خطر التصدّر للمشيخة قبل التأهّل بالتربية | طارق المحمد


نشرت: يوم الخميس،31-أغسطس-2023

خطر التصدّر للمشيخة قبل التأهّل بالتربية

قال الإمام الشّعْبِيّ رحمه الله تعالى: العلم ثلاثة أشبار، فمن نال منه شِبْرًا شَمَخَ بِأَنْفِهِ وظنّ أنّه ناله، ومن نال الشّبر الثّانيَ صغرتْ إليه نفسُهُ وعلم أنّه لم ينله، وأمّا الشِّبْرُ الثّالث فهَيْهَاتَ لا يناله أحد أبدًا

نعم إن العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول، تكبّر ومن دخل في الشبر الثاني تواضع ومن دخل في الشبر الثالث، علم أنه لا يعلم؛ لأنه يقف على جهله فإذا ظن أنه قد علم فقد جهل، ولذا قالوا: إياك من التصدّر قبل التأهّل، فهو آفة في العلم والعمل، وقد قيل: من تصدّر قبل أوانه، فقد تصدّى لهوانه

وما أكثر المتشبّعين وهم جوعى يُشفق عليهم! وقد صحّ عند الشيخان رحمهما الله تعالى عن السيدة عائشة رضي الله عنهما:

أنّ رسول الله ﷺ قال: اَلْمُتَشَبِّعُ بما لم يُعْطَ كـ"لابس ثوبَيْ زُورٍ"

أي: المتشبّه بالشبعان وليس بذلك كالرجل يلبس الثياب المشبّهة لثياب الزهّاد يوهم أنه منهم، ويظهر من التخشّع والتقشّف أكثر مما في قلبه... أو يتظاهر بالعلم وبزيّ العلماء أو بكلامهم... أو يلبس ثوب الكرم أو التصوّف أو المحبّة أو الجهاد أو الإنفاق أو غير ذلك..

واستعير للتحلّي بفضيلة لم يرزقها وشبه بـ"لابس ثوبي زور" أي: ذي زور وهو الذي يتزيّا بزيّ أهل الصلاح رياء

وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: معناه "الْمُتَكَثِّرُ بما ليس عنده" بأن يظهرَ أنّ عنده ما ليس عنده يتكثّر بذلك عند النّاس ويتزيّن بالباطل فهو مذموم كما يُذمّ من لبس ثوبَيْ زُورٍ.

قال أبو عبيد وآخرون رحمهم الله تعالى: هو الّذي يلبس ثيابَ أهلِ الزُّهْدِ والعبادة والوَرَعِ، ومقصوده أن يظهر للنّاس أنّه متّصف بتلك الصّفة ويظهر من التخشّع والزُّهْدِ أكثرَ ممّا في قلبه فهذه ثياب زُورٍ وَرِيَاءٍ

أنشد أحمد بن يوسفَ صَاحِبُ أَبي عبيد رحمهما الله تعالى:

مَنْ تَحَلّى بِغَيْرِ مَا هُوَ فِيهِ...... فَضَحَتْهُ شَوَاهِدُ الامْتِحَانِ

وَالّذِي يَدّعِي الْبَلاغَ إِذَا...... كَانَ أَصِيلاً أَبَانَهُ بِاللِّسَانِ

خطر التعرض للمشيخة:

لقد حذّر الربّانيون من حبّ الشهرة الذي يدفع أحيانًا غير الصادقين إلى ادّعاء ما ليس لهم فيضرّون أنفسهم ويضرّون غيرهم.

كثيرٌ من المتصدّرين يحتاج أن يكون تلميذًا أكثر من أن يكون معلّمًا، ومريدًا أكثر من كونه شيخًا، وطالبًا أكثر من كونها معلّمًا، والذي يشدّ على إخوانه وبعض من يجلس إليه ويزجرهم أو يربّيهم بما لم يتذوقّه إلا مجرّد قراءة في كتب القوم أو تطبيقًا لما في الكتب التي بين يديه مما يجب على التلاميذ مع الشيوخ، وهو لم يسلك هذه المسالك في واقعه وسلوكه كتلميذٍ أو مريدٍ عند شيخ! ولو فعل شيخه معه هذا لما صبر على شيخه! فإن مثل هذا ضرره سيكون كبير وخطره على من يجتمع حوله حاصل وخطير، وفرق كبير بين من يوجّه إخوانه لله وهو يدوس نفسه ولا يريد لها شأن، وبين من يوجه إخوانه لنفسه ليعرفوا أن له شأن، أو ليكون ذا شأن.

* ولهذا قال الإمام العارف عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى:

فهو إما شخص جلس بنفسه من غير فطام على يد شيخ، وإما أن شيخه مفتر كذاب لا يصلح لأن يكون أستاذًا كما هو الغالب في أهل هذا الزمان حين فُقدت الأشياخ الذين آخرهم في مصر سيدي علي المرصفي رضي الله عنه

فصار كل من سولت له نفسه أن يكون شيخًا جمع له بعض ناس من العوام وجلسوا يذكرون الله تعالى صباحًا ومساءً بغير آداب الذكر المشهورة عند القوم وظنّ في نفسه أنه صار شيخًا مثل المشايخ الماضين؛ مع أنه لا يصلح أن يكون مريدًا كما بسطنا الكلام على ذلك في رسالة "قواعد الصوفية" وهو كتاب من طالع فيه علم بأنه ما صنّف في الطريق مثله وحكم على نفسه أنه لم يشم طريق الإرادة.

وقد رأيت كثيرًا ممن أذن لهم أشياخهم بالتربية عادوا أشياخهم وهجروهم وادّعوا أنهم أعلم بالطريق منهم فمُقتوا ولم ينتج على يدهم أحد، وكل ذلك لوقوع الإذن لهم من أشياخهم قبل خمود نار بشريتهم فكان اللوم على الأشياخ لا عليهم

* وقال سيدي أبو الحسن الشاذليّ رحمه الله تعالى: "من أقبل على الخلق قبل خمود نار بشريته وقع من عين رعاية الله، فاحذروا هذا الداء العضال الذي هلك به كثير، فقنعوا بتقبيل العامة أيديهم"

* وقال سيدي أبو مدين الغوث رحمه الله تعالى: "من خرج إلى الخلق قبل وجود حقيقة دعته لذلك فهو مفتون، وكل من ادّعى مع الله تعالى حالة ليس على ظاهره منها شاهد فاحذروه"

وهذا التحذير من العارفين لمعرفتهم بمداخل الهوى النفس، ومن الخطر أن المرء أيًّا كان مثل هذا الكلام فيُسقِطه على غيره من أقرانه أو غيرهم، ولا يستفيد من مواعظ السلف والمربّين الذين خبِروا النفوس وأحوال القلوب ومداخل الشيطان.

* وكان سيدي أبو العباس المرسي رحمه الله تعالى يقول:" والله! ما جلست للناس حتى هُدِّدت بالسلب وقيل لي: "لئن لم تجلس لسلبناك ما وهبناك"

* ولأن النفس تحبّ هذا الحال؛ فإن الجاهل لأجله مجازف لا يخشى العواقب من شدة جهله فيوقع نفسه ومن يتبعه في الهلاك، وكان الشعبي رحمه الله تعالى يقول: اطلبوا العلم وأنتم تبكون فإن أحدكم إنما يريد به زيادة إقامة الحجة على نفسه يوم القيامة

العمل بالعلم أول خطوات القبول:

* كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى يقول: من لا يعمل بعلمه شبيه بشجر الحنظل كلما ازداد رِيًّا بالماء ازداد مرارة.

* وكان رحمه الله تعالى يقول: والله لقد أدركنا أقواما يروضون الطالب سنين كثيرة ولا يعلمونه شيئا من العلم حتى يظهر لهم صلاح نيته في العلم.

* قيل لحمدون بن أحمد وهو أحد السلف: "ما بال كلام السلف أنفع من كلامنا؟ قال: لأنهم تكلموا لعزّ الإسلام ونجاة النفوس ورضَاء الرحمن، ونحن نتكلم لعزِّ النفس وطلب الدنيا وقبول الخلق"

* وكان مالك بن دينار رحمه الله تعالى يقول: "إن العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّتْ موعظتُه عن القلوب كما تزلّ القَطْرَةُ عن الصفا وإن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإن صدور الفجار تغلي بالفجور، والله يرى همومكم، فانظروا ما همومكم رحمكم الله؟

* وكان عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله تعالى يقول: خدمت الإمام مالكًا رحمه الله تعالى عشرين سنة فكان منها سنتان في العلم وثمانية عشر سنة في تعليم الأدب فيا ليتني جعلت المدة كلها أدبًا.

* وكان الإمام الشافعي رحمه الله يقول: قال لي مالك رحمه الله يا محمد! اجعل علمك ملحًا وأدبك دقيقًا.

* وكان الإمام النووي رحمه الله يقول: ومن الدلائل الصريحة على رياء العالم أن يتأذّى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره.

* وكان بكر بن عبد الله المزني رضي الله عنه يقول: علامة المرائي بعلمه أن يرغّب الناس في العلم ليقرؤوا عليه ثم أنه إذا شاوره أحد في القراءة على غيره لا يرغبه كل ذلك الترغيب.

* وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: ينبغي للعالم أن يكون له خبيئة من العمل الصالح فيما بينه وبين الله عز وجل ولا يعتمد على العلم فقط فإنه قليل الجدوى في الآخرة.

وأقاويل العلماء في الإخلاص في العلم كثيرة مشهورة...

وكان شيخنا الشيخ شمس الدين السمانودي رحمه الله تعالى(شيخ الإمام الشعراني رحمهما الله تعالى.) إذا تفرس فيمن يطلب العلم أنه يريد يصطاد به الدنيا بطريق ولاية القضاء وقبول الرِّشا لا يعلمه مسألة واحدة ويقول له: طهر قلبك من محبة الدنيا حتى تصلح للعلم ثم تعال أعلمك العلم. ثم قال: وكان شيخنا العارف بالله تعالى سيدي عي النبتيتي لا يعلم أحدا حتى يقول له يا ولدي ما نويت بهذا العلم الذي تطلب مني أن أعلمك، فإن رأى نيته صالحة علمه وإلا علّمه النية ثم علّمه رضي الله عنه

وهذا الحرص نابع من فهمهم للدين وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم وأقواله في تربية الأمة حين حدثنا عن أول من تسعّر فيهم النار يوم القيامة ومنهم عالم تعلّم وعلّم ليقال عنه وقد قيل! فهو أول من تسعّر فيه النار.

نسأل الله أن يحفظنا وأن ينفعنا بما نقول ونكتب ونتعلم وأن يجعل ذلك حجة لنا لا علينا...آمين. والحمد لله رب العالممين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية