في الحياة، فما معنى النجاح؟ وما هي مجالاته؟ ثم ما هي سبل تحصيله وإدراكه؟

النجاح في اللغة:

هو الظفر ونيل الغاية، يقال: نجح المرء إذا ظفر بغايته:

* يسمّى الإنسان ناجحًا إذا بلغ الغاية التي ينشدها، وظفر بالحاجة التي يطلبها.

* الطالب الذي يدرس طمعًا في دخول اختصاص معين في الجامعة، يسمّى ناجحًا إذا بلغ تلك الغاية بعد ظهور نتائج الامتحان.

* التاجر يسمّى ناجحًا إن حقّق ما يبتغيه من طلب المال.

* وكذلك طالب الآخرة يسمّى ناجحًا إذا ختم الله له بالحسنى وأناله حسن المآل.

فمن هذا نعلم أن النجاح وإن كان هو الظفر في تحصيل المطلوب، إلا أنه يتنوّع بتنوّع ذلك الأمر الذي يُطلَبُ تحصيله، وكما أن ألوان البشر وألستنهم تختلف فكذلك أهدافهم وغاياتهم تتنوّع وتختلف:

وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَٰفُ أَلۡسِنَتِكُمۡ وَأَلۡوَٰنِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّلۡعَٰلِمِينَ ٢٢

فمن شخص غايته تحصيل امرأة ومال، إلى آخر غايته الرقي في معراج القرب من الله سبحانه وتعالى ونيل الرضى والوصال، فما هي إِذَنْ أهمّ مجالات النجاح؟

مجالات النجاح:

إن الغايات والأهداف التي يسعى كل امرء لتحصيلها لا تخلو من أن تكون أهدافًا دنيويّة أو أخرويّة أو أهدافًا تجمع الأمرين في سلك واحد، فالنجاح في تحقيق الأهداف الدنيويّة هو النجاح الدنيويّ، والنجاح في تحصيل الآخرة دون الأولى يمكن أن نسمّيه بالنجاح الأخرويّ، أما الجمع بينهما فهو النجاح الحقيقيّ، فلنبيّن ذلك باختصار يكشف عن المعنى الستار.

النجاح الدنيويّ:

نماذج هذا النجاح وصوره كثيرة لا تحصى، غير أنها ترجع في مجملها إلى أصلين، لذات حسّيّة وأعلاها النكاح، ولذّات معنويّة وأعلاها العلم، ويلتحق بهما حبّ المال والجاه، فكم من شخصٍ قضى عمره في تحصيل اللذّات الحسّيّة، يتقلّب من حال إلى حال، مستزيدًا من تلك المتع والملذّات، كلّما حصل شيئًا من ذلك طلبت نفسه المزيد، كما قال عليه الصلاة والسلام:

منهومان لا يشبعان: منهوم في العلم لا يشبع منه، ومنهوم في الدنيا لا يشبع منها

فإن كانت همة الإنسان مقتصرة على تحصيل هذه اللذّات مع الغفلة عن الآخرة فليذكر قول الله تعالى:

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ ١٥ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٦

يقول الإمام الرازي رحمه الله: قوله:

"مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا"

يندرج فيه المؤمن والكافر والصديق والزنديق؛ لأن كل أحد يريد التمتّع بلذّات الدنيا وطيباتها والانتفاع بخيراتها وشهواتها، إلا أن آخر الآية يدلّ على أن المراد من هذا العام "الخاص" وهو الكافر؛ لأن قوله تعالى:

أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ لَيۡسَ لَهُمۡ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ إِلَّا ٱلنَّارُۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَٰطِلٞ مَّا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ ١٦

لا يليق إلا بالكفار، فصار تقدير الآية: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي: تكون إرادته مقصورة على حبّ الدنيا وزينتها ولم يكن طالبًا لسعادات الآخرة، كان حكمه كذا وكذا

إن الإنسان وإن نجح في تحصيل هذه الغاية الدنيويّة الحسّيّة، فإنه على الحقيقة خاسر؛ لأن هذا النجاح عارض زائل، سرعان ما يتبدّل ويزول بزوال الغاية التي حصلها والهدف الذي حققه.

لكل شيء إذا ما تم نقصان *** فلا يغر بطيب العيش إنسان

النجاح الأخروي:

أما من سمت نفسه عن الدنيا، وتعلّقت روحه بالآخرة فإنه لا يزال يسعى في تحصيلها، مشمرًا عن ساعد الجدّ في فعل ما يوصله لتلك الغاية، ولكن هناك عقبات لا يدركها إلا من صحب أهل الخبرة والإرشاد ممن قيل فيهم:

سلك الطريق وعادا *** ليخبر القوم بما استفادا

فكثير من الناس يلتفت إلى الآخرة غافلاً عن أداء ما عليه من الحقوق الدنيويّة، متجاهلاً أو غافلاً عن دوره الذي أنيط به كمسلم من عمارة الأرض ونشر الخير والهدى، فكم ترى من امرئ قصر في أداء حقوق أهله وإخوانه زاعمًا التفاني في طلب الآخرة، فهذا وإن كان على الحقيقة خيرًا من طالب الدنيا إلا أنه قاصر الهمة، قصير النظر، غافل عن فهم حقائق السنة النبويّة الشريفة، ومن مشهور السنة أن رسول الله ﷺ:

آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما، قال: فجاء سلمان رضي الله تعالى عنه يزور أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه، فإذا سيدتنا أم الدرداء رضي الله تعالى عنها متبذلة قال: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك يقوم الليل ويصوم النهار، وليس له حاجة في نساء الدنيا، فجاء أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه فرحب به سلمان رضي الله تعالى عنه وقرب إليه طعامًا، فقال له سلمان رضي الله تعالى عنه: اطعم.
فقال: إني صائم، فقال: أقسمت عليك لتفطرنه. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه، ثم بات عنده، حتى إذا كان الليل أراد أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن يقوم فمنعه سلمان رضي الله تعالى عنه، وقال له: إن لجسدك عليك حقا، ولربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، صم وأفطر، وصلّ ونم، وائت أهلك، وأعط كل ذي حق حقه.
فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، فقاما فتوضّأ ثم ركعا ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه؛ ليخبر رسول الله ﷺ بالذي أمره سلمان رضي الله تعالى عنه، فقال له رسول الله ﷺ: "يا أبا الدرداء رضي الله تعالى عنه! إن لجسدك عليك حقًّا...". مثل ما قال سلمان رضي الله تعالى عنه

النجاح الحقيقي:

إن النجاح الحقيقي هو النجاح المتوازن ، المبني على رؤية كلية شاملة، قد رسم معالمها الحديث النبوي الشريف عندما قال رسول الله ﷺ:

فأعط كل ذي حق حقه

وهذا مصداق لقوله سبحانه وتعالى:

وَٱبۡتَغِ فِيمَآ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡأٓخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡيَاۖ

فالنجاح الحقيقي: هو أن تكون ناجحًا في دنياك، قائمًا بواجب عمارة الأرض ونشر الخير، واضعًا نصب عينيك الغاية العظمى والهدف الأسمى، ألا وهو مرضاة الله سبحانه وتعالى.

الأدوات والأسباب اللازمة لتحقيق النجاح

إن تحقيق الأهداف، والنجاح في المساعي لا يكون بالأمانيّ، إنما له سُبُل ينبغي أن تسلك، وأدوات ينبغي أن تحصل، فما هي هذه الأدوات التي يحتاجها الإنسان في تحصيل مراده كي يكون ناجحًا؟

1- علو الهمة:

إن علو الهمة هو من أهمّ العناصر التي يجب أن يمتلكها من يسعى للنجاح، سواء كان النجاح المطلوب دنيويّا أو أخرويّا، وكلما علت همة المرء علت غايته، وأعلى الغايات الفوز برضى رب البريات جل وعلا.

فكن رجلاً رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا

وأعلى الناس همةً وأكملهم نفسًا وأعلاهم شرفًا هو سيدنا ومولانا رسول الله ﷺ.

كالبدر في شرف والزهر في ترف *** والبحر في كرم والدهر في هِمَم

فعلو الهمة من علامة كمال العقل ونقصها بنقصه، والراضي بالدون دني.

ولم أر في عيوب الناس عيبًا *** كنقص القادرين على التمام

2- وجود الدافع:

وجود الدافع لتحصيل المطلوب من الأسباب المهمة في النجاح، وحصول الدافع لا يكون إلا بتمام تصوّر الغاية التي يطلبها من يسعى للنجاح، فالذي يسعى للغنى فإنه يتصوّر ما يمكن أن يحصله من لذّات ما لو تحصل عنده من المال ما يرنو إليه، فتنقدح من ذلك التصور شرارة الدافع في فؤاده، وذلك يحدو به للجد والعمل.

3- المواظبة والإصرار:

وهي كذلك من أهمّ ما يطلب، فمن لم يكن مواظبًا ومُصِرًّا على تحقيق مبتغاه قضى عمره متقلّبًا، لا يتم له مقصد، ولا ينجح في تحقيق غاية.

ومشتت العزمات يقضي عمره *** حيران لا ظفر ولا إخفاق

فمن طلب الدنيا من غير إصرار ولا ثبات لم ينجح مطلبه، ولم يثمر سعيه، ومن طلب الله سبحانه وتعالى وجب عليه جمع القلب والخاطر، والإصرار على بلوغ المراد، سائلاً العون والتوفيق من رب العباد.

أخلق بذي اللب أن يحظى بحاجته *** ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

هذا الخلق "خلق المواظبة والإصرار" وهو إرشاد نبويّ شريف، فكما جاء في الحديث عن سيدتنا أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله ﷺ قال:

إن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل

الخلاصة:

إن النجاح كمال مرغوب وأمر محمود، كما أن الكسل والفشل أمران مذمومان مقبوحان، ولكن أعلى أنواع النجاح وأسماه:

هو النجاح الذي يكون متّصلاً دائمًا، ولا يتبدّل بتبدّل الدنيا، ولا يزول بزوالها، وكلما علت همة المرء شرفت غايته.

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا غايتنا رضاه، وأن يوفّقنا للنجاح في الدنيا وأن يكون ذلك النجاح سببًا للنجاح الحقيقيّ، ألا وهو الفوز برضاه جل في علاه، وأن يرزقنا مرافقة حبيبه المصطفى ﷺ من غير شدّة ولا ابتلاء.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية