الإسراء والمعراج | الشيخ أيمن ياسر بكار


نشرت: يوم الخميس،20-يناير-2022

الإسراء والمعراج

إنّ الإسراء والمعراج حادثة عظيمة، تجلت فيها منزلة سيدنا النبي ﷺ الكريمة، فسيدنا ﷺ أكرم الخلق على الله، وأقربُهم منه منزلةً وأعظمهم عنده مكانةً، قد اصطفاه سبحانه نبيًّا، واجتباه رسولًا، واتّخذه حبيبًا، والحقّ أنّه لا يعرف قدر محمّد ﷺ أحدٌ إلا الله سبحانه وتعالى، فكان سيّدنا النّبيّ ﷺ بهذه الخصوصيّة أعبدَ الخلق لله، والمتحقّق بما يحبّه ربّه ويرضاه، وهي منزلة لا تكون لأحد سواه، وحادثة (الإسراء والمعراج) قد تضمّنتْ دلالات كثيرة، سنشير لبعضها في هذا المقال...

لمحة مختصرة عن المعجزة:

تعريف المعجزة: والمعجزة هي أمرٌ خارق للحكم العادي، مقرونٌ بالتحدّي، مع عدم المعارضة.

والمقصود بخارق للحكم العادي أي: ليس على وفق عادة وسنن الكون، ومقرون بالتحدّي أي: أنّ المعجزة تظهر على يد مدّعٍ للنّبوّة، والمقصود بعدم المعارضة: ألا يقدر أحدٌ غيره على فعل مثلها بلا واسطة، فالإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى معجزةٌ؛ لأنّه حدث بلا واسطة المادّة وقوانينها، والانتقال اليوم من مكّة إلى القدس بالطائرة ليس بمعجزة؛ لأنه بواسطة مادّيّة وفق قوانين العلم والعادة في الكون.

والحكم له تعريف ومصادر يُستند إليها، ويُستمدّ منها، وإليك بيانها.

الحكم:

تعريفه: هو نسبة أمرٍ إلى أمرٍ آخرَ إيجابًا أو سلبًا.

وأما مصادره فهي: الشرع، أو العادة، أو العقل.

فالحكم الشرعيّ:

تعريفه: هو الحكم المأخوذ من الشرع، مثل الصّلوات الخمس واجبة، فهُنا يَنسب الشرع الوُجوب للصّلوات الخمس، وكالأغاني حرامٌ، وصلاة الضُّحى مندوبة، والصلاة بغير وضوء لا تجزء، وفي كلٍّ منها ينسب الشرع أمرًا لآخرَ، أو ينفي أمر عن آخر، فينتج لدينا أحكام (هذا يجوز، وهذا لا يجوز، وافعل هذا، واترك هذا) مصدرها الشرع.

والحكم العقليّ:

تعريفه: وهو الّذي يكون مصدره العقل، وله ثلاثة أقسام: الوجوب، والاستحالة، والممكن،

فمثلًا: وجود شيءٍ واحدٍ في مكانَيْن في نفس الوقت، هذا مستحيل، ولا يقبل العقل بوجوده، بينما أنْ يكون للفعل فاعلٌ فهذا أمر واجب، ولا يقبل العقل بعَدَمه، وهذان الأمران غير قابلين للتجربة والتكرار، فالعقل يحكم بهما بدايةً، وهناك أمور أخرى ليستْ بواجب أو مستحيل عقلًا، بل هي أمور من قسم الممكن العقليّ، مثلًا: نحن خُلقْنا على كوكب الأرض، ونتنفّس الأوكسجين، هكذا وجدْنا الأمرَ، وكان من الممكن أن نخلق على كوكب الْمِرِّيخ، وأن نتنفّس الكربون ونختنق بالأوكسجين، كلّ هذا ممكن، من الناحية العقليّة، وإن كانتْ هذه أفكار غريبة ومخالفة للمألوف، ولكنّها ممكنة لا يرفضها العقل كما حصل في الواجب والمستحيل، وتسمّى بـ"الممكنات"، والإسراء والمعراج من الممكن العقليّ، هو أمر جائز الحدوث، إذا توفّرت القدرةُ على فعله، والله سبحانه قادرٌ على كلّ شيء.

الحكم العاديّ:

تعريفه: وهو الحكم المأخوذ من قوانين الطبيعة والعادة الّتي تسير عليها، مثلًا: المعادن تتمدّد بالحرارة، وجدْنا أنّ المعادن تتمدّد بالحرارة، وكلّما كرّرنا التجربة كانتْ نفس النتيجة، فكان الحكم أنّ المعادن تتمدّد بالحرارة، ولو أراد خالق الكون سبحانه أن يجعل المعادن تتقلّص كلّما تعرّضت للحرارة لكان كما أراد، والعقل لا يرفض هذا الأمر، بل يتقبله كما تقبل الحالة الأولى، وكذا الماء يغلي في درجة ١٠٠، والشمس تطلع من الشرق، وهكذا سائر قوانين العلوم على اختلافها وأنواعها، ولو أراد سبحانه أن يكون النظام على غير هذه الصورة لكان كما أراد سبحانه، فسبحان الذي بيده ملكوتُ كلّ شيء وهو على كل شيءٍ قدير، فالمعجزة هي أمر مخالفة للقوانين الطبيعية، وليست مخالفة للقوانين العقلية.

دلائل الإسراء والمعراج

أولا: فضل سيدنا النبي ﷺ:

ويظهر هذا من وفادة النبيّ ﷺ على الله سبحانه وتعالى، فبدأت الرحلة بمركوب خاص هو (البراق) برفقة جبريل سيد الملائكة عليهم السلام من مكة إلى بيت المقدس ، ليجد في استقباله جميع الأنبياء عليهم السلام، ليصلي بهم إمامًا، فهو إمامهم وسيدهم، ثم في معراجه من خلال تجاوزه السموات السبع حيث استقبلته ملائكة كلِّ سماء في غاية التكريم والتعظيم، وهم يقولون (مرحبًا به وأهلًا، حياه الله من أخٍ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة، ونعم المجيء جاء)، ثم الرفع إلى سدرة المنتهى حيث ينتهي إليها ما يعرج من الأرض وما يهبط من فوق، على كل ورقة منها مَلَكٌ، لا يستطيع أحد أن يصفها لشدة حسنها، ثم دخوله ﷺ الجنةَ، ورؤيته النَّار، ثمّ عروجه ﷺ حيث صريف الأقلام في تصريف الأقدار، ثم رؤيته لله سبحانه وتكليمه له بأنه اتخذه حبيبًا ﷺ، إنها أحداث عظيمة تدل على عظم صاحبها عند الله سبحانه، فسيدنا النبي ﷺ أفضل وأحبُّ الخلق إلى الله سبحانه

ثانيا: جعل الدنيا وفق أسباب:

نحن نعلم أن سيدنا النبي ﷺ أحب الخلق إلى الله، والله سبحانه قادر على كلّ شيء، ومع هذا نجد أن النبي ﷺ قد أوذي في الدعوة، فكذبوه وهاجموه وطعنوا به وحاولوا قتله، ولو أراد الله لجعلهم مؤمنين كما قال تعالى:

﴿وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَأٓمَنَ مَن فِي ٱلۡأَرۡضِ كُلُّهُمۡ جَمِيعًاۚ﴾

أو لأمسك ألسنتهم وجوارحهم عن أيّ إساءة ولكن لم يفعل سبحانه وتعالى، لأنه جلَّ وعلا جعل حركة الدنيا وفق نظام وأسباب، وأن الدعوة إليه سبحانه تحتاج إلى بذل جهد وتحمل عناء وطول صبر، وأنّ الغاية العظيمة والأهداف النبيلة لا يتوصل إليها بالتمنّي، بل هذه الدار دار عمل وجد وحركة، لا دار قرار ونعيم وتلذّذ.

ثالثا: مظهر للرحمة المحمّدية:

جاء تكريم الإسراء والمعراج للحبيب ﷺ بعد حادثة الطائف، حيث كان ﷺ يسعى بجد واجتهاد في دعوة الناس وهدايتهم، فقوبل بالصد والاستهزاء وأوذي حتى سال الدم من قدميه الشريفتين، فانطلق مهموماً على وجهه ﷺ فَنَظَرَ ﷺ إلى سحابة

فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني فقال: إنّ اللَّه تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردّوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمرَه بما شئتَ فيهم، فناداني ملكُ الجبال فسلّم عليَّ، ثمّ قال: يا محمّد ﷺ، فقال: ذلك فيما شئتَ، إن شئتَ أن أطبق عليهم الأخشبَيْنِ، فقال النّبيّ ﷺ: (بَلْ أرْجُو أنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصْلابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُ به شيئًا)

فسبحان من خلق حبيبه محمد ﷺ رحمة للعالمين.

رابعا: الغاية من الخلق عبادة الله:

قال تعالى:

﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ ٥٦﴾

وقد تجلت بتمامها وكماله في رسول الله ﷺ، كما قال سبحانه:

﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِ﴾

وقال سبحانه:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤﴾

وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها:

(كان خُلُقُه ﷺ القرآن).

فظهر لنا من ثناء الله تعالى عليه، وسيرته ﷺ أنه هو المتحقق الأوحد بكامل العبودية لله كما يحب الله ويرضاه، فقرن سبحانه اسم عبده مع اسمه في أعز وأعظم كلمة ألا وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فلا معبود بحق إلا الله ولا عابد بحق إلا محمد رسول الله، وبهذا المعنى يكون ﷺ هو غاية الخلق ودرته.

خامسا: طريق العبودية:

علمْنا أن النبي ﷺ صلّى إمامًا بالأنبياء، فكان هو سيدهم وأعبدهم لله، وأمر الله سبحانه نبيه بالصلوات الخمس في ليلة قال فيها

﴿سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِ لَيْلًا﴾

وكأن بوابة العبودية، والسير في طريق الأفضلية هو بالتزام وكثرة الصلاة، وكان سيدنا النبي ﷺ يشكر الله تعالى على ما أولاه، فيصلي تطوعًا في الليل حتى تتورم قدماه، فدل على أهمية الصلاة فرضاً وتطوعاً، وأنها أساس الصراط المستقيم، والمعراج إلى رضا رب العالمين، ولهذا قال ﷺ :

(إنّ أوّل ما يُحاسب به العبدُ يوم القيامة من عمله صلاتُه فإن صلحتْ فقد أفلح وأنجح وإن فسدتْ فقد خاب وخسر)

فالصلاة الصلاة يا عباد الله، لا تفرطوا فيها ولا تتكاسلوا عنها، وعودوا أنفسكم وأولادكم على أدائها في وقتها، وليكن لأحدنا نصيبٌ من النوافل والتطوع.

وآيات الإسراء والمعراج عظيمة جليلة، أشار إليه ربنا بإراءة نبيه لبعضها:

﴿لِنُرِيَهُۥمِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ ١﴾

ودلائلُها وفوائدُها كثيرة، فحريٌ بالمسلمين أن يتوقفوا عند هذه المناسبة، اعتناء واحتفاء واسترشادًا.

ولهذا فإن مركزنا –مركز الدعوة الإسلامية العزيز على قلب كل مؤمن-، يولي هذه المناسبة اهتمامًا كبيرًا، فيجمع المحبين، ليتذاكروا هذه الحدث المبين لأهل الصدق والمخبتين، فتنشد القصائد والمدائح، وتلقى الكلمات والنصائح، فتتفاعل القلوب والجوارح، تعظيمًا لله تعالى، وتعظيمًا لعبده ورسوله ﷺ، وتعظيمًا للصدق والتصديق بكل ما جاء به سيدنا النبي ﷺ، وتعظيمًا لفريضة الصلاة والمحافظة عليها، وتعظيمًا للغاية التي أوجدنا الله لأجلها ألا وهي العبودية، التي لا تكون إلا باتباع سيد المرسلين ﷺ.

للاطلاع على مثل هذه المقالات المفيدة ليس عليك إلا زيارة هذا الموقع

تعليقات



رمز الحماية