عبادة التفكّر (العبادة المنسيّة) | عبد الباسط عبد الله محمد


نشرت: يوم الأَربعاء،16-أغسطس-2023

عبادة التفكّر (العبادة المنسيّة)

بسم الله الرحمن الرحيم

التفكّر في اللغة: مأخوذ من "تردّد الفكر في الشيء"، وقيل: هو من "التأمّل".

واصطلاحًا: التفكّر هو إعمال العقل في الشيء للوصول إلى حقيقته، وإطلاق الفكر والعقل في أمر أو شيء ما

وبلفظ أبسط: فالتفكّر هو تأمّل القلب في معاني الأشياء حتى تُفهَمَ الغايةُ منها.

* القُرُبات والطاعات والعبادات على قسمين:

1. طاعات في الظاهر: وهو ما يسمى بـ"أعمال الجوارح"، كالحركات والأقوال في الصلاة، وكالصيام وأداءِ مناسك

الحج، وكالصدقة وقراءة القرآن، وغيرِ ذلك.

2. طاعات في الباطن: وهو ما يسمى بـ"أعمال القلوب"، وهي التي لا يطّلع عليها إلا علاّم الغيوب، وطاعات الباطن هو المقياس الحقيقيّ لصلاح العبد؛ لأنها طاعات مستورة لا يعلم بها إلا الله سبحانه وتعالى، بخلاف طاعات الظاهر، فلربما تزيّن الإنسان أمام الناس بأعمالٍ يظنونه بها من "الصالحين" وهو ليس كذلك.

* وأعمال القلوب كثيرة ومتنوِّعة: منها الحبُّ في الله والبغض في الله واليقين والإخلاص والرجاء، وغير ذلك من الأعمال المتنوعة، إلا أنّ من أجلِّها وأعظمها عبادة، والتي عليها مَدارُ العمل كلِّهِ، "عبادة التفكر والتأمّل"، فهي العبادة التي تقود الإنسان إلى معرفة الله سبحانه وتعالى.

وهنا نقول: الدين ليس شِعارًا يوضع على الصدر أو وسمًا على الوجه، بل هو هواءٌ نستنشقه، وحاجتنا إلى الدين كحاجتنا إلى الهواء، فإن لم نستنشق هواء الدين العظيم، ضاقت أنفاسنا، ودفنت أرواحنا في قبور الأجساد، فأصل الدين "معرفة الله تبارك وتعالى"، والمعرفة تحتاج إلى تفكّر، فالتفكّر يقود الإنسان إلى فعل الطاعات، ولا يعملُ عبدٌ عملاً صالحًا إلا وسببه التفكّر، فأنت لماذا تصلِّي؟ لأنك تفكَّرت في الصلاة فوجدتَها سبب رضى الله تعالى ودخول الجنّة.

* والتفكّر والتأمّل من أعمال القلوب، فكلّما زاد التأمّل والتفكّر زاد "الإيمان" تبعًا لذلك، يقول عطاءٌ رحمه الله تعالى:

دخلت أنا وعبيد بن عمير رحمه الله تعالى على سيدتنا عائشة رضي الله عنها، فقال لها سيدُنا ابن عُمير رضي الله تعالى عنه: أخبرينا بأعجبِ شيءٍ رأيتِهِ من رسولِ الله ﷺ، قال: فسكتَتْ ثم قالت: لمّا كان ليلةً من الليالي قال: يا عائشة! ذريني أتعبّدُ الليلةَ لربّي، قلت: والله! إنّي لأُحِبّ قربَكَ وأحبّ ما يسرّك، قالت: فقام فتطهّر ثمّ قام يصلّي، قالت: فلم يزلْ يبكي حتى بلَّ حِجرَه، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ لحيتَهُ، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلّ الأرض، فجاء سيدنا بلالٌ رضي الله تعالى عنه يُؤْذِنُهُ بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! لِمَ تبكي وقد غفر الله لك ما تقدّم وما تأخّر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلَتْ عليّ الليلةَ آيةٌ، ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكّرْ فيها:

إِنَّ فِي خَلۡقِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ

من أجل ذلك ندبَنا ربّنا عزّ وجلّ أن نتفكّر.

* وإذا تأمّلنا في القرآنِ الكريم نجدُ أن الله تعالى ختم ثلاث عشرة آيةً بقوله: (يتفكّرون، وتتفكّرون)، ليلفِتَ أنظارَنا تبارك وتعالى إلى أنّه يجب أن نُعمِل عقولَنا ونتفكّرَ في خَلْقِ الله تعالى ونِعَمِه، حتى نكونَ أكثرَ منه قُربًا وأكثرَ له طاعةً وأكثرَ لنعمِهِ معرفةً تبارك وتعالى، والتفكر يسمِّيهِ العلماء: "العبادة الصامتة"، فلا كلامَ في هذه العبادة ولا عمل، إنما إِعمالٌ للعقل، وإمعانٌ للنظر، وتفكُّرٌ وتأمُّلٌ، ووصفه بعضُ العلماء بـ"العبادة المهجورة" أو "العبادة المنسيّة"، إذ قلّ من يجلس ويتفكّر في خَلْقِ اللهِ عز وجل ونعمِهِ وآلائِهِ، فقد جاء في الأَثَرِ عن سيدِنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنّه قال: قال رسول الله ﷺ:

"أمرني ربي بتسعٍ" وفيه: "أن يكون صمتي فكرًا، ونطقي ذكرًا، ونظري عبرة"

* وسُئلت سيدتنا أمّ الدرداء رضي الله عنها عن أكثرِ عبادة وأفضل عمل سيدِنا أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه؟ قالت: التفكّر والاعتبار

وإذا تأمّلنا وتدبّرنا في القرآن الكريم؛ نجدُ أنّ هنالك أكثرَ من 250 آيةً تكلّم الله تعالى فيها عن خَلْقِ السماواتِ والأرض والجبال والنجوم والزروع والثمار، وغير ذلك ممّا خلق الله تبارك وتعالى، وكثرة هذه الآياتِ دليلٌ على أهمية إعمال العقول في عظيم مصنوعاته تبارك وتعالى، فذلك طريق زيادة الإيمان ومعرفة الله تبارك وتعالى.

* مجالات التفكّر:

في الحقيقةِ يوجد مجالاتٌ كثيرةٌ تدعونا للتفكّر والاعتبار، ولعلّنا نأتي على أهمّها في هذا النص:

1. النظر في كتاب الله عز وجل: لأن كتاب الله تعالى هو كلامُه، والكلام دليل المتكلم وأوصافه، فإذا أردت أن تعرف ربّك فاقرأ كلام الله تعالى عن نفسه:

وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدۡرِهِۦ وَٱلۡأَرۡضُ جَمِيعٗا قَبۡضَتُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطۡوِيَّٰتُۢ بِيَمِينِهِۦۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ ٦٧

فهذه الآية العظيمة تُبيّن عِظَمَ قدرته سبحانه وتعالى، وأنه الخلاّقُ العليم، وأن قبضته سبحانه وتعالى عظيمة إلى الحد الذي تطوي فيه السماواتِ والأرضَ بداخلها.

2. التفكّر فيمن سلفَنا من الأمم السابقة: فالله تعالى أمرنا وأمر رسوله ﷺ بأن يقرأ أخبارَ الأمم السابقةِ وقَصَصَهم للاعتبارِ بها، قال تعالى:

لَقَدۡ كَانَ فِي قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةٞ لِّأُوْلِي ٱلۡأَلۡبَٰبِۗ مَا كَانَ حَدِيثٗا يُفۡتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصۡدِيقَ ٱلَّذِي بَيۡنَ يَدَيۡهِ وَتَفۡصِيلَ كُلِّ شَيۡءٖ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٗ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ١١١

3. التفكّر في حقيقة هذه الدنيا: الدنيا التي اغترّ بها الكثيرون، فأنسَتْهُمُ الدارَ الآخرةَ التي هي محطُّ الرحال، اغترُّوا بزهرة الدنيا ونعيمها، فأضاعوا الصلواتِ، وهجروا العباداتِ، وقطعوا الأرحامَ، وفشت بينهم الخصوماتُ، وغير ذلك مما يندى له الجبين، كل ذلك من أجل هذه الدنيا الفانية التي وصفها الله تبارك وتعالى مبيّنًا حقيقتها فقال:

إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا كَمَآءٍ أَنزَلۡنَٰهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا يَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَٰمُ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَآ أَنَّهُمۡ قَٰدِرُونَ عَلَيۡهَآ أَتَىٰهَآ أَمۡرُنَا لَيۡلًا أَوۡ نَهَارٗا فَجَعَلۡنَٰهَا حَصِيدٗا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لِقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ ٢٤

4. التفكُّر في حقيقة الإنسان ونهايته التي لا بُدّ منها: وهذا النوع من التفكر يُبصِّرُ الإنسانَ بحقيقته وضعفِ قوّتِهِ، فلا يغترّ صاحبُ سلطانٍ بسلطانه، ولا صاحبُ مالٍ بماله، فمصير كلِّ ذلك إلى التراب والفناء، قال تعالى:

قُلۡ إِنَّ ٱلۡمَوۡتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنۡهُ فَإِنَّهُۥ مُلَٰقِيكُمۡۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَٰلِمِ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ ٨

وقال سيدُنا كعبُ بنُ زُهَيرٍ رضي الله تعالى عنه:

كل ابن أنثى وإنْ طالتْ سلامتُه*****يومًا على آلةٍ حدباءَ محمولُ

فأين الفرارُ من الموت؟ فمن تفكّر في هذه الحقيقة زهِدَ في الدنيا وأقبل على الله تبارك وتعالى.

5. التفكّر في نزول الغيث بعد جدب الأرض وقحطها: يقول الباري تبارك وتعالى:

ٱللَّهُ ٱلَّذِي يُرۡسِلُ ٱلرِّيَٰحَ فَتُثِيرُ سَحَابٗا فَيَبۡسُطُهُۥ فِي ٱلسَّمَآءِ كَيۡفَ يَشَآءُ وَيَجۡعَلُهُۥ كِسَفٗا فَتَرَى ٱلۡوَدۡقَ يَخۡرُجُ مِنۡ خِلَٰلِهِۦۖ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِۦ مَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦٓ إِذَا هُمۡ يَسۡتَبۡشِرُونَ ٤٨

وفي آية أخرى يقول تعالى:

وَمِنۡ ءَايَٰتِهِۦٓ أَنَّكَ تَرَى ٱلۡأَرۡضَ خَٰشِعَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡۚ إِنَّ ٱلَّذِيٓ أَحۡيَاهَا لَمُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰٓۚ إِنَّهُۥ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ٣٩

فالأرض الخاشعة هي التي لا حياةَ فيها ولا نبات، أرضٌ جرداءُ وصحراءُ قاحلة، فلما أراد الله إحياءَها أحياها وجعل فيها النبات والحياة والثمر، لا شك في ذلك، فهو الإله القادر على كل شيء، فإذا اعترتْكَ الهموم والمشاكل والمحن والكربات؛ فلُذ بالإله القادر، واستعصم به، وأنِخْ مطاياك ببابه، وأظهر فقرك إليه حتى تدخلَ كهفَ عنايته، ومن كان في عنايةِ الله فلينمْ قريرَ العين.

6. التفكّر في مخلوقات الله تبارك وتعالى من الدوابّ والنباتات التي ملأت فِجَاجَ الأرض: ففي هذا التفكر عبرةٌ لمن أراد الاعتبار، وقد جاءَ رجل إلى الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فسأله: يا إمام! ما الدليلُ على وَحدانيةِ اللهِ تعالى؟ فقال الإمام رحمه الله تعالى: ورقة الشجر! تأكلها الدودة فتخرجُها حريرًا طريّا، وتأكلها النحلة فتخرجها عسلًا شهيّا، وتأكلها الشاةُ فتخرجها لبنًا نديًّا، وتأكلها الغزالُ فتخرجها مسكًا نقيّا، فالمادة واحدةٌ والصنعة مختلفة، فمن الصانع؟

7. التفكّر في النفس البشرية: وهذا عالَم يطول فيه الحديث، وأبسط اقتضاب واختصار يفي هذا العالم حقه قوله تعالى:

ﭐ وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ ٢١

وقوله تبارك وتعالى مبيّنًا دورة حياة الإنسان:

يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ

وبعد هذا كله يجترئ مجترئٌ على معصية الله تعالى؟ ويستخفُّ بنظر الله إليه؟ أيخشى الناسَ والله أحقّ أن يخشاه؟ أيستحي مِن خَلْقِ الله فيغلقُ الأبوابَ حتى لا يرَوْهُ وهم ضعافٌ مثلَهُ ويتناسى نظر الله القوي القادر إليه؟ فوالله إن الله أحق وأجدر أن يُستحى منه،

الشمسُ والبدرُ من آياتِ قدرته*****والبرّ والبحرُ فيضٌ من عطاياه

الطيرُ سبّحه والوحشُ مجَّده*****والموجُ كبَّرهُ والحوتُ ناجاه

نسأل الله عز وجل أن لا يحرمَنا من هذه العبادة، وأن يُعينَ المسلمين عليها إنه سميع مجيب.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية