ماذا بعد رمضان وماذا استفدنا من مدرسة الصيام؟ | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الثلاثاء،11-مايو-2021

ماذا بعد رمضان وماذا استفدنا من مدرسة الصيام؟

الحمد لله رب العالمين القائل: .

الصوم لي وأنا أجزي به. (صحيح البخاري ٧٤٩٢)

والصلاة والسلام على سيدنا وحبيبنا سيد الأولين والآخرين المبيّن عن ربه القائل:

الصيامُ جُنَّةٌ من النارِ. (أخرجه النسائي ٢٢٣١)

فلقد رأى وهب بن الورد قوماً يضحكون في يوم عيد فقال: إن كان هؤلاء تُقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الشاكرين وإن كان لم يتقبل منهم صيامهم فما هذا فعل الخائفين. (لطائف المعارف لابن رجب ص ٢٠٩)

وهكذا أيها الأحبة لقد شرفنا الله عز وجل وأكرمنا بشهر رمضان المبارك وطلب منا سبحانه وتعالى أن نعمل فيه بما يوصلنا إلى التقوى التي هي غاية تشريع رمضان.

يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ. (البقرة ١٨٣)

فكم حثنا القرآن على التقوى.

وَلَقَدۡ وَصَّيۡنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَإِيَّاكُمۡ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ.(النساء ١٣١)

وغيرها الكثير من الآيات، والتقوى هي التزام الأوامر واجتناب النواهي وهذا المطلوب من المسلم في كل أحيانه كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم: اتق الله حيثما كنت. (الترمذي حديث ١٩٥٨)

دعونا أيها الأحبة نقف وقفات على وداع خير الشهور فالصيام الذي كلفنا الله عز وجل به تكليفاً، يعلمنا التقوى التي تصبح لنا بعد رمضان سمةً ومنهجاً وسجيةً، فالإنسان بعد رمضان ينبغي أن يدوم له ما كان عليه في رمضان ما استطاع من خلال:

  1. ترك الشهوات والصبر عنها.
  2. مراقبة الله عز وجل.
  3. العمل على رضى الله سبحانه وتعالى.
  4. صلة الأرحام.
  5. النفقات والصدقات.
  6. التلاوة والذكر.

ولذا قال أهل الله: من علامة القبول في رمضان أن يكون المسلم بعد رمضان أحسن حالا مما كان عليه بعد رمضان.(لطائف المعارف لابن رجب: ٢٢١ بتصرف)

وتأمّل إلى لذة الشعور بالفرحة بعد العبادة، والذي ذاقه الصائم في رمضان أياماً معدودات ثلاثين يوما أو قريب، في كل يوم فرحة عند الفطر بإتمام هذه النعمة، ثم الفرحة الكبرى في يوم العيد عندما أتم صيام هذا الشهر المبارك، فهناك لذه وفرحة بعد كل طاعة، لذا فإن أهل الله تعالى على سرور دائم؛ لأن أنفاسهم مع الطاعات لربهم جلّ وعلا.

ونحن نحمد الله أن وفقنا وهدانا لإتمام هذا الشهر المبارك، وعوضنا إذا أفطر المسلم في رمضان لسببٍ مّا أن يقضي، وإذا كان معذوراً له أن يفطر مع مَن رُخّص له الفطر في رمضان ثم يقضي أو يدفع فدية إن عجِز، وهذا كله فضل وهداية من الله سبحانه وتعالى، كيلا يفوّت ربنا سبحانه وتعالى الخير علينا، فالمعذورون يقضون بعد رمضان أو يفدون حتى يحصّلوا ويعوضوا هذا الخير والفضل المبارك من شهر رمضان، فهو الذي قال:

وَلِتُكۡمِلُواْ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ. (البقرة١٨٥)
أي عدّة ما أفطره المريض والمسافر في رمضان. (تفسير الطبري ١ ص١٦٣ بتصرف)

زمن العمل الصالح لا ينتهي:

إذنْ رمضان شهر هداية... رمضاننا نور.. رمضاننا دستور... رمضاننا بيان... فالمحروم هو من كان يعيش في رمضان كأنه تكليف شديد، أو مشقة، ويريد أن يخلص من هذا الامر، فهنا هو كالأجير الكسول الذي ما يوشك أن ينتهي من عمله حتى يذهب ولا يزيد لا كماً ولا نوعاً على عمله، أما العامل الكريم فهو الذي يحب سيده ويعمل بحب وإذا أتم ما طُلب منه يبقى في العمل حتى يرى صاحب العمل ويتقرّب منه، وكذا شأن المؤمن المحب لله سبحانه يصوم بحب ويفطر بشوق ويتعلق برب رمضان، فرب رمضان هو رب شعبان ورب شوال ورب الشهور والسنوات والأيام والأعوام والدهور والأزمنة كلّها.

نعم إن المؤمن الحقّ هو الذي يتقرب لله عز وجل في سائر أحيانه وفي كل شؤونه، وقد جعل الله رمضان شهراً لتزكية النفوس وموسماً للهداية والعناية، حتى يذوق الإنسان هذه اللذة التي تصبح بعد أن كانت هديةً من الله عطاءً ومنحةً، يستقطبها ويطلبها المحب تكليفاً وتشريفاً بعد أن ذاق حلاوتها، فيمدّه الله عز وجل بعدها بالمدد الإلهي والأنوار الربانية لأجل مواظبته، فالله الله في العهد مع الله في رمضان، والله الله في الصلة مع الله في رمضان وفي نسمات ليالي رمضان.

فيا عبد الله كن بعد رمضان عبداً لله لا تكن عبد رمضان، كن عبداً لله لتكون كل أيامك رمضان، كن عبداً لله لتكون كل أيامك ليلة القدر.

وعندي عيدي كُلَّ يومٍ أرى به ***جَمالَ مُحَيَّاها بعَينٍ قريرةِ
وكُلّ اللَّيالي ليلةُ القَدْرِ إنْ دَنَتْ***كما كلّ أيَّامِ اللَّقا يومُ جُمْعةِ
(ابن الفارض)

وتدبّروا معي: وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ. (البقرة١٨٥)

إشراقات العبادة بعد المشقة والمجاهدة:

إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقة عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه لأن معنى.وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ. (البقرة١٨٥)

يعني أن تقول: " الله أكبر " وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات، فتقول: الله أكبر من كل ذلك، الله أكبر لأنه حين يمنعني يعطيني، وسبحانه يعطي حتى في المنع فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقومات الحياة وهو الإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه أعطاك نعمة أكثر منها. (تفسير الشيخ الشعراوي (سورة البقرة))

خطورة الإعراض عن الطاعات بعد مواسم الخيرات:

والإنسان أيها الأحبة الكرام إذا صام رمضان ثم تفلّت بعد رمضان فهذه رسالة خطيرة وسوء أدب مع الله عز وجل، فربنا سبحانه وتعالى جعل رمضان كإنسان دخل إلى غرفة الإنعاش وإلى العمليات، ثم يبقى مدة من الزمن يتعالج بأفضل العلاج وأحسنه، ثمّ تُكْتب له وصية وإرشادات ليواظب عليها كيْ يبقى سليماً معافى، فإذا خرج ولمْ يعمل بهذه التوصيات، انْتكسَ، فهل هذا عيب فيه أم بالمشفى؟ لكنه إن التزم الوصايا والإرشادات طاب ليله ونهاره وسلِم له قلبه وحياته، وهكذا هو شهر الصيام والقيام، هو دورة علاجية من أخذَ بها وداوم بعد رمضان ملتزماً بوصايا ربه فيها كان في ترقّ دائما بإذن الله.

فرمضان رسالة لي ولك أخي الحبيب رسالة تقول لنا: أنت قادر والتكليف يسير، فإذا قالت لك النفس إن هذا الأمر صعب! فقل لها: طيب لماذا في رمضان لم يكن صعباً؟ كنت تقوم عشرين ركعة، فلِمَ نتكاسل بعد رمضان عن الصلاة المكتوبة أو عن ثمان ركعات من قيام الليل؟ (رسالة رمضانية)

كنت تصوم شهر كاملاً، فلِم تتكاسل عن يوم أو يومين في الشهر الآن؟ (رسالة رمضانية)

كنت تشعر بالمراقبة لله فلا تأكل ولا تشرب ولو كنت وحدك عطشاناً، فلِم تضعُف هذه المراقبة بعد رمضان (رسالة رمضانية)

وهكذا تأتيك رسائل كثيرة تقول لك التقصير منك ومني فلا تلومنَّ الزمان والمكان،

إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌۖ أُجِيبُ دَعۡوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِۖ فَلۡيَسۡتَجِيبُواْ لِي وَلۡيُؤۡمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمۡ يَرۡشُدُونَ. (البقرة١٨٦)

ولهذا قال ﷺ:

أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ. (أخرجه البخاري (٦٤٦٥)، ومسلم (٧٨٣))

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله ﷺ:

يَا عَبْدَ اللهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ، كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ. (صحيح البخاري ١١٥٢)

وداع رمضان:

جاء عن المعلّى بن الفضل وهو يحكي عن السلف أنهم: كانوا يدعون الله عز وجل ستة أشهر أن يبلغهم شهر رمضان، ويدعون الله ستة أشهر أن يتقبل منهم. (لطائف المعارف لابن رجب ص ٢٠٩)

ويُروى عن سيدنا عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال: " كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل؛ ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: إنما يتقبل الله من المتقين. (لطائف المعارف:٢٣٢)

وقيل لبشر: إن قوما يتعبدون ويجتهدون في رمضان فقال: بئس القوم لا يعرفون لله حقا إلا في شهر رمضان إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السنة كلها. (لطائف المعارف لابن رجب ص ٢٢٢)

فمن حسْن خاتمة رمضان أن تتزود بالنيات الصالحات لما بعد رمضان، فإذا انقضى عنك رمضان فلتبقى معك أنواره وأسراره، وانشغالنا بالعيد بالتكبير تثبيت للحق في الضمير ورسم للخط الذي عليه نسير، شأن المقبول في رمضان أن يبقى حبله موصول ورجاؤه بالفوز مأمول.

أحوال الناس بعد رمضان:

لقد انقضى رمضان، وإذا نظرنا في حالنا في رمضان وجدنا الناس صنفين رئيسين، وبينهما أصناف تتفاوت قربًا وبعدًا، هذان الصنفان كعبدين لسيدٍ واحد، أحدهما طائع مقبل، والآخر عاصٍ مدبر، فالعبد الأول إذا كلفه سيده بعمل أتى به على الوجه الأكمل بمحبةٍ وتفانٍ، ويرجو أن يُكلَّف بعمل آخر.

والعبد الآخر يأتي بالعمل وهو كاره له، يؤديه كيفما اتفق، يصل إلى نهايته بشقِّ النفس، ويتمنى ألا يُكلّف بعمل جديد.

وانقسم الناس بعده إلى ثلاثة أحوال: ـ

الحال الأول: عزة الإقبال على الله:

قوم كانوا في إقبال على الله سبحانه، وعلموا أن الله سبحانه شرع لنا لنربح منه لا ليربح علينا، فاستعدوا وتهيأوا وشمروا واجتهدوا فحازوا وفازوا وترقبوا وتقربوا وفهموا فهاموا، فكانوا لرب رمضان أرغب منهم إلى رمضان فدام وصلهم وزاد عزهم وقطفوا ثمرات العمل الصالح الذي عملوه وأخلصوا لله به نسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم.

الحال الثاني: ذلّة الغفلة عن الله:

قوم كانوا قبل رمضان في إعراض وغفلة، فلما فاجئهم رمضان أقبلوا على الطاعة من صيام وقيام ومازالت قلوبهم متعلقة بالدنيا وشهواتها، فلما انتهى رمضان عادوا لما اعتادوا وأنفقوا ما جمعوا، فلا زاد لهم دائم ولا حال فيهم قائم.

فلهؤلاء نقول: من كان يعبد رمضان فإن رمضان قد فات، ومن كان يعبد الله فان الله حي لا يفوت، رمضان يفنى والرب يبقى زمن العمل الصالح لا ينتهي ومن الخسارة هدم البناء.

كيف تعود إلى المعاصي وقد محاها الله من صحيفتك؟

أيُعتِقُك الله من النار فتعودُ إليها؟

أيبيّضُ الله لك صحيفتك من الأوزار وأنت تسوِّدُها؟

فيا من صام لسانه في رمضان عن الغيبة والنميمة والكذب، واصل مسيرتك وجدّ في الطلب..

ويا من صامت عينه في رمضان عن النظر الحرام.. غضَّ طرفك ما بقيت.. يورثِ الله قلبَك حلاوة الإيمان ما حييت.

ويا من كنت تصوم مع الصائمين، وتقوم مع القائمين، إياك أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا وتذكر يا أخي قول الله تعالى لنا: إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ. فغيِّر من حالك، وتب من ذنوبك، وأقبل على ربك، فإنك والله لا تدري متى تموت، ولا تدري متى تغادر هذه الدنيا، فما أقبح القطيعة بعد الوصال! وما أقبح الهجر بعد الوداد!

الحال الثالث: خسارة الغفلة عن الله:

قوم دخل رمضان وخرج رمضان، وحالهم كما هو لم يتغير منهم شيء، فلا هم استعدوا ولا تهيؤوا فصاموا كرها وقاموا كرها، وبدل أن يكون لسان الحال أرحنا به يا بلال كان حالهم أرحنا منه يا بلال، ومن الأمثال المخالفة نعوذ بالله قولهم: (فراقه عيد) أي الخلاص من رمضان عيد يقولونها على سبيل التهكم!

فيا خسارة من ذهب عنه رمضان بلا مغفرة ولا توبة وقد نبه الحبيب صلى الله عليه وسلم من خطر هذا الحال:

ورغمَ أنفُ رجلٍ دخل عليه رمضانَ ثم انْسَلَخ قبل أن يُغْفر لهُ. (سنن الترمذي ٣٥٤٥)

وما أوضح تنبيه سيدنا الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى حين قال: إن الله جعل رمضان مِضماراً لخلقه؛ يتسابقون فيه بطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلف آخرون فخابوا. فالعجب من اللاعب الضاحك في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر المبطلون. (لطائف المعارف لابن رجب ص ٢٠٩)

سلام من الرحمن كل أوان***على خير شهر قد مضى وزمان
سلام على الصيام فإنه***أمان من الرحمن كل أمان
لئن فنيت أيامك الغر بغتة***فما الحزن من قلبي عليك بفان
(لطائف المعارف لابن رجب ص ٢١٦)

اللهم اجعلنا عبيدا لك كما تحب وترضي واجعل إقبالنا عليك إقبال الصالحين والصدّيقين وأكرمنا بالقبول والثبات بجاه سيد المرسلين آمين.

والحمد لله رب العالمين

تعليقات



رمز الحماية