مشروعية زيارة القبور وطلب الدعاء لهم | إدارة الشؤون العربية


نشرت: يوم الإثنين،05-أغسطس-2024

مشروعية زيارة القبور وطلب الدعاء لهم

زيارة قبور المؤمنين مشروعة مستحبة ولا خلاف بين الفقهاء في أنها تندب للرجال، وفي زيارة القبور نفع للحي بتذكره الآخرة ونفع للميت بالدعاء له، وتقوّي إيمان المؤمن بشؤون الغيب لكي يستعد لآخرته، كما أن زيارة القبور سبب لترقيق القلوب، وزيارة المشايخ سبب للاستفادة الدينية، وزيارة المواضع المباركة سبب لنزول البركات والأنوار والرحمات فيها.

لذا استحب العلماء زيارة قبور المؤمنين امتثالا لقول النبي ﷺ:

كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، فَإِنَّهُ يُرِقُّ الْقَلْبَ، وَتُدْمِعُ الْعَيْنَ، وَتُذَكِّرُ الْآخِرَةَ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا (المستدرك على الصحيحين: 1393)

ولأنه ﷺ كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى ويقول: "

السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا، إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ، اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ (صحيح مسلم: 974)

وزاد في رواية:

أَسْأَلُ اللهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ (صحيح مسلم: 975)

وثبت أن النبيَّ ﷺ قام بزيارة قبر أمه عليها وعليه أفضل الصلاة والتسليم؛ كما روى الإمام مسلم في "صحيحه" وغيره: " أن النبي ﷺ زار قبرَ أمه، فبَكَى وأبكى مَن حولَه، وأخبر أن الله تعالى أذن له في زيارتها، ثم قال:

فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ (صحيح مسلم: 976).

إذن يجوز زيارة القبور بل هي سنة مع الضوابط الشرعية وزيارة قبور الصالحين والوالدين آكد...لأنها مكان لتنزل الرحمات، وزيارة قبر النبي ﷺ من باب أولى.

زيارة القبور للنساء:

مذهب الجمهور أنه يُكره لهنّ زيارة القبور، لأن النبي ﷺ

لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ (رواه الترمذي في سننه: 1056)

ولأن النساء يغلب عليهن رقّة القلب، وكثرة الجزع، وقلة تحمل المصائب، وكل ذلك مظنة بكائهن، ورفع أصواتهن.

وذهب السادة الحنفية - في الأصح - والمالكيَّةِ في قول لهم والشَّافعيَّة في قول وروايةٌ عن الإمام أحمد إلى أنه يندب للنساء زيارة القبور كما يندب للرجال (الموسوعة الفقهية الكويتية: 22/ 88)

لعموم قوله ﷺ:

(كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا،) الحديث..

وهو عام في الرجال والنساء فيبقى على عمومه وهذا مشروط مع أمن الفتنة وعدم التبرج والاختلاط.

لكن قال الخير الرملي رحمه الله تعالى: إن كان ذلك لتجديد الحزن والبكاء والندب وما جرت به عادتهن فلا تجوز، وعليه حمل حديث: لَعَنَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ. وإن كان للاعتبار والترحم من غير بكاء، والتبرك بزيارة قبور الصالحين فلا بأس - إذا كن عجائز - ويكره إذا كن شواب، كحضور الجماعة في المساجد، قال ابن عابدين رحمه الله تعالى: وهو توفيق حسن. (الموسوعة الفقهية الكويتية: 24/88)

ويستثنى من الكراهة زيارة قبر النبي ﷺ فإنه يندب لهن زيارته، وكذا قبور الأنبياء غيره عليهم الصلاة والسلام، لعموم الأدلة في طلب زيارته ﷺ.

ومما يدل أيضاً على إباحة زيارة القبور للنساء بشرط الانضباط بآداب الشريعة

أنَّ النبيَّ ﷺ مَرَّ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ، فقال: "اتَّقِي اللهَ واصْبِرِي" (أخرجه البخاري في صحيحه: 1252)

فلم ينهها عن الزيارة.

وفي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ أمرها أن تأتي البقيعِ فتستغفِرَ لهم

قَالَتْ: فقُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ " قُولِي: السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ (صحيح مسلم: 974)

وعَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: «نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ، وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا (صحيح البخاري: 1278)

والزيارة من جنس الاتباع.

ولكن الأولى في هذا الزمن منع النساء مطلقًا من زيارة القبور نظرا لما قد يترتب على زيارة النساء للمقابر من مشاعر الجزع والحزن أو انحرافات عقائدية، فمن الحكمة توفير بيئة آمنة لهن بعيدًا عن هذه الأماكن، مع التركيز على إحياء ذكرى الأحبة بطرق أخرى، كالدعاء والاستغفار وغيرهما

زيارة القبور في العيد؟

جاء في الفتاوى الهندية (5/350) الباب السادس عشر في زيارة القبور وقراءة القرآن في المقابر: وأفضل أيام الزيارة أربعة يوم الاثنين والخميس والجمعة والسبت، والزيارة يوم الجمعة بعد الصلاة حسن ويوم السبت إلى طلوع الشمس ويوم الخميس في أول النهار وقيل في آخر النهار وكذا في الليالي المتبركة لا سيما ليلة براءة وكذلك في الأزمنة المتبركة كعشر ذي الحجة والعيدين وعاشوراء وسائر المواسم كذا في الغرائب. اهـ. (الفتاوى الهندية: 5/ 350)

وقال الإمام أبو حنيفة رحمه الله في وصيته للإمام أبي يوسف القاضي رحمه الله تعالى: " أَكْثِرْ مِنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالْمَشَايِخِ وَالْمَوَاضِعِ الْمُبَارَكَةِ (الأشباه والنظائر لابن نجيم: 1/ 371 ).

زوّار القبور ليسوا قبوريّين

بناء على ما سبق فإن زيارة القبور ليست إلا امتثالا لقول المعصوم ﷺ، واتباعاً لسنّته وهديه ﷺ، وهذا ما جرى عليه السلف في الزيارة للاعتبار، وترقيق القلب وتذكر الآخرة، وطلب الدعاء للأموات، وتعرّضاً للرحمات والنفحات إن كان المزور نبياً من الأنبياء عليهم السلام أو من الأولياء والصالحين رحمهم الله تعالى، وأن المزور روحه حاضرة يسلم عليها وترد السلام وهذا ما فعله النبي ﷺ لأنه سلّم عليهم، والسلام يكون على من يسمع ويجيب، كيلا يكون الكلام عبثاً وحاشاه ﷺ أن يفعله.

والميت يطْلعه الله بقدرته على من يزوره لأن الأرواح لا تفنى فأهل النعيم ينعمون وأهل الجحيم يعذّبون؛ كما هو معلوم من مذهب أهل السنة والجماعة، وكان ﷺ يتردد كثيراً على زيارة موتى بدر وأحد وموتى المسلمين وكان يدعو عند قبورهم له ولهم ولأمته جميعاً (رواه الإمام مسلم في صحيحه: 975)

وجاء عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: «إني لأتبرك بأبي حنيفة، وإذا عَرَضَت لي حاجةٌ صليت ركعتين وجئت إلى قبره، وسألتُ الله تعالى الحاجة عنده فما تبعُد عني حتى تُقضى» (تاريخ بغداد: 1/ 445)

وذكر الإمام ابن عبد البر رحمه الله تعالى عن قبر سيدنا أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الموجود عند سور القسطنطينية فقال: وقبر أبي أيوب رضي الله عنه قرب سورها معلوم إلى اليوم مُعظَّم يستسقون به فيسقون الاستيعاب (2/ 426).

وقال الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى مبيناً:.. وَفِيهِ الْحِرْصُ عَلَى مُجَاوَرَةِ الصَّالِحِينَ فِي الْقُبُورِ طَمَعًا فِي إِصَابَةِ الرَّحْمَةِ إِذَا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ وَفِي دُعَاءِ مَنْ يَزُورُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ » (فتح الباري لابن حجر :3/ 258)

وقال الإمام ابن بطال رحمه الله، في شرحه لصحيح البخاري: وفيه: أنه ينبغي التبرك بثياب الصالحين، ويتوسل بها إلى الله تعالى في الحياة والممات (شرح صحيح البخاري لابن بطال: 9/ 100)

أما الإمام الحافظ الحجة المؤرخ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى ، قال في ترجمة ابن مزدين القومساني رحمه الله تعالى : وَكَانَ وَرِعاً تَقيّاً مُحْتَشِماً يُتَبَرَّك بِقَبرهِ. (سير أعلام النبلاء: 13/331)

وقال في ترجمة السيدة نفيسة بنت الحسن رحمها الله تعالى : « وَكَانَ أَخُوهَا القَاسِمُ رَجُلًا صَالِحًا زَاهِدًا خَيِّرًا سَكَنَ بِنَيْسَابُورَ وَلَهُ بِهَا عَقِبٌ مِنْهُمْ السَّيِّدُ الْعَلَوِيُّ الَّذِي يَرْوي عَنْهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ وَقِيلَ كَانَتْ مِنَ الصَّالِحَاتِ الْعَوَابِدِ وَالدُّعَاءُ مُسْتَجَابٌ عِنْدَ قَبْرِهَا بَلْ وَعِنْدَ قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ (سير أعلام النبلاء: 8/284)

وقال: «وعن إبراهيم الحربي رحمه الله تعالى ، قال: قبر معروف أي الكَرْخي التِّرياق المجرَّب، يريد إجابة دعاء المضطر عنده؛ لأن البقاع المباركة يستجاب عندها الدعاء». (سير أعلام النبلاء: 8/89)

قالَ الْحَافِظُ الْخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ رحمه الله تعالى في تَارِيخِ بَغْدَادَ مَا نَصُّهُ: "عَنْ أَحْمَدَ القَطْيعِيِّ رحمه الله تعالى قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ أَبَا عَلِيٍّ الْخَلَّالَ رحمه الله تعالى يَقُولُ: مَا هَمَّنِي أَمْرٌ فَقَصَدْتُ قَبْرَ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ رحمه الله وَتَوَسَّلْتُ بِهِ إِلا سَهَّلَ اللهُ تَعَالى لي مَا أُحِبُّ". اهـ (تَارِيخِ بَغْدَادَ (1/120)

قال البهوتي الحنبلي رحمه الله تعالى:" (و) يستحب أيضا الدفن في (ما كثر فيه الصالحون)؛ لتناله بركتهم، ولذلك التمس عمرُ الدفن عند صاحبيه وسأل عائشة حتى أذنت له (كشاف القناع: 2/142)

والأدلة وأقول العلماء كثيرة وليس ذلك من عبادة القبور ولا من التقرب لهم، بل إن دعاء الله تعالى عند القبر لنفسك أو لصاحب القبر مستحب، ودليله فعل النبي ﷺ والصحابة والسلف كما بينّا، واعتقاد وجود البركة في هذا المكان صحيح، فقبر الصالح روضة من رياض الجنة كما ورد في الترمذي وغيره:

القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ (سنن الترمذي: 2460)

وأما التمسح بالقبر أو تقبيله أو تقبيل الأعتاب فمكروه، وقد قال الإمام النووي رحمه الله تعالى متحدثًا عن قبر النبي ﷺ: " لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِهِ ﷺ وَيُكْرَهُ إلْصَاقُ الظُّهْرِ وَالْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ رحمه الله وَغَيْرُهُ قَالُوا وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ بَلْ الْأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَهُ فِي حَيَاتِهِ ﷺ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ وَلَا يُغْتَرُّ بِمُخَالَفَةِ كَثِيرِينَ مِنْ الْعَوَامّ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ.

فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ وَالْعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْدَثَاتِ الْعَوَامّ وَغَيْرِهِمْ وَجَهَالَاتِهِمْ. (المجموع شرح المهذب: 8/275)

واستثنى بعض العلماء من ذلك إن كان التقبيل للتبرك، فقالوا تزول الكراهة.

وصورة الزيارة الشرعية السنية التي ينبغي أن يلتزم المسلمون بها: أن تدخل على قبر الصالح فتقف مؤدبًا دون مسّ ولا نحوه، وتقول: السلام عليكم يا سيدي فلان ورحمة الله وبركاته نسأل الله سبحانه أن يجزيك عنا وعن المسلمين خير الجزاء، ثم تدعو الله تعالى له بما تيسر، وتدعو الله تعالى لنفسك بما يفتح عليك.

وأما إطلاع الميت بحاسة بصره وسماعه لكلام الحي: فالجواب: أن ابن عابدين رحمه الله تعالى ذكر في كتابه: وَفِي شَرْحِ اللُّبَابِ لِلْمُلَا عَلَى الْقَارِئِ: ثُمَّ مِنْ آدَابِ الزِّيَارَةِ مَا قَالُوا، مِنْ أَنَّهُ يَأْتِي الزَّائِرُ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيْ الْمُتَوَفَّى لَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِأَنَّهُ أَتْعَبُ لِبَصَرِ الْمَيِّتِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُقَابِلَ بَصَرِهِ (رد المحتار على الدر المختار: 2/ 242)

وبهذا أثبت ـ قدس الله روحه - للميت اطلاعاً بحاسة بصره، وأن أطباق الثرى لا تمنع بصره عن رؤية الزائر، وعلى هذا فبالأولى ألا تمنع حاسة السمع، لأن حاسة البصر أضعف من حاسة السمع، وقد خرّج الشيخان رحمهما الله، عن أنس رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال:

إِنَّ العَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ، فَيَقُولاَنِ .... الحديث (صحيح البخاري: 1374)

وقد أمر الشارع الكريم عليه الصلاة والسلام بخطاب أهل القبور، بقول: "السلام عليكم"، وقد سلم النبي ﷺ على أهل البقيع وحاشا أن يكون من العبث ، ومع كل هذا فالعلم ثابت حصوله على أن العلم يكون بالروح، وهو باق لتعلقه بالروح، ولا مجال لإنكار سماع الأموات وعلمهم بعد الأدلة الصحيحة المصرحة بذلك عند أهل السنة والجماعة البتة، كيف وقد ثبت للموتى ما هو فوق السماع والإبصار وهو الكلام وقراءة القرآن، أما الكلام فقد اشتهر سماع كلام كثير منهم، وقد صرح غير واحد بأن ربعي بن خراش رحمه الله تعالى، تكلم بعد الموت (سير إعلام النبلاء 5/210)

وأما قراءة القرآن، فقد ثبت عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، أنه

قَالَ: ضَرَبَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ خِبَاءَهُ عَلَى قَبْرٍ وَهُوَ لاَ يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حَتَّى خَتَمَهَا، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ إِنِّي ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لاَ أَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ تَبَارَكَ الْمُلْكِ حَتَّى خَتَمَهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: هِيَ الْمَانِعَةُ، هِيَ الْمُنْجِيَةُ، تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ (سنن الترمذي: 2890)

أقول: وهذا كاف لإثبات كلام الموتى وشعورهم وقراءتهم القرآن، وكم مثل هذا من الأخبار والروايات الوثيقة، التي كادت تخرج عن دائرة الحصر. (نور الانصاف لأبي الهدى الصيادي:22)

فسماع أهل القبور ثابت، وهو مذهب جماهير أهل السنة رحمهم الله، وأما قوله تعالى:

وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢ (فاطر)

فالنفي هنا معناه إنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، بل الذي يخلق السمع فيهم هو الله، كما في نفس هذه الآية:

إِنَّ ٱللَّهَ يُسۡمِعُ مَن يَشَآءُۖ وَمَآ أَنتَ بِمُسۡمِعٖ مَّن فِي ٱلۡقُبُورِ ٢٢

هذا كقوله تعالى:

وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِي ٱلۡعُمۡيِ عَن ضَلَٰلَتِهِمۡۖ [النمل: 81]

لأنَّ هداية التوفيق من الكفر إلى الإيمان والتوفيق للرشاد بيد الله دون من سواه، والاحتمال الثاني أن يكون معنى النفي: فإنك لا تسمع الموتى إسماعا ينتفعون به؛ لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار الأعمال إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعوتك لهم إلى الإيمان بالله، فكذلك هؤلاء الذين كتب ربك عليهم أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إلى الحق إسماعا ينتفعون به (ملخصاً من تهذيب الآثار: 2/518)

وقال الإمام مرعي الكرمي الحنبلي رحمه الله تعالى : ويسمع الميت الكلام مطلقا ويعرف زائره يوم الجمعة قبل طلوع الشمس وفي الغنية يعرفه كل وقت، وهذا الوقت آكد... وهذا هو الصواب بلا ريب.. (غاية المنتهى:1/286) وبمثله قال العلامة منصور بن يونس البهوتي الحنبلي في شرح منتهى الإرادات: 1/384)

فالشرك وعبادة القبور ليست إلا وهماً ولا وجود لها في أرض الواقع؛ وإن حصلت من الجهّال فلا اعتبار لها ولا يوجد من يسجد لقبر عبادةً له من دون الله، حتى نكفّره؛ وقد اتفقت كلمة علماء الإسلام على أن السجود للقبر تعظيما حرام وليس كفرًا أو شركًا، فيجب تعليمه وإرشاده ونهيه، لا تكفيره وإخراجه من الملة!

أما النهي عن اتخاذ القبور مساجد فهو اتخاذ القبر نفسه وجعله مكانا للسجود؛ تعظيمًا وعبادةً لصاحب القبر، أو جعل القبر قبلة دون القبلة المشروعة، كما يفعل أهل الكتاب؛ حيث يتوجّهون بالصلاة إلى قبور أحبارهم ورهبانهم..ا ه. (ملخصاً من فتح الباري 1/525 وشرح النووي 5/13)

زيارة روض (قبر) النبي ﷺ وحديث شد الرحال

يستحب للمؤمن زيارة سيد الكونين ﷺ والذي شَرُفَت به البقعة التي ضمته وشَرُف به المسجد كذلك، وكيف تصبر نفوس المحبين الصادقين عن القصد في ذلك، تقصد المسجد متغاضية عن قصد زيارة حبيب الله وصفوته من خلقه ﷺ، أو جعل زيارته مقصداً ثانوياً.

لذلك قال الإمام الجليل محيي الدين النووي رحمه الله تعالى: إذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة فليتوجهوا إلى مدينة رسول الله ﷺ لزيارة تربته ﷺ فإنها من أهم القربات وأنجح المساعي. وقد روى البزار والدارقطني رحمهما الله بإسنادهما عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ:

"من زار قبري وجبت له شفاعتي" (سنن الدار القطني: 2695)

الثانية: يستحب للزائر أن ينوي مع زيارته ﷺ التقرب إلى الله تعالى بالمسافرة إلى مسجده ﷺ والصلاة فيه. (إيضاح المناسك: 1/447)

فلنتأمّل كيف أن الإمام النووي رحمه الله تعالى جعل زيارة النبي ﷺ المقصد الأول، ونية زيارة المسجد هي المقصد التابع للزيارة، بل حتى من يرى كراهة زيارة النساء للقبور من الحنابلة فإنه استثنى من ذلك زيارتهن لقبر النبي ﷺ وصاحبيه كما ذكر صاحب كتاب المبدع في شرح المقنع (3/285)

وجعل الإمام الكمال بن الهمام الحنفي رحمه الله تعالى إفراد قصد زيارته ﷺ أولى، لما في ذلك من زيادة الأدب مع النبي ﷺ فقال رحمه الله تعالى كما في فتح القدير: فإذا نوى زيارة القبر فلينو معه زيارة المسجد: أي مسجد رسول الله ﷺ فإنه أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال...

والأولى فيما يقع عند العبد الضعيف تجريد النية لزيارة قبر النبي ﷺ، لأن في ذلك زيادة تعظيمه ﷺ وإجلاله، ويوافق ظاهر ما ذكرناه من قوله عليه الصلاة والسلام "لا تعمله حاجة إلا زيارتي" (فتح القدير: 3/179-180)

وله أيضاً في شرح فتح القدير: «المقصد الثالث في زيارة قبر النبي ﷺ قال مشايخنا رحمهم الله تعالى من أفضل المندوبات وفي مناسك الفارسي وشرح المختار أنها قريبة من الوجوب لمن له سعة. (فتح القدير: 3/179) (وانظر: رد المحتار: 2/262)

أما ما رواه البخاري ومسلم عن النبي ﷺ:

لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى (صحيح البخاري: 1188) و (صحيح مسلم: 1397)

فهذا دليل على تضاعف أجر الصلاة في هذه المساجد دون غيرها من المساجد، ولذا فلا تقصد مساجد بالسفر رغبة في تضاعف أجر الصلاة فيها إلا هذه المساجد، وليس في هذا الحديث تحريم السفر وشد الرحال لغير المساجد الثلاثة.

أما السفر لزيارة مسجد غير هذه الثلاثة من باب السياحة والتعلم وغير ذلك فهو جائز كمن زار دمشق لزيارة المسجد الأموي مثلا، أو زار القاهرة لزيارة جامعة الأزهر، أو غير ذلك، كما يجوز للإنسان أن يسافر لغير المساجد الثلاثة من طلب العلم وطلب الرزق والسياحة وغير ذلك من أسباب السفر المعروفة كبر الوالدين وزيارتهما والنبي ﷺ أولى قال الله تعالى:

ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ (الاحزاب/6)

وفي الحديث:

إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ سنن أبي داود (1/8)

وقد اتفق العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الفهم كما ذكر الشيخ سليمان بن منصور المشهور (بالجمل) رحمه الله تعالى: لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ» أي: للصلاة فيها، فلا ينافي شد الرحال لغيرها" إلى أن قال: "قال النووي رحمه الله تعالى: ومعناه: لا فضيلة في شد الرحال إلى مسجد غير هذه المساجد الثلاثة، ونقله عن جمهور العلماء رحمهم الله تعالى، وقال العراقي رحمه الله تعالى: من أحسن محامل الحديث أن المراد منه حكم المساجد فقط؛ فإنه لا تُشَدُّ الرحال إلى مسجد من المساجد غير هذه الثلاثة، وأما قصد غير المساجد: من الرحلة لطلب العلم، وزيارة الصالحين والإخوان، والتجارة، والتَّنَزُّه، ونحو ذلك، فليس داخلًا فيه، وقد ورد ذلك مصرَّحًا به في رواية الإمام أحمد وابن أبي شيبة رحمهما الله تعالى بسندٍ حسنٍ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعًا:

لَا يَنْبَغِي لِلْمَطِيِّ أَنْ تُشَدَّ رِحَالُهُ إِلَى مَسْجِدٍ يُبْتَغَى فِيهِ الصَّلَاةُ، غَيْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَمَسْجِدِي هَذَا (مسند الإمام أحمد: 11608 )

قال السبكي رحمه الله: وليس في الأرض بقعة فيها فضل لذاتها حتى تُشَدَّ الرحالُ إليها لذلك الفضل غير البلاد الثلاثة، قال رحمه الله تعالى: ومرادي بالفضل ما شهد الشرع باعتباره ورتب عليه حكمًا شرعيًّا، وأما غيرها من البلاد فلا تُشَدُّ إليها لذاتها، بل لزيارة أو علم أو نحو ذلك من المندوبات أو المباحات، وقد التبس ذلك على بعضهم؛ فزعم أن شد الرحال لمن في غير الثلاثة كسيدي أحمد البدوي رحمه الله تعالى ونحوه داخل في المنع، وهو خطأ؛ لأن الاستثناء إنما يكون من جنس المستَثنَى منه، فمعنى الحديث: لا تشد الرحال إلى مسجد من المساجد أو إلى مكان من الأمكنة لأجل ذلك المكان إلا إلى الثلاثة المذكورة، وشد الرحال لزيارة أو طلب علم ليس إلى المكان بل لمَن في المكان، فليُفهَم (فتوحات الوهاب بتوضيح شرح منهج الطلاب: 2/360-361)

قال الإمام ابن حجر: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ قَوْلُهُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَحْذُوفٌ فَإِمَّا أَنْ يُقَدِّرَ عَامًّا فَيَصِيرَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَكَانٍ فِي أَيِّ أَمْرٍ كَانَ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ أَوْ أَخَصَّ مِنْ ذَلِكَ لَا سَبِيلَ إِلَى الْأَوَّلِ لِإِفْضَائِهِ إِلَى سَدِّ بَابِ السَّفَرِ لِلتِّجَارَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهَا فَتَعَيَّنَ الثَّانِي وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدَّرَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مُنَاسَبَةً وَهُوَ لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَى مَسْجِدٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ إِلَّا إِلَى الثَّلَاثَةِ فَيَبْطُلُ بِذَلِكَ قَوْلُ مَنْ مَنَعَ شَدَّ الرِّحَالِ إِلَى زِيَارَةِ الْقَبْرِ الشَّرِيفِ وَغَيْرِهِ مِنْ قُبُورِ الصَّالِحِينَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ (فتح الباري لابن حجر: 3/66)

وهذا هو فهم علماء الإسلام لحديث لا تشد الرحال، وقد ثبت أن النبي ﷺ شد الرحال لمسجد رابع هو مسجد قباء، فعن ابن عمر قال:

كان النبي ﷺ يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ كُلَّ سَبْتٍ، مَاشِيًا وَرَاكِبًا» وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْعَلُهُ (صحيح البخاري: 1193)

ولذلك قال ابن حجر: فيه أن النهي عن شد الرحال لغير المساجد الثلاثة ليس على التحريم (فتح الباري لابن حجر: 3/ 69)

وهكذا فهم الصحابة رضي الله عنهم حديث شد الرحال: فقد جاء عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قالت: سمعت أبي يقول

لَأَنْ أُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ رَكْعَتَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ آتِيَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ لَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي قُبَاءٍ لَضَرَبُوا إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْإِبِلِ (فتح الباري لابن حجر: 3/69) و (أخبار المدينة لابن شبة: 1/ 42)

فنسأل الله تعال أن ينفعنا بفهم السلف والخلف وأن يكرمنا بما يكرم به عباده الصالحين آمين والحمد لله رب العالمين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية

تعليقات



رمز الحماية