مدونات مختارة
الأكثر شهرة
خطورة الكلام أو الفتوى بغير علم | الشيخ طارق المحمد
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
هل تدري ما حاطبُ ليل؟!:
لنتأمل أيها الأحبة كلام السلف والأئمة الراسخين، وخوفهم من الكلام بغير علم ولا هدى ولا دليل..، ولْنقارن بين دعاة العلم في زماننا والجرأة على الفتوى بغير علم، والوعظ بغير هدى من الله أو بغير علم صحيح مسنود ولا مشهود..، يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في السير: عن ابن عيينة:
قال لي عبد الكريم الجوزي: يا أبا محمد، تدري ما حاطبُ ليل؟ قلت: لا. قال: هو الرجل يخرج في الليل، فيحتطب، فيضع يده على أفعى، فتقتله، هذا مثلٌ ضربته لك لطالب العلم، أنّه إذا حمل من العلم ما لا يُطيقه، قتله علُمه، كما قتلتْ الأفعى حاطبَ الليل. (سير أعلام النبلاء: ٥/٢٧٢)
خوف السلف من الكلام بغير علم:
وورد عن سيدنا عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، قال:
يا أيها الناس! من علم شيئاً فليقل به ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: الله أعلم: قال الله تعالى لنبيه: "قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ مِنۡ أَجۡرٖ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ". (سورة ص: ٨٦) ، (رواه البخاري في صحيحه: ٤٨٠٩)
أرجو أيها الأحبة أن ننتبه إلى حديث سيدنا ابن مسعود رضي الله عنه من فضلكم، فقوله رضي الله عنه أيها الناس فهو يشمل العلماء وغيرهم، وقوله: "من علم شيئًا" من أحكام الدين والشريعة فلا يخفيه لوخيم عذاب ستره وينشره بين الناس لعظيم ثوابه، وقوله: " وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ " فيجيب السائل الله أعلم كما قالت الملائكة: لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا. (البقرة: ٣٢)
وعلى المرء ألا يستحي في نفي العلم عن نفسه، لأن كلمة الله أعلم ذات سرٍ عجيب ولكن مع الأسف قد يحسبها البعض شعار الجهل فلا نكاد نسمعها منهم قط، وهي لا تصدر إلا من رجل متواضع عرف قدره وقدر خالقه سبحانه وتعالى فذلّ وتواضع لله سبحانه وتعالى ولم يسْتعْلِ عنها، كما ثبت أنّ سيدنا عليًّا كرم الله وجهه سُئِل وهو على المنبر؟ فقال لا أدري فقيل له كيف تقول لا أدري وقد طلعت على المنبر فقال إنّما طلعته بقدر العلم ولو طلعت بمقدار جهلي لبلغت السماء. (مرقاة المفاتيح لملا علي القاري: ١/٢٧٢، بتصرف يسير)
وبالاختصار نقول إن قوله رضي الله عنه يدلّ على أن من لا يعلم لا يتكلّف ما لا يعلم بل يتركه لمن يعلم أو يسأل عنه من يعلمه.
وقال ابن سيرين: "لأن يموت الرجل جاهلاً خيرٌ له من أن يقول ما لا يعلم". (الآداب الشرعية لابن مفلح: ٢/٦٥)
ومن هنا نعلم أيها القارئ الكريم شدة خوف السلف رحمهم الله تعالى من الإفتاء، حيث كثُر امتناعهم منه هيبة من الله جلَّ في علاه ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن مالكاً رحمه الله تعالى سُئل عن أربعين مسألة فأجاب عن أربعة: وقال في ست وثلاثين: لا أدري. ثم استدلّ بكلام ابن مسعود رضي الله عنه في الحديث السابق وما ذكره من امتناع التكلّف والتصنّع في الجواب المؤدّي إلى الإفتاء بالباطل بقوله: (قال الله تعالى لنبيه:) وهو أعلم الخلق: (قُلۡ مَآ أَسَۡٔلُكُمۡ عَلَيۡهِ): أي: على التبليغ (مِنۡ أَجۡرٖ): أي: آخذه منكم.. (وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُتَكَلِّفِينَ) : أي: من الذين يتصنّعون ويتحلّون بما ليسوا من أهله.. ومن ثَمَّ لما سُئِل الصدّيق رضي الله عنه عن الأُبِّ في: (وَفَٰكِهَةٗ وَأَبّٗا) قال: أيُّ سماء تظلني وأيُّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله ما لا علْم لي به. (مرقاة المفاتيح لملا علي القاري: ١/٤٨٠، بتصرف يسير)
المتشبّع بما لم يَنَلْ:
صح في الحديث كما هو عند الشيخان رحمهما الله تعالى عَن السيدة الطاهرة عائشةَ رضي الله عنها أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:
الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ. (متفق عليه)
قوله: المتشبع: أي المتشبّه بالشَّبعان وليس بذلك كالرجل يلبس الثياب المشْبهة لثياب الزهاد يوهم أنه منهم، ويظهر من التخشّع والتقشّف أكثر مما في قلبه، أو يتظاهر بالعلم وبزي العلماء وبكلامهم وغير ذلك.. (بتصرف من فتح الباري شرح صحيح البخاري: جـ١٠، صـ٢٧١)
قال ابن حجر العسقلاني والنووي رحمهما الله تعالى ما خلاصته من الفتح وشرح صحيح الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
قال العلماء: معناه المتكثِّرُ بما ليس عنده بأن يظهَرَ أن عنده ما ليس عنده، يتكثَّرُ بذلك عند الناس، ويتزيَّن بالباطل، فهو مذمومٌ كما يُذَمُّ مَن لبِسَ ثوبَي زُورٍ. انتهى. (شرح صحيح مسلم للنووي: ١٤/١١٠)
وقد أنشدَ أحمدُ بن يوسف صاحب أبي عبيد (كما في المجالسة للدينوري):
مَنْ تَحَلَّى بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ ... فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الامْتِحَانِ
وَالَّذِي يَدَّعِي الْبَلاغَ إِذَا ... كَانَ أَصِيلاً أَبَانَهُ بِاللِّسَانِ.
(المجالسة وجواهر العلم: ٦/١١٥)
قال الله تعالى:
وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا. (سورة الإسراء: الآية: ٣٦)
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات