رجل لا ينساه التاريخ | أبو سفيان محمد راشد المدني


نشرت: يوم السبت،30-مارس-2024

رجل لا ينساه التاريخ

بوصيري العصر، صاحب القلم السّيّال، والسّحر الحلال، الفائز بالشّرف المؤبّد، والأجر الّذي لا ينفد، الأديب الشّاعر المفلق، العلّامة المتقن الورع، الحجّة التّقي، المحبّ الصّادق، المتفاني في حبّ رسول الله ﷺ، المكثر من مدائحه؛ تأليفًا ونقلاً ورواية وإنشاءً وتدوينًا أعني: أبا المحاسن يوسف بن إسماعيل النّبهانيّ رحمه الله تعالى. اخترنا ترجمته بمناسبة ذكرى وفاته في شهر رمضان.

اسمه ونسبه:

أبو الفتوح وأبو المحاسن يوسف بن إسماعيل بن يوسف إسماعيل بن محمّد بن ناصر الدّين النّبهاني.

ولادته في الأسرة الزاهدة:

ولد من عائلة علمية زاهدة مباركة، والتقى بين يدي والده الصالح في تلك البيئة النقية الطاهرة، وكان والده شيخًا معمّرا بلغ الثمانين، ومرآة للقدوة الصالحة، وكان من زهّاد عصره، وكان يختم كل ثلاثة أيام ختمة، مع محافظةٍ على ضروب الطاعات، واستغراق الأوقات في القربات، حتى كان يقول الإمام النبهاني رحمه الله تعالى في شأن أبيه:

كامل الحواس قوي البنية جيد الصحة، مستغرق أكثر أوقاته في طاعة الله تعالى، كان ورده في كل يوم وليلة ثلث القرآن، ثم صار يختم في كل أسبوع ثلاث ختمات، والحمد لله على ذلك، "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون". (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار: صـ 1613-1616)

نسبته "النَّبْهَانِيّ":

قيل له "النبهاني" نسبةً لبني نبهان، هم قوم من عرب البادية، نزلوا بقرية (إجزم) وهي قرية واقعة في الجانب الشمالي من أرض فلسطين؛ تابعة لقضاء (حيفا) من أعمال (عكا)، ولد في القرية المذكورة سنة 1265 هـ تقريبًا.
(الأعلام الشرقية في المائة الرابعة عشرة الهجرية لزكي محمد مجاهد: صـ 600 - 603) (شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق: صـ 3، تحت ترجمة المؤلف لنفسه)

نشأته وأسفاره العلمية:

حفظ القران على والده، ولَمَّا أتمّ حفظ القران الكريم حفظ بعض المتون.. ثم أرسله والده إلى مصر -وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة- فالتحق بالأزهر الشريف في غرّة محرم الحرام سنة (1283 هـ)، وجاور في رواق الشوام، ودأب على الدرس والتحصيل.

ثم بدا له أن يسافر من مصر ليساهم في خدمة الإسلام، وقد علا كعبه، وبزغ نجمه ورسخ في علمي المعقول والمنقول في أسلوب عال، يخاله الناظر فيه سهلا وهو بعيد المنال.. فرجع في رجب سنة (1289 هـ)، وأقام في مدينة عكا ينشر العلم، فأفاد المسلمين، وأعلى منار الدين.

ثم في سنة (1292 هـ) رحل إلى الشام واجتمع على جماعة من العلماء، وجال في بلاد الشرق العربي ثم دخل الأستانة، والموصل، وحلب، وديار بكر، وشَهْرَزُوْر، وبغداد، وسامرّا، وبيت المقدس، والحجاز.

أساتذته وشيوخه:

الإمام النبهاني رحمه الله تعالى تلقّى العلم من كبار الأئمة وجهابذة علماء الأمة، وكان موفقا حسن الاختيار والاهتداء إلى الراسخين في العلم المحققين في المعقول والمنقول، الذين لا يشق لهم غبار، أمثال:

الشيخ إبراهيم السقا الشافعي (ت 1298 هـ).

والشيخ محمد الدمنهوري الشافعي (ت 1286 هـ).

والشيخ عبد الهادي نجا الأبياري الشافعي (ت 1305 هـ).

والشيخ محمد شمس الدين الأنبابي الشافعي (شيخ الجامع الأزهر).

والشيخ عبد القادر الرافعي الطرابلسي الحنفي (شيخ رواق الشوام).

والشيخ حسن العدوي المالكي (ت 1298 هـ).

والشيخ يوسف البرقاوي الحنبلي (شيخ رواق الحنابلة). رحمهم الله تعالى وجزاهم عن الأمة المحمدية أحسن الجزاء.

مناصبه:

تولّى العديد من الوظائف والمناصب غير التدريس، فقد تولّى نيابة القضاء في جنين سنة 1290 هـ/ 1873 م، ثم توجه إلى دار الخلافة العثمانية في الأستانة سنة 1293 هـ/ 1876 م وظل فيها مدة سنتين ونصف حيث عمل محرّرا في جريدة الجوائب.

ثم خرج منها إلى بلده، وعُيّن قاضيًا في ولاية الموصل في كوي سنجق من أمهات بلاد الأكراد لمدة خمسة أشهر، وفارقها سنة 1296 هـ/1879 م إلى الشام، ثم توجه إلى دار الخلافة في الأستانة سنة 1297 هـ/ 1880 م وأقام بها نحو عامين، وفيها ألف كتابه «الشرف المؤبد لآل محمد» وخرج منها رئيسًا لمحكمة الجزاء في اللاذقية التي جاءها سنة 1300 هـ/ 1883 م فأقام بها نحو خمسة أعوام.

تولّى بعد ذلك رئاسة محكمة الجزاء في القدس، التي التقى فيها بالشيخ حسن بن حلاوة الغزي الذي علمه الطريقة القادرية في التصوف، ولقنه بعض الأذكار والأوراد، وظل بها أقل من سنة، وتقلّد القضاء في ولايات الشام، حتى صار رئيسًا في محكمة الحقوق العليا ببيروت التي وصلها سنة 1305 هـ/ 1887 م، وبقي فيها ما يقرب من عشرين عامًا، حتى فصل سنة 1327 هـ/ 1909 م، وألف فيها سائر كتبه، وطبع أكثرها، وأقام بالمدينة المنورة مدة مجاورًا لرسول الله ﷺ، وظل بها حيث عاد بعدها إلى بلاد الشام بينما حجّ عام 1310 هـ.
(حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار: صـ 1613-1616) (معجم المطبوعات: 1838 - 1842) (الأعلام للزركلي: 8/218، ملخصا وبتصرف).

مصنفاته ومؤلفاته:

قد عظم ذكر العلامة النبهاني رحمه الله تعالى بما صنّف وقد نال شهرة واسعة بين الأوساط الدينية والأدبية، ومؤلفاته نافعة سارت بها الركبان وانتشرت في سائر البلدان، أما مصنفاته فهي كثيرة جدًّا، حتى فاقت على الستين كتابًا في مختلف الفنون والعلوم خصوصًا في الجانب المحمدي الأعظم؛ فقد خدم السيرة المحمدية والجناب النبوي أرفع الخدمات ووقف حياته على ذلك، فنشر وكتب ما لم يتيسر لغيره في عصرنا هذا ولا عشر معشاره، ومن جملة آثار الدالة على علوه وفخاره هي تأليفاته الشريفة......، وذلك لإخلاصه رحمه الله تعالى..

فمن كتبه:

* قرة العين من البيضاوي والجلالين (منتخب من تفسيرهما)

* إتحاف المسلم بإتحاف الترهيب والترغيب من البخاري ومسلم

* تهذيب النفوس في ترتيب الدروس (وهو مختصر رياض الصالحين للنووي رحمه الله تعالى)

* أفضل الصلوات على سيد السادات

* (الأنوار المحمدية) اختصر به المواهب اللدنية للقسطلاني رحمه الله تعالى

* تنبيه الأفكار لحكمة إقبال الدنيا على الكفار

* جامع كرامات الأولياء

* جواهر البحار في فضائل النبي المختار

* حجة الله على العالمين في معجزات سيد المرسلين

* سعادة الدارين في الصلاة على سيد الكونين

* الشرف المؤبد لآل محمد

* شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق

* العقود اللؤلؤية في المدائح المحمدية

* القصيدة الرائية الصغرى والقصيدة الرائية الكبرى

* المجموعة النبهانية في المدائح النبوية (مقدمة شواهد الحق: صـ 3 – 7)

إجازاته في العلوم والسلوك:

في سنة (1292 هـ) رحل إلى الشام واجتمع على جماعة من العلماء؛ من أجلهم الإمام الفقيه المحدث البارع مفتي الشام السيد محمود أفندي الحمزاوي، فأجازه بإجازة مطولة بجميع مروياته بعد أن قرأ عليه في منزله بحضور جملة من طلبة العلم الشريف.

وهكذا أجازه شيخ المشايخ وأستاذ الأساتذة إبراهيم السقا الشافعي بالأزهر رحمه الله تعالى بإجازة فائقة، وهي هذه ببعض حروفها:

أجزتُ ولدي المذكور بما تجوز لي روايته، أو تصحّ عنّي درايته، من كل حديث وأثر، ومن فروع وأصول، ومنقول ومعقول، وفنون اللطائف والعبر، كما أخذتُه عن الأفاضل السادة، الأكابر القادة، مسددي العزائم في استخراج الدرر، ... رحم الله الجميع ولي وللمجاز ولهم أكرم وغفر، وهؤلاء وغيرهم يروون عن جم غفير، وجمع كثير ... فمسانيدهم مسانيدي فما أكرمها من نسبة وأبر، وقد سمع مني المجاز كتبًا عديدة، معتبرة مفيدة، كالتحرير والمنهج، وفّقه الله لمحاسن ما به أمر، آمين، بجاه طه الأمين، في 18 رجب سنة 1289 هـ.

وأخذ طرق العلوم والفنون كما أخذ طرق الصوفية عن عدة في الطريقة القادرية والطريقة الإدريسية والشاذلية والنقشبندية والرفاعية والطريقة الخلوتية وغيرها. (الأعلام الشرقية للزكي محمد مجاهد: القسم السابع، طبقات الصوفية صـ 600)

تقريظ نفيس على كتاب عظيم "الدولة المكية بالمادة الغيبية"

كان العلامة النبهاني معاصرًا للإمام أحمد رضا خان الحنفي الهندي رحمه الله تعالى، ولكن لم يثبت اللقاء بينهما، إلا أنه قرَّظ تقريظًا جليلاً على كتاب الإمام الهندي رحمه الله تعالى الشهير "الدولة المكية بالمادّة الغيبية" والذي هو فريد في مضمونه ولا نظير له في بابه، وهو يحتوي على تحقيق أنيق وتفصيل دقيق في مسألة علم النبي ﷺ بالغيب، حيث رقم الإمام النبهاني بأن هذا الكتاب "من أنفع الكتب الدينية وأصدقها لهجة وأقواها حجة ولا يصدر مثله إلا عن إمام كبير علامة نحرير فرضي الله عن مؤلّفه وأرضاه وبلغه من كل خير مناه". (رفع الريب عما نال المصطفى من علم الغيب: صـ 138)

مكانته عند العلماء:

قال البيطار صاحب حلية البشر: صاحب الرماح الخطية والأقلام الفصاح، فلعمرى لقد أصبح في الفضل وحيدًا، ولم تجد عنه النباهة محيصًا ولا محيدًا، وناهيك بمحاسن قلدها، ومناقب أثبتها وخلدها، إذا تليت في المجامع، اهتزت لها الأعطاف وتشنفت المسامع. (حلية البشر في تاريخ القرن الثالث عشر لعبد الرزاق البيطار: صـ 1613-1616)

وفاته:

أقام العلامة النبهاني في المدينة المنورة مدة طويلة، ثم قدم إلى بيروت في آخر أيام حياته، حيث توفي بها في أوائل شهر رمضان الكريم سنة 1350 هـ الموافق 1932 م عن عمر يناهز الخمس والثمانين، (سبيل النجاة، ترجمة المؤلف، صـ ١٠)، وهو قوي البدن، تام الصحة، مستوف لقراءة أوراده، وما اعتاده من الطاعات وأعمال الخير، أجزل الله ثوابه، وألحقنا به على الإيمان الكامل في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، بفضله ورحمته.. (وسائل الوصول إلى شمائل الرسول: ص 13-17)

الأرض تحـيا إذا مـا عــاش عالـمها ***** متى يمت عالم فيها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حلّ بها ***** وإن أبى عــاد في أكـنافها التلف


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة
#مجلة_فصلية

تعليقات



رمز الحماية