المصارع الشديد | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الإثنين،10-فبراير-2020

المصارع الشديد

الحمد لله الذي خلقنا بأحسن تقويم؛ وهدانا الطريق القويم؛ وجعلنا أمشاجاً امتحاناً منه واختبارا فقال:

إِنَّا خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ مِن نُّطۡفَةٍ أَمۡشَاجٖ نَّبۡتَلِيهِ فَجَعَلۡنَٰهُ سَمِيعَۢا بَصِيرًا

والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله الذي لم يكن يغضب لنفسه ولا ينتقم لها، وإنما كان يعفو ويصفح وعلى آله وصحبه وسلم تسليما وبعد:

فمن عجيب صنع الله تعالى فينا أن خلقنا من طبائع مختلطة وجوانب مختلفة؛ ففينا جانب روحاني لو استخدمناه كنّا بمستوى الملائكة.

وفينا جانب حيواني بهيمي لو انسقنا معه والعياذ بربنا كنّا كالأنعام بل أضل.

وفينا جانب سبعي نيراني يجعلنا لو لم نضبطه ونزكيه شرا من الوحوش الكاسرة..

وهذا كله مستفاد من قوله (أمشاج نبتليه) ومعنى أمشاج طبائع مختلفة وجوانب متعددة.

ومن أخطر هذه الجوانب الجانب السبُعي النيراني الذي تبدو آثاره ومظاهره عند الغضب الشديد.

فيثور الإنسان كالوحش الكاسر وينفعل انفعالا غريبا؛ تنتفخ أوداجه؛ وتحمر عيناه؛ لايدري مايقول؛ وقد كشف لنا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليما هذا الحال في الإنسان في أبلغ وصف وبيان كما من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أن رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:

ألا إِنَّ الْغَضَبَ جَمْرَةٌ تُوقَدُ فِي جَوْفِ ابْنِ آدَمَ،‏ ألا تَرَوْنَ إِلَى حُمْرَةِ عَيْنَيْهِ وَانْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ فَإِذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالأرْضَ الأرْضَ،‏ ألا إِنَّ خَيْرَ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الرِّضَا وَشَرَّ الرِّجَالِ مَنْ كَانَ سَرِيعَ الْغَضَبِ بَطِيءَ الرِّضَا(جزء من حديث رواه أحمد رحمه الله تعالى في المسند)

ولا يظنّنّ ظانٌّ أن هذه الخاصية في طبيعة الإنسان شر ٌكلها بل لها فوائد لا يمكن تحصيلها لو لم تكن هذه الميزة مبثوثة في كيانه ومجبول عليها طبعه.

لولا الغضب المركب فينا كيف ندافع عن أنفسنا؟ ونحمي أهلينا ونذود عن ديننا؛ ونثور لحرماتنا إذا انتهكت!؟

كيف وقد غضب صلى الله عليه وسلم لما أخبروه عن الإمام الذي يُنفّر الناس من الصلاة بطول قراءته، وغضب لما رأى في بيت عائشة رضي الله عنها ستراً فيه صور ذوات أرواح، وغضب لما كلمه أسامة رضي الله عنه في شأن المخزومية التي سرقت، وقال: أتشفع في حد من حدود الله؟ وغضب لما سُئل عن أشياء كرهها، وغير ذلك.

لكن لا يمكن الاستفادة من هذا الجانب الحيوي في حياتنا إلا عالجناه علاجا مركزا وقومناه تقويما كاملا حتى يكون غضبنا لله رب العالمين لا لغرض ولا لنزوة ولا لهوى أو أنانية.

وليس علاج هذا الجانب بالأمر اليسير ولذا اعتنى به الإسلام عناية متكاملة ووضع له برنامجا تدريبيا واضحا بحيث يتحول من يستخدمه إلى إنسان كامل.

وإن كان الكمال نسبيا لم يصل إليه على وجه الحقيقة إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم تسليما.

ويتكون هذا البرنامج التربوي الشامل من مرحلتين:

الأولى: مرحلة ما قبل الغضب: (تحذيرات منفرة، وتعزيزات مشوقة):

أما التحذيرات المنفرة من الغضب تتلخص في معرفة مخاطر الغضب:

فقد ثبت عند أهل التربية والسلوك أن من أنجح الطرق لمعالجة الأخلاق المذمومة قراءة الأخطار والمساوئ التي تنتج عنها، والاطلاع على المحاسن والفضائل التي تنتج عند التخلي عنها والتحلي بضدها.

والمتأمل في مساوئ الغضب يجد له أضرارا كبيرة معروفة لا تخفى على أحد.

فكثير منا قد شاهد من نفسه ومن غيره مشاهد وصور تجعله يكره هذا الامر ويحذره ويتوقاه أيما حذر. وعند تأملها نجد أن منها يعود:

١) لشخص الغضبان من أضرار جسدية، كما يصف الأطباء كتجلّط الدم، وارتفاع الضغط، وزيادة ضربات القلب، وتسارع معدل التنفس، وهذا قد يؤدي إلى سكته مميتة أو مرض السكري وغيره.

٢) ومنها ما يعود على أسرته وأفلاذ كبده وما ينتج عن ذلك من تشريد الأولاد، والندم والخيبة، والعيش المرّ، وكله بسبب الغضب. ولو أنهم ذكروا الله ورجعوا إلى أنفسهم، وكظموا غيظهم واستعاذوا بالله من الشيطان ما وقع الذي وقع ولكنه الطيش السافر والغضب المنفلت الذي لابد من علاجه.

٣) ومنها ما يعود على دينه ومستقبله عند الله تعالى إذ يسب ويشتم وربما كفر وخرج عن دائرة الإسلام فيحبط عمله ويبوء بإثمه.

ومن أجل هذه المخاصر الشنيعة والمساوئ الفظيعة حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسليما بجملة واحدة.

كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني قال:

لا تغضب. فردّد ذلك مراراً، قال لا تغضب.(‏رواه البخاري)

فانظر لهذه الوصية التحذيرية الواضحة الجامعة المانعة والموجزة (لا تغضب) فكأن الشر كله مختبئ وراء الغضب؛ والخير كله في ضبطه.

وهذا ما فهمه المنصوح رضي الله عنه حيث جاء في رواية قال الرجل: ففكرت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم، ما قال:

فإذا الغضب يجمع الشر كله.(‏مسند أحمد)

وأما التعزيزات المشوقة للسيطرة على الغضب فكثيرة والقليل منها يغني عن الكثير وهذه أمهاتها.

١-‏أنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل الجنة كلها بعرضها وطولها ثمنها شيء واحد وهو ترك الغضب وهو رواية ثانية للحديث السابق فقال:

لا تغضب ولك الجنة.(حديث صحيح عزاه ابن حجر إلى الطبراني )

٢-ومنها الحض على التنافس بترك الغضب في قوله صلى الله عليه وسلم:

من كظم غيظاً، ولو شاء أن يمضيه أمضاه، ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة.(رواه الطبراني)

٣-وأغرى من ذلك وأشْوَق ما رتبه صلى الله عليه وآله وسلم تسليما على من تحلى بالحلم وكظم الغيظ بحيث يكرّم تكريماً عاماً على رؤوس الخلائق فقال:

من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء.(رواه أبو داود)

٤-وأعظم من ذلك كله أن ينال الحليم المتدرب بعد مقاومته لهذا الجانب من شخصيته وتهذيبه شهادة نادرة، ودرة فاخرة من الكمال والسمو، يضعها على رأسه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله بقوله:

ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.(متفق عليه)

فما أكرمها من شهادة! وما أرفعه من وسام! حتى إن المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تسليما جعل ذلك المقام وهذه الدرجة تكون أرفع وأعلى.

كلما انفعلت النفس واشتد الغضب واحتاج الإنسان لكظم الغيظ وضبط النفس فقال عليه الصلاة والسلام:

الصرعة كل الصرعة الذي يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه، ويقشعر شعره فيصرع غضبه.(رواه الإمام أحمد )

وينتهز عليه الصلاة والسلام الفرصة في حادثة أمام الصحابة ليوضّح هذا الأمر، فعن أنس رضي الله عنه:

أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ بقوم يصطرعون، فقال: ما هذا؟ قالوا: فلان الصريع ما يصارع أحداً إلا صرعه قال: أفلا أدلكم على من هو أشد منه؟ رجلٌ ظلمه رجلٌ فكظم غيظه فغلبه وغلب شيطانه وغلب شيطان صاحبه.(رواه البزار , قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: بإسناد حسن)

-ومن أكبر الحوافز المقوية للحلم، والداعية إليه، مطالعته وتأمله في حياة سيد الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وآله وسلم، وكيف كان على درجة من الحلم لا يمكن لأحد من بعده أن يصل لظلها ولا عجب فقد كان صلى الله عليه وسلم أوسع الخلق صدرا وأكتم الناس غيظا ومن هذه المشاهد المروية ما أخرجه الشيخان رحمها الله تعالى من حديث أنس رضي الله عنه قال:

كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم (ما بين العنق والكتف ) وقد أثرت بها حاشية البرد، ثم قال: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء.(متفق عليه)

المرحلة الثانية: عند الغضب (كوابح ومهدئات الغضب) وهي علاج للغضب وأهمها:

١- الاستعاذة بالله من الشيطان: هي من علاج الغضب:

فعن سليمان بن صرد رضي الله عنه قال:

كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم، ورجلان يستبّان، فأحدهما احمرّ وجهه وانتفخت أوداجه (عروق من العنق) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأعلم كلمة لو قالها ذهب عنه ما يجد، لو قال أعوذ بالله من الشيطان ذهب عنه ما يجد.(رواه البخاري)

وسرّ الترابط بين التعوذ والغضب أن الغضب من الشيطان كما سبق فكان من الطبيعي التعوذ واللجوء الكامل لمن سلَّطه علينا وهو الشيطان وهو امتثال لأمره جل وعلا:

وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ

٢- السكوت: وهو وسيلة للسيطرة على الغضب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إذا غضب أحدكم فليسكت.(رواه أحمد رحمه الله تعالى في المسند)

وذلك أن الغضبان يخرج عن طوره وشعوره غالباً فيتلفظ بكلمات قد يكون فيها كفر والعياذ بالله أو لعن أو طلاق يهدم بيته، أو سب وشتم - يجلب له عداوة الآخرين. فبالجملة: السكوت هو الحل لتلافي كل ذلك.

٣- السكون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع).

وراوي هذا الحديث أبو ذر رضي الله عنه، حدثت له في ذلك قصة حيث كان يسقي على حوض له فجاء قوم فقال:

أيكم يورد على أبي ذر ويحتسب شعرات من رأسه؟ فقال رجل أنا فجاء الرجل فأورد عليه الحوض فدقّه أي كسره أو حطّمه والمراد أن أبا ذر كان يتوقع من الرجل المساعدة في سقي الإبل من الحوض فإذا بالرجل يسيء ويتسبب في هدم الحوض.
وكان أبو ذر قائماً فجلس ثم اضطجع فقيل له: يا أبا ذر لم جلست ثم اضطجعت؟ قال فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(وذكر الحديث بقصته في مسند أحمد)

ومن فوائد هذا التوجيه النبوي منع الغاضب من التصرفات الهوجاء لأنه قد يضرب أو يؤذي بل قد يقتل وربما أتلف مالاً ونحوه، ولأجل ذلك إذا قعد كان أبعد عن الهيجان والثوران، وإذا اضطجع صار أبعد ما يمكن عن التصرفات الطائشة والأفعال المؤذية.

قال العلامة الخطابي - رحمه الله تعالى - في شرحه على أبي داود:

القائم متهيء للحركة والبطش والقاعد دونه في هذا المعنى، والمضطجع ممنوع منهما، فيشبه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمره بالقعود والاضطجاع لئلا يبدر منه في حال قيامه وقعوده بادرة يندم عليها فيما بعد.(سنن أبي داود, معالم السنن)

- ولتهدئة النفس عند الغضب يذهب للوضوء حيث إن الماء يطفئ نار الغضب المتّقدة روى الإمام أحمد رحمه الله تعالى بسنده أنه صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ.ولا يُشترط وضوءاً كاملاً كما يظن بعض الناس بل يكفي غسل الوجه واليدين كما هو وضوء الطعام كما فسره بعض الأعلام.

٥- دعاء الغضب: أن يتوجه لربه بالدعاء؛ ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم لأمنا عائشة رضي الله عنها قولي:

اللهم اغفر لي ذنبي، وأذهب غيظ قلبي، وأجرني من الشيطان.

وبالجملة فهذه كلها خطة عملية موجزة، ‏لو قرأها المسلم ألف مرة لم تغنه في واقع الأمر شيئا فلابد من التطبيق المتكرر، ‏والحذر من مداخل الشيطان والهوى ومعالجة النفس شيئاً فشيئا حتى يصبح الحلم له سجية غالبة.

ولهذا قال صلوات ربي وسلامه عليه وآله وسلّم كما من رواية الخطيب رحمه الله تعالى في تاريخ بغداد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، وَإِنَّمَاالْحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ، وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُوهذا الحديث مفتاح لجميع الخيرات؛ وباب لكل الفضائل.

فاللهم وقفنا للعمل بما كتبنا والتحلي بما أرشدنا ولا تجعل حظنا من العلم رسمه ولا من الإرشاد شكله برحمتك يا أرحم الراحمين وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

تعليقات



رمز الحماية