نموذج فريد وسيرة عطرة للإمام الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه (الجزء الأول) | محمد إلياس السكندري


نشرت: يوم الأَربعاء،02-أكتوبر-2024

نموذج فريد وسيرة عطرة للإمام الحسن بن علي رضي الله تعالى عنه (الجزء الأول)

يخلّد التاريخ أسماء عظماء تنوّعت فضائلهم ومكارمهم، فمنهم من اشتهر بالشجاعة، وصار رمزًا يضرب به المثل، ومنهم من اتّصف بالحكمة والقدرة على القيادة والإدارة، فكان بمثابة قدوة يحتذى به لدى أصحاب السلطة، ومنهم من ذاع صيته بالكرم، فمجرد ذكر اسمه يحفّز على البذل والعطاء، ومنهم من اشتهر بالحزم والعزيمة، فلا يتراجع عن قرار اتّخذه، ومنهم من اتّسم بقوة العزم وطموح لا حدود له، لا يتردّد ولا يتراجع عن تحقيق أهدافه السامية، ومنهم من اشتهر بالحلم والصفح والعفو، وسعيٍ دائم للمصالحة، حتى يرى أن التنازل عن جاهه وسلطانه وماله أهون عنده من إراقة قطرة دم واحدة لمسلم، ومن هذا الصنف الأخير سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما، حيث كان مثالا يحتذى به في الحلم والصفح والعفو.

فضائله:

الحسن بن علي رضي الله عنهما، تجسيد فريد لكلّ ما يرنو إليه الإنسان من عظمة ومكانة سامية، فهو سبط سيد الأنبياء والمرسلين سيدنا وحبيبنا محمد رسول الله ﷺ وريحانته، وسيد شباب أهل الجنة بشهادة جده الكريم ﷺ ونسبه العريق يزخر بمكارم الأخلاق، فوالده عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول الله ﷺ، وأمّه فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ وسيدة نساء العالمين.

وقد ورث عن جده ﷺ مكارم الأخلاق، حتى قيل: إنّه كان أشبه الناسِ برسول الله ﷺ خَلْقا وخُلُقا كما روي عن سيدنا أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ:

«لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِي (مسند أحمد: 12674).

ولادته:

ولد سيدنا الحسن بن علي - رضي الله عنهما - في مدينة النور، في شهر شعبان أو منتصف شهر رمضان المبارك، عام ثلاثة هجرية فاستقبله جده العظيم ﷺ بحنان أبوي، وأذن في أذنه الكريمة، لتكون كلمة التوحيد أول ما يسمعه قلبه الطاهر، ثم لفه في ثوب أبيض، وطيب فمه الشريف بريقه المبارك، ودعا له بدعاء خفي، وسماه "الحسن" وعق عنه النبي ﷺ.

ويروى أن سيدنا عليًا - رضي الله عنه - كان قد سمى ابنه "حربا"، لكن رسول الله ﷺ حين رأى المولود الكريم، قال: "لا، بل هو حسن".

فكان ذلك الاسم المبارك خير تعبير عن صفاء روحه وجمال خلقه (ملخصا من سير أعلام النبلاء: 4/ 326- 328).

نشـأته:

نشأ سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما في ظلال رعاية نبوية استثنائية، حفرت في شخصيته معالم عظيمة من الأخلاق النبيلة والسلوكيات السمحة؛ لأن النبي ﷺ حرص على تعهده منذ صغره، يوجهه ويربيه تحت عنايته، فقد صنع النبي ﷺ حفيده الحسن بن علي رضي الله عنهما نموذجًا فريدًا للإنسان الرحيم، العادل، المتواضع، الكريم، فكانت تربيته النبوية بمثابة شعلة أضاءت دروب حياته، وجعلت منه قدوة يقتدي به المسلمون عبر العصور.

فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قَالَ:

كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ حَامِلَ الْحسن بْنِ عَلِيٍّ عَلَى عَاتِقِهِ فَقَالَ رَجُلٌ: نِعْمَ الْمَرْكَبُ رَكِبْتَ يَا غُلاَمُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: وَنِعْمَ الرَّاكِبُ هُوَ (سنن الترمذي: 3784).

ولما اشتد عوده كان يأتي إلى النبي ﷺ فيجده يصلي فيدور حوله، ويحاول أن يخرج من بين رجليه فيفسح له رسول الله ﷺ، وإذا وجده ساجدًا ركب فوق ظهره فينتظره ﷺ حتى يهبط من فوقه (سير أعلام النبلاء: 4/ 329 بتصرف).

وعن أبي بكرة رضي الله عنه قَالَ:

كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِنَا، وَكَانَ الْحَسَنُ يَجِيءُ وَهُوَ صَغِيرٌ، فَكَانَ كُلَّمَا سَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَثَبَ عَلَى رَقَبَتِهِ وَظَهْرِهِ، فَيَرْفَعُ النَّبِيُّ ﷺ رَأْسَهُ رَفَعًا رَقِيقًا حَتَّى يَضَعَهُ (صحيح ابن حبان: 6964).

وقد تركت تلك التربية السامية بصماتها على شخصية سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه فكان مثالا للرأفة والبرّ بالخلق أجمعين.

وتجلى ذلك التأثير بوضوح في العديد من المواقف، منها ما روي عنه أنه رأى غلاماً أسود يأكل من رغيف لقمة ويطعم كلباً لقمة أخرى، ففاضت مشاعره بالشفقة، وسأله عن سبب فعله. فأجابه الغلام بأنه يستحي أن يأكل وحده دون أن يطعم الكلب. فما كان من الحسن رضي الله عنه إلا أن اشتراه من سيده، وأعتقه، ومنحه الحائط الذي كان يعمل فيه (البداية والنهاية: 8/42بتصرف).

ولم تكن هذه الحادثة استثناء، بل كانت سلوكا راسخا في شخصية سيدنا الحسن رضي الله عنه نابعةً من تربيته على يد النبي ﷺ، فقد حرص النبي الكريم ﷺ على غرس قيم الورع والزهد في نفس حفيده منذ صغره، حتى لا ينبت في قلبه بذور الجشع والطمع، التي غالبا ما تقسو القلوب وتفقد الرحمة، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال:

أَخَذَ الحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ، فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كِخْ كِخْ لِيَطْرَحَهَا، ثُمَّ قَالَ: «أَمَا شَعَرْتَ أَنَّا لاَ نَأْكُلُ الصَّدَقَة (صحيح البخاري: 1491).

بذلك تميز الحسن بن علي رضي الله عنهما بصفات جليلة، جعلته منارة يقتدى بها في سلوكياته وأخلاقه، بتلك المكارم التي تحلّى بها رضي الله عنه جعلت المسلمين جميعا يحبّونه وزاد حبّهم له عندما علموا أنّ النبيّ ﷺ كان يدعو الله أن يحبّه ويحبّ من يحبّه كما روى سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ ﷺ قال:

اللَّهُمَّ إِنِّي أُحِبُّهُ فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ (صحيح البخاري: 5884).

أزواجه وأولاده:

قال الإمام ابن كثير رحمه الله: كان الحسن بن علي كَثِيرَ التَّزَوُّجِ، وَكَانَ لَا يُفَارِقُهُ أَرْبَعُ حَرَائِرَ (البداية والنهاية: 8/38 بتصرف) ، كان له رضي الله عنه من الولد خمسة عشر ذكرًا وثمان بنات (صفة الصفوة: 1/ 299 بتصرف).

وسيدنا الإمام المهْدي سيكون من أَوْلَاده رضي الله تعالى عنهما: كما روى الإمام أَبُو دَاوُود عَن أَبِي إِسْحَاقَ رحمهما الله تعالى قَالَ: قَالَ سيدنا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَنَظَرَ إِلَى ابْنِهِ الْحَسَنِ، فَقَالَ:

«إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ كَمَا سَمَّاهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَسَيَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِاسْمِ نَبِيِّكُمْ، يُشْبِهُهُ فِي الْخُلُقِ، وَلَا يُشْبِهُهُ فِي الْخَلْقِ - ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةً - يَمْلَأُ الْأَرْضَ عَدْلًا» (سنن أبي داود: 4290).

بيعته بالخلافة:

عندما بويع سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما بالخلافة بعد استشهاد والده سيدنا علي كرم الله وجهه اجتمع الناس إليه محتشدين، فرآهم كأنّهم جبالٌ من الحديد، كلهم يهوى القتال معه. فقال رضي الله عنه: "أضربُ بين هؤلاء وبين هؤلاء (يقصد أهل الشام) في ملك من ملك الدنيا لا حاجة لي فيه (الشريعة للآجري: 5/ 2168 بتصرف) ، ولقد كان سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما مثالا للسيادة الحقيقية التي تسعى لإصلاح أحوال الناس في الدنيا والآخرة، فقد آثر مصلحة الأمة على نفسه، وفضّل حقن دماء المسلمين على استمرار الفتنة والصراع.

تجلى ذلك في موقفه عندما جاءه قيس بن سعد أول المبايعين له، واشترط عليه قتال "المحلين" (أي الذين شاركوا في معركة الجمل). فرفض الحسن هذا الشرط، مؤكداً على الالتزام بكتاب الله وسنة نبيه، وأن قتال المحلين سيأتي تلقائيًا إن لزم الأمر (تاريخ الطبري: 5/ 158 بتصرف).

صعوده إلى الرفيق الأعلى:

وبعد حياة قصيرة حافلة بالعطاء والإنجازات، لحق سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنهما بالرفيق الأعلى، ليرقد في جوار ربه في شهر ربيع الأول من سنة تسع وأربعين أو خمسين للهجرة، عن عمر يناهز ستة وأربعين أو سبع وأربعين عامًا.

وُدّع الحسن بن علي رضي الله عنهما بجنازة مهيبة، شارك فيها جمع غفير من المسلمين، يذكرنا ذلك بمدى حبهم وتقديرهم له.

فقد روى ثعلبة بن أبي مالك قائلاً: شهدنا الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يوم مات، ودفناه بالبقيع، ولو طرحت إبرة ما وقعت إلا على رأس إنسان (مرآة الزمان في تواريخ الأعيان لسبط ابن الجوزي 7/ 132).

أخيرا!

في هذه الومضة المباركة من حياته، لمسنا بعضًا من صور حياة الإمام الجليل الحسن بن علي رضي الله عنهما، ذكرنا طرفاً من صفحات سيرته المشرقة، أما دوره العظيم في صلح الأمة وتوحيدها، فسوف نتناول تفاصيله في رحلة قادمة بإذن الله تعالى.

كان الإمام الحسن رضي الله عنه، بحق، رمزًا للسلام والتضحية، وعنوانًا لوحدة الأمة، فنسأل الله تعالى أن يشمله برحمته الواسعة، وأن يجعلنا وإياه من المخلصين المقبولين، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.


تعليقات



رمز الحماية