والطعام وانقضاء العمر القصير في اللَّهث وراء الدنيا والاغترار بزيفها مع نسيان الآخرة وأهوالها، إذ خرَج يوماً من بيته على عادته من أمره، فمَرَّ في طريقه بمقبرة فرأى رجلاً يَعْجِن الطِّيْن على قبر ليَصْنَع منه اللَّبِن, فلمّا رأَى هذا المنظر استيقظ من سنة الغفلة وصحا من أوهامه ووقع ما رآه منه موقعاً وأثّر في حياته أيما تأثير وذكَّره بالمصير وإلى أين يصير فارتفع ستار الغفلة عن قلبه وجرت الدموع من عينه, بعدَ ما تَذكَّرَ أنّ هناك من سيصنع له اللَّبِن ويضعه فوق قبره تماماً كما يرى الآن.
فتأوَّه كثيراً في نفسه وخاطبها قائلاً: ستبقى هنا بيوتي العالية وملابسي الفارهة سأترك ما جمعتُ وعمّا قريب سأفارق الدنيا، فيا خسارة نفسي عند نقلتها ويا وحشتها في غربتها إذا لم يتب ربّي عليّ، وإذا لم أتدارك نفسي، فترك الحطام بأسره، وهرب إلى ربّه زاهداً في الدنيا مقبلاً على الآخرة.
أيها المسلمون: إنّ في هذه القصة من الدروس والعبر البالغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، والموفق الملهم مَنْ أخذ من ذلك دروساً وعبراً، واستفاد منه مُدّكراًً ومُزْدَجراً، وتزوّد من الْمَمَرّ للمَقَرّ، فإلى الله سبحانه المرجِع والمستقرّ،