الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى منارة للعلم والإرشاد | محمد إلياس السكندري


نشرت: يوم الخميس،12-أكتوبر-2023

الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى منارة للعلم والإرشاد

سئل الإمام الجنيد رحمه الله: مَا للمريدين فِي مجاراة الحكايات؟ فَقَالَ: الحكايات جند من جنود الله تَعَالَى، يقوّى بِهَا قلوب المريدين، فقيل لَهُ: فهل لَك فِي ذَلِكَ شاهد؟ فَقَالَ: نعم قَوْله عَزَّ وَجَلَّ:

وَكُلّٗا نَّقُصُّ عَلَيۡكَ مِنۡ أَنۢبَآءِ ٱلرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِۦ فُؤَادَكَۚ [هود: 120]، (الرسالة القشيرية: صـ ٢٣٨).

نجد أنفسنا في أشد الحاجة إلى قصص الأنبياء والمرسلين، وكذلك قصص الأولياء والصالحين الكاملين؛ لأن هذه القصص تُعزّز فينا الروحانية والإيمان، وتلهمنا التأسّي بتلك الشخصيات الرائعة التي تعبر عن أعلى قمم الإنسانية، وتُعزّز فينا القوة والإرادة لنكون أفضل نسخ لأنفسنا. تُثبِّت تلك القصص في قلوبنا الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى سيكون معنا ويدعمنا في مواجهة

التحديات، كما قال الله تعالى في محكم تنزيله:

فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُونَ [ الأعراف: ١٧٦]

نحن في هذ المقالة الصغيرة نسوق طرفًا من سيرة أحد العلماء الربّانين لنعيش لحظات إيمانية وذلك مع الإمام الربّاني الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى الذي كان بحرًا في العلوم والمعارف، كان رجلاً قويًّا متمكنًا من الرموز والأسرار، صاحب حجّة وبرهان، كساه الله تعالى هيبة ووقارًا، حقيقة نحن سنقف أمام شخصية علمية هامّة، وعبقرية نادرة، قلَّ أن تتكرر.

مهما تحدثنا عنه فإننا لن نستطيع أن نحيط بشخصيته العبقرية أو بعلمه الوفير وبآثاره، وقد اشتهر بالزهد والتقوى والورع وسعة العلم والسخاء والاستغناء عن الناس، وكان ممن جدوا واجتهدوا لنشر العلم والدين.

في هذه المقالة نسلط الضوء على جانب مميز من حياته المباركة، إنها الناحية التي رسم فيها صورة المعلّم الحكيم والمربّي الجليل الذي ترك أثره العميق في نفوس المؤمنين السائرين، وسيتمّ التركيز في هذه المقالة على منهجه في التعليم والتربية، بإذن الله تعالى.

نشأته وتعلميه:

لقد نشأ الشيخ رضي الله عنه في بيت العلم والمعرفة؛ لأن والده من كبار علماء جيلان ووالدته معروفة بالكرامات وهي بنت أبي عبد الله الصومعي العابد العارف الزاهد التقي، لذا استنشق رضي الله عنه الهواء من بيت العلم والفقه والمعرفة الإلهية.

علم (رحمه الله تعالى) أن طلب العلم فريضة على كل مسلم، بدأ حياته بقراءة القرآن العظيم واجتهد في تعلّم الحديث والفقه واللغة والأدب والطريقة من مشاهير عصره من العلماء والفقهاء والمحدّثين؛ حتى ألمّ بعلوم الشريعة والطريقة بفضل الله تعالى ومجاهدته، ثم أصبح إمام الحنابلة وشيخهم في عصره، متفوّقًا على أقرانه ومميزًا بمعرفته العميقة.

جلوسه للتدريس:

كان (أستاذه) أبو سعيد المخرمي رحمه الله تعالى قد أسس مدرسة راقية في باب الأزج، وعقد فيه أستاذه مجلسًا خاصًّا لتلميذه عبد القادر (رحمه الله تعالى) في مدرسته، فكان عبد القادر رحمه الله تعالى ينظم ثلاث جلسات أسبوعيًا يجلس فيها للتدريس والوعظ والإرشاد، وكان الشيخ متبحرًا في العلوم والمعارف والسلوك والتربية والإصلاح.

بعد وفاة شيخه أبي سعيد المخزومي رحمه الله تعالى تولّى مسؤولية مدرسته، حيث جلس فيها ليقدم الدروس والفتاوى فتوجّه الناس إليه من كل مكان، حتى تزاحموا عليه وصار المجلس يضيق بهم من كثرة الحاضرين والمستمعين، ويروى أنه وصل عددهم في المجلس الواحد قرابة سبعين ألفًا، -وكانوا يجلسون جميعًا بهمة الشوق للاستفادة من علمه النافع وإرشاداته القيمة، فكان يتكلّم رحمه الله تعالى بلسان الوعظ وظهر له صيت بالزهد وكان له سمت وصمت.

فاضطر الشيخ رحمه الله تعالى من كثرة الحاضرين إلى إقامة مدرسة جديدة عرفت بـ"المدرسة القادرية" ولاقت هذه المدرسة إقبالًا كبيرًا، حيث كانت واحدة من أبرز المراكز العلمية، وأسهمت بشكل فعّال في تربية وإصلاح الناس في ذلك العصر الذي وصفه بعض المؤرّخين والباحثين بعصر الجمود.

فتح الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى أبواب هذه المدرسة لكل متعطش للعلم من طلبة العلم حول العالم الإسلامي، وكان يسعى جاهدًا لتوفير جميع احتياجات الطلبة، من سكن وطعام وملبس وأدوات لدراستهم.

ولم ينسَ الشيخ الجيلاني رحمه الله تعالى حتى كبار السنّ، حيث منحهم مجالس خاصة مخصّصة للتعليم والتثقيف، وتلك الجهود الكبيرة كانت لهدف نبيل واحد، ألا وهو نشر العلم الشرعيّ بين الجميع، سواء كانوا كبارًا أم صغارًا، طمح للقضاء على الأمية وتبديد الجهل، حتى تُنير قلوب البشر بنور العلم والمعرفة، وبفضل هذه الجهود استطاع المرء أن يعرف أصول دينه بوضوح ويميز بين ما هو جزء من دينه وما هو غير ذلك (قلائد الجواهر: 179 بتصرف).

كان الشيخ عبد القادر الجيلاني يُعدُّ الكوادر ويهيِّئُها للعمل الدعوي وفق منهج مؤصّل واضح ليوصلوا هذا المنهج إلى مناطقهم، وكان رضي الله عنه يتكلم في ثلاثة عشر علمًا، والناس كانوا يقرؤون عليه في مدرسته درسًا في التفسير ودرسًا في الحديث ودرسًا في الفقه ودرسًا في الخلاف، وكانوا يقرؤون عليه طرفي النهار التفسير وعلوم الحديث والمذهب والخلاف والأصول والنحو، وكان رضي الله عنه يُقرِئ القرآن بالقراءات بعد الظهر (الطبقات الكبرى للشعراني: 1/108).

وكان رحمه الله يُعدّ طلّابه إعدادًا صحيحًا ويربّيهم تربية روحية إسلامية تؤهله لإصلاح نفسه وأهله ليكون ذلك سبيلًا في إصلاح الأمة وتربيتها وفق كتاب الله وسنة حبيبه ﷺ.

كرس الشيخ عبد القادر معظم أوقاته للمدرسة فكان لا يخرج منها إلا يوم الجمعة إلى المسجد أو الرباط، وكان أسلوبه في التدريس والتربية، ويراعي استعدادات كل طالب مع الصبر عليه، وكان يعتز بمهنة التدريس ويعتبرها أشرف منقبة وأجل مرتبة، وأن العالم محبوب من أهل الأرض وأنه سيميز يوم القيامة عمن سواه ويعطي درجات أسمى من غيره، ولقد أمضى الشيخ عبد القادر في التدريس ثلاثًا وثلاثين سنة حتى وفاته (هكذا ظهر جيل صلاح الدين وهكذا عادت القدس: 188).

طريقة تعليمه:

وصف تلميذه ابن قدامة المقدسيّ رحمه الله تعالى طريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى في التعليم وأثره في طلبته فقال:

دخلنا بغداد سنة 561 هـ فإذا الشيخ عبد القادر رحمه الله تعالى ممن انتهت إليه الرئاسة بها علمًا وعملاً ومالاً واستفتاءً، وكان يكفي طالب العلم عن قصد غيره من كثرة ما اجتمع فيه من العلوم، والصبر على المشتغلين، وسعة الصدر، وكان ملء العين، وجمع الله فيه أوصافًا جميلة، وأحوالاً عزيزة، وما رأيت بعده مثله (ذيل طبقات الحنابلة: 2/195 بتصرف).

وبالرغم من اشتغال الشيخ بالتدريس وإعداد المربّين لم ينقطع عن مجالس الوعظ العامة التي تهدف لإيصال دعوته إلى عامة الناس، وحكي عن ابن الخشاب، قال: كنت أشتغل بالعربية، وأسمع بمجلس عبد القادر رحمه الله تعالى، فلا أتفرغ له، فجئت يومًا فسمعته، ثم قلت: ضاع اليوم مني، فقال على المنبر: ويلك، تفضِّل الاشتغال بالنحو على مجالس الذكر، وتختار ذلك، أصحبنا نصيّرك سيبويه، فقلت: إنه عنيني بكلامه، أو كما قال (ذيل طبقات الحنابلة: 2/206).

أخيرًا:

إن الشيخ السيد عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى لم يكن فردًا فحسب بل كان رحمه الله تعالى مؤسسة تعليمية وتربوية، وكان محورًا لتربية جيل جديدٍ في المجتمع، جيلٌ يدرك كيف يرتقي بمجتمعه وينمو بما يقربه إلى الله تعالى.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية