قال: ثُمَّ مَرَرْتُ بها بعدَ مُدَّةٍ فإذا البابُ مُسَوَّدٌ والجميعُ مُبَدَّدٌ، وقد ظَهَرَ عليها كآبةُ الذُّلِّ والهوان وأَنشَدَ لسانُ الحال:
ذَهَبَتْ مَحاسِنُها وبانَ شُجُونُها وَالدَّهْرُ لا يُبْقِي مَكانًا سالِمًا
فَاسْتَبْدَلَتْ من أُنْسِها بِتَوَحُّشٍ ومن السُّرُورِ بِها عَزَاءً راغِمًا
قال: فسأَلْتُ عن خَبَرها فقيل لي: مات صاحبها فَآلَ أَمرُها إلى ما تَرَى فَقَرَعْتُ الباب الذي كان لا يُقْرَعُ فكَلَّمَتني جاريةٌ بكلامٍ ضَعيفٍ فقلتُ لها: يا جاريةُ ! أينَ بَهجَةُ هذا المكان وأين أنوارُه وأين شُمُوسُه وأَقْمارُه وأين قُصَّادُه وأين زُوَّارُه ؟ فبَكَتْ ثُمَّ قالت: يا شيخ ! كانوا فيه على سبيل العارية ثُمَّ نَقَلَتْهُم الأَقْدار إلى دار القَرارِ وهذه عادة الدنيا تُرَحِّلُ مَن سَكَنَ فيها وتُسِيءُ إلى مَن أَحسَنَ إليها فقُلتُ لها: يا جاريةُ! مَرَرْتُ بها في بعض الأَعْوامِ وفي هذا الرَّوشَنِ جاريةٌ تُغَنِّي:
ألا يا دارُ لا يَدْخُلكِ حُزْنٌ
فبَكَتْ وقالت: أنا والله تلك الجاريةُ ولم يَبقِ من أهلِ هذه الدّار أحدٌ غيري فَالوَيلُ لِمَن غَرَّتْهُ دُنياهُ([1]).