مدونات مختارة
الأكثر شهرة
أهمية بر الوالدين وطاعتهما وخطر العقوق لهما | الشيخ طارق المحمد
أعظم خلق اجتماعي ينعكس في شخصية كل مؤمن هو خلق البر للأبوين، وحسن الأخلاق معهما، ولزوم الأدب في حضرتهما، وهذا هو طريق الجنة، وأحد أهم أسباب التوفيق في الدنيا، ومن فرّط في ذلك عاش حياة الضيق والضنك، وعذاب الضمير وسوء الحال والمآل، وما أحسن ما نبّه إليه أحدهم حين قال:
عليك ببرِّ الوالدينِ كليهما***ولا تصحبَنْ إلا تقيّاً مهذباً
وبرِّ ذوي القربى وبرِّ الأباعد***عفيفاً ذكياً مُنجِزاً للمواعد
وشهد سيدنا ابن عمر رضي الله عنهما رجلاً يمانياً يطوف بالبيت، حملَ أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المُذَلَّل***إن أُذْعِرَتْ رِكابها لم أُذعر
وما حملتني أكثر
ثم قال: يا بن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بزفرة واحدة. (البخاري في الأدب المفرد ١/٦٢)
أهمية بر الوالدين:
لعظم شأن الوالدين عند الله عز وجل، أوصى ببرهما، وخصّ بر الأم بالأهمية، والبرُّ هو خِلافُ العقوق، فالبارُّ هو الذي يحسن إلى الوالدين، ويعطَّف عليهما، ويرفق بهما، ويرعى أحوالهما، ولا يسيء إليهما، ويكرم حتى صديقهما من بعدهما، ولذا جعل الله برَّ الوالدين مقروناً بعبادته وتوحيده، كما قرن شكرهما بشكره. فقال:
أَنِ ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ إِلَيَّ ٱلۡمَصِيرُ. [لقمان: ١٤-١٥]
وقوله:وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا. [الإسراء: ٢٣]
والبر بهما يكون بخفض الجناح
ولا سيما عند تقدّمهما بالسنّ فهما يحتاجان للرحمة والشفقة والرعاية والصبر عليهما من أجلك وآجل آخرتك، فكما أخذت تلك الرعاية منهما في صغرك فأقل شيء أن تردّ لهما جزءاً من الرعاية التي قدّموها لك وتكافئهما؛ ولذلك قال الله تعالى:
وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا. [الإسراء: ٢٣-٢٤]
كما تدين تدان:
يجب عليك أيها الولد أن تصحح مسارك في معاملتك مع أبويك بل إن من أراد أن يبرُّه أولاده في حياته وعند كبره فليكن باراً بأبويه الآن ومحسناً إليهما فكما تزرع تحصد، وكما تدين تدان، والجزاء من جنس العمل، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، فمن برَّ بأبيه وأمّه، برَّه ولده وابنُ ولده.
فإذا كنت حريصاً على البركة في عمرك وزيادته، ورزقك وبركته فعليك ببر الوالدين، وقد صحّ أن البرَّ يزيد في العمر ويعطي البركة في الرزق.
صور من بر الوالدين:
قال أبو الهدّاج النجيبي: قلت لسعيد بن المسيب: كل ما في القرآن من بر الوالدين قد عرفته، إلا قوله:
وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا. [الإسراء:٢٣]
ما هذا (القول الكريم)؟ فقال ابن المسيب: قول العبد المذنب للسيد الفظّ الغليظ .(تفسير ابن عطية المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ج٣/٤٤٨)
يُروى أن ظبيان بن علي كان من أبرّ الناس بأمه، وفي ليلة باتت أمه وفي صدرها عليه شيء، فقام على رجليه قائماً حتى أصبحت، يكره أن يوقظها، ويكره أن يقْعد.
وكان حيوة بن شريح يقعد في حلقته يعلّم الناس، فتقول له أمه: قم يا حيوة! فألق الشعير للدجاج، فيترك حلقته ويذهب لفعل ما أمرته أمّه به. (بر الوالدين - لأبي بكر الطرطوشي - صـ ٣٩) وسئل أبو عمر عن ولده ذر فقيل له: كيف كانت عشرته معك؟، فقال: ما مشى معي قط في ليل إلا كان أمامي، ولا مشى معي في نهار إلا كان ورائي، ولا ارتقى سقفاً كنتُ تحته. (بر الوالدين - لأبي بكر الطرطوشي - صـ ٧٦)
وكان زين العابدين كثير البر بأمه، حتى قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمك، ولسنا نراك تأكل معها في صحفة؟، فرد عليهم: أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها؛ فأكون قد عققتها.
حقه في الرضاعة الطبيعية ولكن لا تُجبَر الأم على الإرضاع إلاّ إذا تعينّت مرضعًا، بأن كان لا يقبل غير ثديها، أو كان الوالد عاجزا عن استئجار ظئر مرضعة ترضعه. وإنما ندب لها الإرضاع لأن لبن الأم أصلح للطفل، وشفقة الأم عليه أكثر. (عيون الأخبار ٣/٩٧)
بر الوالدين لا ينقطع حتى بعد وفاتهما:
ولقد بيّن نبي الأمة والرحمة ﷺ الأحاديث المهمة في فضل بر الأبوين حتى بعد وفاتهما حيث جاء رجل من بني سلمة فقال:
يا رسول الله، هل بقي من بر أبويَّ شيء أبَرُّهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما.
(رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي أُسيد الساعدي رضي الله عنه)
وجعل من البر صلة الولَدِ لِودّ الأب وأصدقائه.
وعَن عبد اللهِ بن عُمَر، أَنَّ رَجُلًا من الأَعرَابِ لَقِيَهُ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، فَسَلَّمَ عَلَيهِ عبدُ اللهِ، وَحَمَلَهُ على حِمَارٍ كان يَركَبُهُ، وَأَعطَاهُ عِمَامَةً، كَانَت على رَأْسِهِ فَقَالَ ابنُ دِينَارٍ: فَقُلنَا لَهُ:
أَصلَحَكَ اللهُ إِنَّهُمُ الأَعرَابُ وَإِنَّهُم يَرضَونَ بِاليَسِيرِ، فَقَالَ عَبدُ اللهِ: إِنَّ أَبَا هَذَا كَانَ وُدًّا لِعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، وَإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ أَبَرَّ البِرِّ صِلَةُ الوَلَدِ أَهلَ وُدِّ أَبِيه. (رواه مسلم ٢٥٥٢)
عقوق الوالدين:
إذا أصبحْتَ شاباً كبيراً فقد جاء دورك لوفائك بالبر لوالديك، وقد كان أبواك في صغرك من أشدِّ الناسِ براً لك، وها أنت اشتد عودك وظهرت قوتك وهما إلى الكبر والضعف يُؤمّلون الخير فيك؛ وها أنت تسمع آيات القرآن يذكّرك ربك فيها بقوله:
إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا. [الإسراء:٢٣]
لكن مع الأسف بعض الناس سلك مسلك أهل الجحود والإنكار، وتناسى أمر الله هذا بالإحسان إليهما، ووقعوا في العقوق المؤدي للخسران.
تحريم عقوق الأبوين:
أدنى درجات العقوق "إظهار التأفف" وقد نهى الله عنه وحرّمه فقال: فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ. [الإسراء: ٢٣] فإياك إياك من التضجّر والتسخّط عليهما فقد كنت صغيراً تبكي طول ليلك ولا ينامان لأجلك، ويسهران معك لمرضك واضطراب حالك، فما كان منهما إلا الإحسان إليك وطبع قبلات الحنان والأبوّة على وجهك وجبينك، فلا تجعل جزاء ذلك التأفف منهما والضجر فتبوء بالإثم، فالإنسان إذا كبرت سِنُّه ضعُف و كثرت مطالبه، وضاق صدره، وكثرت مداخلاته في كل صغيرة وكبيرة، ومنهم والعياذ بالله يُرَدُّ إلى أرذل العمر، ومع كل ذلك هذا فالولد مطالب شرعاً بأن يقول لوالديه مهما كانت حالهما قولاً كريماً، ولا يواجههما بأيّ قول يؤذيهما فإن القول الغليظ من العقوق والله حرّم عقوق الآباء والأمهات.
وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول:
أوصاني رسول الله ﷺ بعشر كلمات، منها قال له: ".. ولا تعقّنَّ والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك. (رواه الإمام أحمد)
العقوق لشناعته مقرون بالشرك، والبر لشرفه مقرون بالتوحيد:
قال ﷺ: الْكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ... (رواه البخاري) وأحبُّ العمل إلى الله عز وجل؟ قال: الصلاةُ على وقتها، ثم برُّ الوالدين. (البخاري ومسلم)
العقوق من أكبر الكبائر:
قال ﷺ: أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟.. ثَلاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. (متفق عليه )
ومن علامات العقوق :
١) إدخال الحزن عليهما أو إتعابهما أو التعالي عليهما: بالتأفف أو العبوس لذلك قال عروة بن الزبير رضي الله عنه: مَا بَرَّ وَالِدَهُ مَنْ شَدَّ الطَّرْفَ إِلَيْهِ (السير ٤/ ٤٣٣)
٢) إثارة المشاكل مع الإخوة أو الزوجة بعد منع الوالدين منها.
٣) كل ما يسبب لهما الحزن والمشقة والتعب بلا حاجة شرعية فهو عقوق محرم يُخشى على صاحبه.
٤) التسبب في شتم الأبوين أو لعنهما: قال ﷺ:
مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ وَالِدَيْهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهَلْ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ؟! قَالَ: نَعَمْ، يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ. (متفق عليه)
٥) تقديم الزوجة والأولاد عليهما وخصوصاً في حضرتهما فهذا يجرح قلبهما ومخالفٌ لهدي نبينا ﷺ فقد جَاءَه رَجُلٌ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّك. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ. قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوكَ. (البخاري ومسلم)
الجنة تحت أقدام الأمهات:
البر بالأم ولزوم الخدمة لها يفوق الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبب لدخول الجنة وهذا ما مورد في عدة روايات عن الصحابة منها ما جاء عن معاوية بن جاهِمة السُّلمي رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت:
يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك أحيَّة أمُّك؟ قلت: نعم. قال: ارجع فبِرَّها, ثم أتيته من الجانب الآخر فقلت: يا رسول الله، إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك، أحيَّة أمُّك؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: فارجع إليها فبرَّها. ثم أتيته من أمامه فقلت: يا رسول الله إني كنت أردت الجهاد معك، أبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة. قال: ويحك، أحيَّة أمُّك؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ويحك اِلزمْ رجلَها، فثمَّ الجنة.(رواه النسائي وابن ماجه)
طاعة الوالدين :
يحرص مركز الدعوة الإسلامية على ترسيخ العلاقة بين الأولاد وآبائهم ويؤكد على الأبناء طاعتهم لآبائهم واستئذانهم في الخروج للقوافل الدعوية، ويربّي الشيخ إلياس العطار أبناءه وتلاميذه على ذلك ولا يرضى أن يكون أيّ تقصيرٍ في حق الأبوين بحجة البرامج الدعوية التي يقوم بها المركز بل إن المركز يقوم على تربية الأبناء ليكونوا بررة بآبائهم، وتُعتبر طاعة الوالدين من أسمى علامات البرّ التي تكون سبباً هاماً لتوفيق الولد وتفريج شدته إن وقعت به، وهذا مفهوم من قصة الرجال الثلاثة الذين أُغلِق عليهم الغار بعد أن أوَوْ إليه فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ وكان فيهم البار بوالديه فكان بره سبباً للتفريج عنه وعن رفاقه. (البخاري/ ٢٢٧٢)
فالبر لا يبلى وتبقى فائدته تحوط البارّ وتكون سبباً للخير له، فاللهم اجعلنا بررة بآبائنا وأمهاتنا، بعد برنا بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، واجْزه عنا يا ربنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، واجْز عنا آباءنا وأمهاتنا خير ما جزيت آباءاً عن أبنائهم، آمين.
تعليقات