مدونات مختارة
الأكثر شهرة
مفهوم التبرك وبعض أدلة مشروعيته (الجزء الأول) | طارق المحمد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فهذه سطور حول مفهوم التبرك ومشروعيته نبين فيه بعض الأدلة والنصوص التي اعتمدها أهل السنة والجماعة في هذه المسألة التي يكثر حولها اللغط والجدل، ولأجل بيان المنهج الحق الذي عليه أئمتنا وعلماؤنا شرعنا ببيان هذه المقالة وهي على قسمين لأهميتها، وستكون جواباً مختصراً شافياً في متناول أيدي الطالبين المستنيرين بإذن الله تعالى فنقول وبالله التوفيق:
إن التبرك هو طلب البركة، والبركة هي: النماء والزيادة، والتبريك: الدعاء للإنسان بالبركة.
والمعنى الشرعي الذي نقصده في التبرك هو: ثبوت الخير الإلهي في الشيء والرغبة في هذا الخير بالاستفادة منه، وقد يراد من التبرك التعظيم
كما فعل سيدنا رسول الله ﷺ حين طاف بالبيت واستلم الركن بالمحجن وقبّل المحجن (رواه مسلم: 1275)
ولذلك قال نافع رحمه الله تعالى:
عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: «مَا تَرَكْتُ اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَ، وَالْحَجَرَ، مُذْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَسْتَلِمُهُمَا، فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ (صحيح مسلم: 1268)
فاستنبط العلماء من ذلك جواز تقبيل كل ما هو معظّم، أو يستحق التعظيم، وكل ماله صلة بالمعظم.
ومن التعظيم: تقبيل يد النبي ﷺ أو أي جزء منه كشعره الشريف الطاهر، أو بأي أثر من آثاره، ومثل ذلك في السادة الصالحين نفعنا الله بهم، ففعل هذا كله يدل على التعظيم.
والتعظيم يصدر من المسلم امتثالا لأمر الله في تعظيم حرمات الله، وطلباً لرضاه والثواب منه تعالى، فالتقرب إلى الله تعالى حاصل بالتبرك.
فالتبرك هو طلب الخير الكثير، كطلب الشفاء من الله تعالى عن طريق إنسان مسلم صالح مبارك لمكانته الرفيعة عند الله، فالذي يتبرك بالأشياء أو بالصالحين أو بآثارهم إنما يطلب الخير الكثير من الله تعالى عن طريق هذا النبي عليه السلام أو هذا الإنسان المسلم الصالح، أو عن طريق أثر من آثارهم كما كان الصحابة يفعلون بالنبي ﷺ وبآثاره، يتقربون إلى الله بالتبرك به وبآثاره.
فكما أن أخذ الدواء طلبا للشفاء مشروع، فالتبرك بالأنبياء والأولياء وآثارهم، طلبا للشفاء أو طلبا للأجر مشروع.
وكما أن الذي يأخذ الدواء يجب عليه أن يعتقد أن الشافي هو الله تعالى، كذلك من يتبرك بالأنبياء والأولياء يجب عليه أن يعتقد أن الضار والنافع والمعطي والمانع هو الله تعالى.
والذي يحرّم التبرك سدا للذريعة، عليه أن يحرم أخذ الدواء سدا للذريعة!؛ لئلا يعتقد الناس بفعالية الدواء دون اعتقاد أن الله هو وحده الشافي!.
بعض آيات التبرك في القرآن الكريم مع أقوال المفسرين:
قال الله تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام لإخوته:
ٱذۡهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلۡقُوهُ عَلَىٰ وَجۡهِ أَبِي يَأۡتِ بَصِيرٗا (يوسف: 93)
ثم قال تعالى:
فَلَمَّآ أَن جَآءَ ٱلۡبَشِيرُ أَلۡقَىٰهُ عَلَىٰ وَجۡهِهِۦ فَٱرۡتَدَّ بَصِيرٗاۖ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٩٦ (يوسف)
فببركة القميص الذي مس جسد سيدنا يوسف عليه السلام رد الله تعالى بصر أبيه يعقوب عليه السلام، وهما يعلمان جيدا أن الضار والنافع والشافي هو الله تعالى وحده، وكان بوسع سيدنا يوسف عليه السلام أن يرفع يديه ويدعو الله تعالى لأبيه بالشفاء فيستجيب الله له، ولكن لما كان التبرك بآثار الأنبياء والصالحين والاستشفاء بهما: مشروعا مثل الدعاء: لجأ سيدنا يوسف عليه السلام إليه، فأرسل إلى أبيه قميصه وأمر أن يلقى على وجهه، ونفذ أمره، وارتد بإذن الله بصر سيدنا يعقوب عليه السلام ببركة القميص الذي مس جسد سيدنا يوسف بن يعقوب عليهما السلام.
وقال تعالى:
وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيۡنَ مَا كُنتُ وَأَوۡصَٰنِي بِٱلصَّلَوٰةِ وَٱلزَّكَوٰةِ مَا دُمۡتُ حَيّٗا ٣١ (مريم)
وجعلني مباركا أي ذا بركات ومنافع في الدين والدعاء إليه ومعلما له (تفسير القرطبي: 11/103)
ففي تفسير الطبري: «قوله: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً اختلف أهل التأويل في معنى ذلك فقال بعضهم معناه وجعلني نفّاعا، فعن مجاهد: وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً قال نفّاعًا (تفسير الطبري: 18/ 190-191)
قال تعالى:
إِنَّ أَوَّلَ بَيۡتٖ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكٗا (آل عمران: 96)
جاء في تفسير القرطبي (مُبَارَكٗا)
جَعَلَهُ مُبَارَكًا لِتَضَاعُفِ الْعَمَلِ فِيهِ، فَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ (تفسير القرطبي: 4/ 139)
وقيل:"مباركًا"، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب. (تفسير الطبري: 6/ 25)
ومن ذلك قوله تعالى:
وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِـۧمَ مُصَلّٗىۖ (البقرة: 125)
والآيات التي أشارت لمشروعية التبرك كثيرة
واتفق أئمة الإسلام والفقهاء على مشروعية التبرك بآثار النبي ﷺ وقد أورد علماء السيرة والشمائل والحديث أخبارا كثيرة في تبرك الصحابة الكرام رضي الله عنهم بآثاره ﷺ وهي أكثر من أن تحصى وقاد اشتمل التبرك على الآثار والأماكن ونحوها من ذلك ما روى البخاري وغيره:
أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ، رضي الله عنه كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ، وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ البَصَرِ، فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى، فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟» فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ (صحيح البخاري: 667)
وفي رواية للبخاري:
فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ، وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ (صحيح البخاري: 424)
قال ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي ﷺ أن يصلي في بيته ليتخذه مصلى وإجابة النبي ﷺ إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين. (فتح الباري: 1/ 569)
وقال رحمه الله تعالى أيضا: وفيه التبرك بالمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ أو وطئها. ويستفاد منه أن من دعي من الصالحين ليُتبرك به أنه يجيب إذا أمن الفتنة (فتح الباري: 1/ 5229)
التبرك بما شرب فيه أو مسه ﷺ:
أخرج البخاري في باب الشرب من قدح النبي ﷺ وآنيته، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ...
فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺيَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: «اسْقِنَا يَا سَهْلُ» فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا القَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ، فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ القَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ (صحيح البخاري: 5637)
يقول الإمام النووي رحمه الله تعالى: «هذا فيه التبرك بآثار النبي ﷺ وما مسه أو لبسه أو كان منه فيه سبب، وهذا نحو ما أجمعوا عليه وأطبق السلف والخلف عليه من التبرك بالصلاة في مصلى رسول الله ﷺ في الروضة الكريمة ودخول الغار الذي دخله ﷺ وغير ذلك. من هذا إعطاؤه ﷺ أبا طلحة رضي الله عنه شعره ليقسمه بين الناس، وإعطاؤه ﷺ حقوه لتكفن فيه بنته رضي الله عنها، وجعله الجريدتين على القبرين، وجمعت بنت ملحان رضي الله عنها عرقه ﷺ، وتمسحوا بوضوئه ﷺ، ودلكوا وجوههم بنخامته ﷺ، وأشباه هذه كثيرة مشهورة في الصحيح، وكل ذلك واضح لا شك فيه» (شرح النووي على صحيح مسلم: 13/ 178-179).
ومن ذلك:
أن رسول الله ﷺ دخل على السيدة كبشة الأنصارية رضي الله عنها وعندها قربة معلقة، فشرب منها وهو قائم، فقطعت فم القربة تبتغي بركة موضع في (أي فم) رسول الله ﷺ (سنن ابن ماجة: 3423).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه " أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ، دَخَلَ عَلَى أُمِّ سُلَيْمٍ وَفِي الْبَيْتِ قِرْبَةٌ مُعَلَّقَةٌ، فَشَرِبَ مِنْ فِيهَا وَهُوَ قَائِمٌ " قَالَ: فَقَطَعَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ فَمَ الْقِرْبَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا (مسند الإمام أحمد: 12188).
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في رياض الصالحين: «وإنما قطعتها لتحفظ موضع فم رسول ﷺ، وتتبرك به: وتصونه عن الابتذال (رياض الصالحين: 1/ 242)
التبرك بعرقه وجبته وبردته ﷺ:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ - أي نام القيلولة- عِنْدَنَا، فَعَرِقَ، وَجَاءَتْ أُمِّي بِقَارُورَةٍ، فَجَعَلَتْ تَسْلِتُ الْعَرَقَ فِيهَا، فَاسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا الَّذِي تَصْنَعِينَ؟» قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا، وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطِّيبِ (صحيح مسلم: 2331)
قال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: قال ابن سعد رحمه الله تعالى : عن البراء بن زيد رضي الله عنه : أن النبي ﷺ قال - من القيلولة - في بيت أم سليم على نطع، فعرق، فاستيقظ، وهي تمسح العرق، فقال: «ما تصنعين»؟ قالت: آخذ هذه البركة التي تخرج منك. (سير أعلام النبلاء: 3/ 532)
وفي رواية عند مسلم:
فقال ﷺ: «مَا تَصْنَعِينَ؟ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا، قَالَ: «أَصَبْتِ» (صحيح مسلم: 2331)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى: عن أنس رضي الله عنه : أن النبي -ﷺ لما أراد أن يحلق رأسه بمنى؛ أخذ أبو طلحة رضي الله عنه شق شعره، فجاء به إلى أم سليم، فكانت تجعله في سكها.
قالت: وكان يقيل عندي على نطع، وكان معراقا ﷺ فجعلت أسلت العرق في قارورة، فاستيقظ، فقال: (ما تجعلين؟) قلت: أريد أن أدوف بعرقك طيبي. أخرجه ابن سعد في الطبقات وأحمد في المسند وإسناده صحيح (سير أعلام النبلاء: 2/307-308)
وعن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهم فَقَالَتْ: هَذِهِ جُبَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَخْرَجَتْ إِلَيَّ جُبَّةَ طَيَالِسَةٍ كِسْرَوَانِيَّةٍ لَهَا لِبْنَةُ دِيبَاجٍ، وَفَرْجَيْهَا مَكْفُوفَيْنِ بِالدِّيبَاجِ، فَقَالَتْ: هَذِهِ كَانَتْ عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَتَّى قُبِضَتْ، فَلَمَّا قُبِضَتْ قَبَضْتُهَا، وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَلْبَسُهَا، فَنَحْنُ نَغْسِلُهَا لِلْمَرْضَى يُسْتَشْفَى بِهَا (صحيح مسلم: 2069)
قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح صحيح مسلم: وفي هذا الحديث دليل على استحباب التبرك بآثار الصالحين وثيابهم (شرح النووي على صحيح مسلم: 14/44)..
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قَالَ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ،.......فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، أَكْسُوكَ هَذِهِ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا، فَرَآهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، مَا أَحْسَنَ هَذِهِ، فَاكْسُنِيهَا، فَقَالَ ﷺ: «نَعَمْ» فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ ﷺ، لاَمَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: مَا أَحْسَنْتَ حِينَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ ﷺ أَخَذَهَا مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّهُ لاَ يُسْأَلُ شَيْئًا فَيَمْنَعَهُ، فَقَالَ: رَجَوْتُ بَرَكَتَهَا حِينَ لَبِسَهَا النَّبِيُّ ﷺ، لَعَلِّي أُكَفَّنُ فِيهَا (صحيح البخاري: 6036)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح والإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم: «فيه التبرك بآثار الصالحين (فتح الباري: 3/144).
التبرك بشعره وظفره ونعله ﷺ:
حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه رحمهم الله أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رضي الله عنه، فَقَدْ قَلَنْسُوَةً لَهُ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ فَقَالَ: اطْلُبُوهَا فَلَمْ يَجِدُوهَا، ثُمَّ طَلَبُوهَا فَوَجَدُوهَا، وَإِذَا هِيَ قَلَنْسُوَةٌ خَلِقَةٌ، فَقَالَ خَالِدٌ: «اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَابْتَدَرَ النَّاسُ جَوَانِبَ شَعْرِهِ، فَسَبَقْتُهُمْ إِلَى نَاصِيَتِهِ فَجَعَلْتُهَا فِي هَذِهِ الْقَلَنْسُوَةِ، فَلَمْ أَشْهَدْ قِتَالًا وَهِيَ مَعِي إِلَّا رُزِقْتُ النَّصْرَ (المستدرك للحاكم: 5299)
فأخرج الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه قصة صلح الحديبية وفيه:
«… ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ﷺبِعَيْنَيْهِ، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺنُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ (صحيح البخاري: 2731)
ورواه الإمام مسلم رحمه الله تعالى عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ»، فَقَالَ: «احْلِقْ فَحَلَقَهُ، فَأَعْطَاهُ أَبَا طَلْحَةَ»، فَقَالَ: «اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ (صحيح مسلم: 1305)
قال الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى: وَفِيهِ التَّبَرُّكُ بِشَعْرِهِ ﷺوَجَوَازُ اقْتِنَائِهِ (فتح الباري: 1/ 274)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما احتضر معاوية رضي الله عنه، قال: إني كنت مع رسول ﷺ على الصفا، وإني دعوت بمشْقص، فأخذت من شعره، وهو في موضع كذا وكذا، فإذا أنا مت، فخذوا ذلك الشعر، فاحشوا به فمي ومنخري. (سير أعلام النبلاء: 3/ 158)
وعن ميمون بن مهران عن أبيه رحمهما الله تعالى: أن معاوية رضي الله عنه أوصى فقال: كنت أوضِّئ رسول الله ﷺ فنـزع قميصه وكسائيه فرفعته، وخبأت قلامة أظفاره، فإذا مت، فألبسوني القميص على جلدي، واجعلوا القلامة مسحوقة في عيني، فعسى الله أن يرحمني ببركتها (سير أعلام النبلاء: 3/ 159-160)
وقال الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة التابعي الجليل عبيدة بن عمرو السلماني رحمه الله تعالى: عَنْ عَبِيْدَةَ، قَالَ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الأَشْرِبَةِ، فَمَا لِي شَرَابٌ مُنْذُ ثَلاَثِيْنَ سَنَةً إلَّا العَسَلُ وَاللَّبَنُ وَالمَاءُ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقُلْتُ لِعَبِيْدَةَ: إِنَّ عِنْدَنَا مِنْ شَعْرِ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ شَيْئاً مِنْ قِبَلِ أَنسِ بنِ مَالِكٍ. فَقَالَ: لأَنْ يَكُوْنَ عِنْدِي مِنْهُ شَعْرَةٌ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ صَفْرَاءَ وبيضاء على ظهر الأرض.اهـ. وهذه الرواية أصلها في صحيح البخاري:
عَنِ ابْنِ سِيرِينَ رحمه الله تعالى، قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ رحمه الله تعالى: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ ﷺ أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ» فَقَالَ: لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (صحيح البخاري: 170)
بعد أن عرفت هذا لا بد أن نتأمّل نحن وإياك الكلام الذي يفيض بالمحبة والشوق إلى رسول الله ﷺ من إمام مشهور بحرصه على هدي الحبيب ﷺ وذبّه عن السنة الشريفة يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى بعد ذكر هذه الرواية: هَذَا القَوْلُ مِنْ عَبِيْدَةَ هُوَ مِعْيَارُ كَمَالِ الحُبِّ، وَهُوَ أَنْ يُؤْثِرَ شَعْرَةً نَبَوِيَّةً عَلَى كُلِّ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ بِأَيْدِي النَّاسِ. وَمِثْلُ هَذَا يَقُوْلُهُ هَذَا الإِمَامُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِيْنَ سَنَةً، فَمَا الَّذِي نَقُوْلُهُ نَحْنُ فِي وَقْتِنَا لَوْ وَجَدْنَا بَعْضَ شَعْرِهِ بِإِسْنَادٍ ثَابِتٍ أَوْ شِسْعَ نَعْلٍ كَانَ لَهُ أَوْ قُلاَمَةَ ظُفْرٍ أَوْ شَقَفَةً مِنْ إِنَاءٍ شَرِبَ فِيْهِ، فَلَوْ بَذَلَ الغَنِيُّ مُعْظَمَ أَمْوَالِهِ فِي تَحْصِيْلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ أَكُنْتَ تَعُدُّهُ مُبَذِّراً أَوْ سَفِيْهاً؟ كَلاَّ! فَابْذُلْ مَا لَكَ فِي زَوْرَةِ مَسْجِدِهِ الَّذِي بَنَى فِيْهِ بِيَدِهِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ عِنْدَ حُجْرَتِهِ فِي بَلَدِهِ وَالْتَذَّ بِالنَّظَرِ إِلَى أُحُدِهِ وَأَحِبَّهُ، فَقَدْ كَانَ نَبِيُّكَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّه وَتَمَلَّأْ بِالحُلُوْلِ فِي رَوْضَتِهِ وَمَقْعَدِهِ، فَلَنْ تَكُوْنَ مُؤْمِناً حَتَّى يَكُوْنَ هَذَا السَّيِّدُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ وَوَلَدِكَ وَأَمْوَالِكَ وَالنَّاسِ كُلِّهِم. وَقَبِّلْ حَجَراً مُكَرَّماً نَزَلَ مِنَ الجَنَّة، وَضَعْ فَمَكَ لاَثِماً مَكَاناً قَبَّلَهُ سَيِّدُ البَشَرِ بِيَقِيْنٍ فَهَنَّأَكَ اللهُ بِمَا أَعْطَاكَ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ مَفْخَرٌ وَلَوْ ظَفِرْنَا بِالمِحْجَنِ الَّذِي أَشَارَ بِهِ الرَّسُوْلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الحَجَرِ ثُمَّ قَبَّلَ مِحْجَنَهُ، لَحُقَّ لَنَا أَنْ نَزْدَحِمَ عَلَى ذَلِكَ المِحْجَنِ بِالتَّقْبِيْلِ وَالتَّبْجِيْلِ وَنَحْنُ نَدْرِي بِالضَّرُوْرَةِ أَنَّ تَقْبِيْلَ الحَجَرِ أَرْفَعُ وَأَفَضْلُ مِنْ تَقْبِيْلِ مِحْجَنِهِ وَنَعْلِهِ.ﷺ. (سير أعلام النبلاء: 5/ 9)
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ (صحيح البخاري: 171)
وأبو طلحة هو زوج أم سليم والدة أنس رضي الله عنهم
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح: وفيه التبرك بشعره ﷺ وجواز اقتنائه (فتح الباري: 1/ 274)
يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى أيضاً: كَانَ ثَابِتٌ البُنَانِيُّ رحمه الله تعالى إِذَا رَأَى أَنَسَ بنَ مَالِكٍ رضي الله عنه أَخَذَ يَدَهُ، فَقَبَّلَهَا، وَيَقُوْلُ: يَدٌ مَسَّتْ يَدَ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ، فَنَقُوْلُ نَحْنُ إِذْ فَاتَنَا ذَلِكَ: حَجَرٌ مُعْظَّمٌ بِمَنْزِلَةِ يَمِيْنِ اللهِ فِي الأَرْضِ مَسَّتْهُ شَفَتَا نَبِيِّنَا ﷺ لاَثِماً لَهُ.
فَإِذَا فَاتَكَ الحَجُّ وَتَلَقَّيْتَ، الوَفْدَ فَالْتَزِمِ الحَاجَّ، وَقَبِّلْ فَمَهُ، وَقُلْ: فَمٌ مَسَّ بِالتَّقْبِيْلِ حَجَراً قَبَّلَهُ خَلِيْلِي ﷺ (سير أعلام النبلاء: 5/9)
وقال رحمه الله تعالى في موضع آخر: قال الخَلاَّلُ رحمه الله تعالى: أَخْبَرَنِي عِصْمَةُ بنُ عِصَامٍ رحمه الله تعالى حَدَّثَنَا حَنْبَلٌ رحمه الله تعالى قَالَ: أَعطَى بَعْضُ وَلَدِ الفَضْلِ بنِ الرَّبِيْعِ أَبَا عَبْدِ اللهِ (أحمد بن حنبل) رحمهم الله جميعا- وَهُوَ فِي الحَبْسِ - ثَلاَثَ شَعرَاتٍ، فَقَالَ: هَذِهِ مِنْ شَعْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَأَوْصَى أَبُو عَبْدِ اللهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُجعَلَ عَلَى كُلِّ عَيْنٍ شَعرَةٌ، وَشَعرَةٌ عَلَى لِسَانِهِ، فَفُعِلَ ذَلِكَ بِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ. (سير أعلام النبلاء: 11/ 337)
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى في مناقب الإمام أحمد رحمه الله تعالى:
(الباب الرابع والعشرون في ذكر تبركه واستشفائه بالقرآن وماء زمزم وشعر الرسول ﷺ وقصعته).
ثم روى ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن صالح ابن الإمام أحمد رحمهما الله تعالى قال: كنت ربما اعتللت فيأخذ أبي قدحاً فيه ماء فيقرأ فيه ثم يقول: اشرب منه واغسل وجهك ويديك.
وروى ابن الجوزي رحمه الله تعالى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل رحمهما الله تعالى قال: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر ﷺ فيضعها على فيه ويقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه، ويغمسها في الماء، ثم يشربه يستشفي به، ورأيته قد أخذ قصعة النبي ﷺ فغسلها في حب الماء – أي الجرة – ثم شرب فيها، ورأيته غير مرة يشرب ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به بدنه ووجهه. اهـــ (مناقب الإمام أحمد: 186-187)
هذا القسم الأول من بعض الأدلة والفوائد حول مفهوم التبرك ومشروعيته وقد رجعت في جمعه إلى رسالتين هامتين الأولى: كتاب (مفاهيم يجب أن تصحح للشيخ محمد علوي المالكي رحمه الله تعالى) مع رسالة أخرى تحت عنوان: كلمة هادئة في التبرك للدكتور عمر عبد الله كامل رحمه الله تعالى وغيرها من مصادر أهل السنة والجماعة المثبتة ونتابع في القسم الثاني إن شاء الله والذي سيتم نشره على هذه الموقع بإذن الله تعالى.
#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
تعليقات