مدونات مختارة
الأكثر شهرة
النور والضياء في الاهتداء بالمرشدين والأولياء | طارق المحمد
الهداية والطريق إلى الله لها مسالك وضوابط وجه إليها القرآن ليحصل بعد ذلك على ثمرات هذه الهداية؛ ولذلك فقد أرسل الله تعالى الرسل وجعل للرسل خلفاء وورّاثًا يحملون سرّ الهداية والاهتداء إلى الله تعالى، وسنة الله جارية في الكون ضمن هذا المنهج:
رُّسُلٗا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ النساء 165
وفَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ.... سورة البقرة 213
والمنهج الذي وجه إليه القرآن:
ٱلرَّحۡمَٰنُ فَسۡـَٔلۡ بِهِۦ خَبِيرٗا. الفرقان 59،
ووَٱتَّبِعۡ سَبِيلَ مَنۡ أَنَابَ إِلَيَّۚ لقمان 15،
وفَسۡـَٔلُوٓاْ أَهۡلَ ٱلذِّكۡرِ.... النحل/43.
فكما أن الرزق الدنيوي يلزم إليه السعي كذا يلزم السعي للرزق المعنوي بالاهتداء، أما خلق الله الهداية بلا سبب أو بسبب آخر غير صحبة الولي خرقًا للعادة فليس منهج يسلك ولا طريق يتبع لأنك قلت هو خرق للعادة ونحن ملزمين بسلك ما هو معتاد لا الخوارق فتأمل !
تمامًا كما أنه يمكن أن يُرزق الإنسان بلا عمل وسعي لكن العادة جرت أن يسعى ليستكسب الرزق لا أن ينتظر الأمر الخارق؛ لأن هذا خرق لقواعد الشريعة، والشريعة تقول في معرض التحريض على الرزق الدنيوي:
فَٱمۡشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا الملك 15
ويقول جل وعلا في معرض التحريض على الهداية:
أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقۡتَدِهۡۗ الأنعام90،
ووَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩ العنكبوت: 69
ويَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّٰدِقِينَ ١١٩. التوبة 119
وفي الحديث:
انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ... صحيح مسلم (٢٧٦٦).
والنصوص كثيرة وهذا هو المنهج للهداية والسير والاهتداء... والعلماء الربّانيون والمرشدون الصالحون موجودون لا يغيبوا ولا ينقطعوا ولكن قد ينحجبوا عن بعض العصاة من أمثالنا حفظًا لهم أو لحكمة.
واعلم أن من علامات الأولياء "الشفقة والاستقامة والرحمة والالتزام بالكتاب والسنة" وإن لم يكونوا أهل عصمة فإنا لا نضع في رؤوسنا احتمالية خطئهم كلما تكلموا كما يفعل أعداؤهم لإبعاد الفجوة بين الكتاب وبين أهل الذكر الذين يستنبطون من الكتاب...لأننا نتبَع عالِمًا خبيرًا ومستقيمًا ملتزمًا... أناب إلى الله، فكيف يصح لمريض الشفاء حين يذهب للطبيب الحاذق الخبير ثم هو يشكك فيه أو يعترض عليه! لا شك أنه بذلك يعرّض نفسه للتهلكة، وكذا في التسليم للأولياء ورّاث الأنبياء، فهم أهل الله أرباب الاستقامة والرحمة والشفقة والمحبة والهمّة والدعوة، وليس من التصوف في شيء التعظيم الذي يخرج الوليَّ عن حد الشريعة، وإن وجد عند بعض الجهلة فليس هو المعيار، بل إن فساد بعض الأطباء أو المهندسين أو السياسيين؛ لا يعتبر فسادًا لأصل الطب أو الهندسة أو السياسة فلنتأمل!
ثم إنه ليس بمقدور كل أحد من المسلمين أن يذوب في حضرة رسول الله ﷺ محبة واقتداء وأخذًا وارتواءً، نعم يُطلب من الجميع أن يتفانى في الاقتداء برسول الله ﷺ، كما أنه ليس بمقدور كل أحد أن يجتهد ويستنبط، بل المطلوب من كل أحد أن يسلك المنهج الرباني للهداية والصحبة والتعرف على الله، ومن ثبتت له القدرة أن يذوب في حضرة النبوة ويهتدي فليفعل، ولكن أين هم ونحن وهم محجوبون عن رسول الله ﷺ إلا ما رحم الله، ولذلك كانت مسالك الهداية وسبلها أولاً الكتاب والسنة، وتلقّي ذلك من خلال من وراثهما حالاً وقالاً وعلمًا وعملاً وسلوكًا وهو نادر قليل، وهو المرشد الوارث للصفات النبوية الخلقية، فلنبحث عنه ونلزمه وجوبًا؛ لأن الالتزام بالدين واجب وواقع الأمر أن أكثر الناس اليوم بعيدون عن الالتزام بدينهم وما كلّفهم الله به من الطهارة الظاهرة والباطنة، ليكون المرء على الشريعة السنة حقيقة لا ادّعاء، فكان واجبًا القيام بواجب ما كلّفنا الله به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
نعم صحبة الصالحين لا بد منها لمن أراد الهداية والترقي في المعارف؛ لأن المعرفة تحتاج لمعرّفٍ وهذا في كل ميدان فأنت تحتاج لمعرِّف في أيّ أمر من أمور الدنيا أفلا تحتاج لمعرف يعرفك على ربّك جلّ وعلا.
ولذلك قال أهل الله: الصحبة الصالحة سياج من الانزلاق وزيادة في الصلاح؛ لأن الصاحب ساحب، ويستكسب المرء بالصحبة من صدق الصادقين، والمرء على دين خليله.
ولو لم يكن شأن الأولياء لازم تعظيمه ومهم أمره لأجْل ولايتهم وصلاحهم وأنهم أسباب لهداية المسترشدين لما ألزمنا الشارع بالسلام عليهم وتذكرهم في أعظم ركن في الدين وهو الصلاة التي بين العبد وربه، بل يذكّرنا بذكرهم في كل ركعة في الفاتحة (صراط الذين أنعمت عليهم) ونذكرهم في كل جلوس للصلاة ونقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
قال سيدي ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في "لطائف المنن":
وأشد حجاب يحجب عن معرفة أولياء الله تعالى شهود المماثلة، وهو حجاب قد حجب الله به الأولين، قال سبحانه وتعالى حاكيًا عنهم:
"مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ تَشْرَبُونَ"، المؤمنون ،33
وقال أيضًا مخبرًا بحال بعضهم:
أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ القمر24،
وقال فيهم أيضًا:
وقالوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ الفرقان 7،
لذلك قال الصالحون: إذا أراد الله تعالى أن يعرِّفك بِوَلِيّ من أوليائه طوى عنك بشريته، وأشهَدَكَ وجود خصوصيته" 148 لطائف المنن.
وليس هذا إلا لتستفيد من سرّ الهداية المودع فيه فتحبُّه وتقتدي به، فإن رأيته مثيلاً لك أو بشرًا عاديًا حُجبت عن السر ونرى إليه كما نظر الأولون إلى بشرية الرسل وانحجبوا عن خصوصيتهم.
قال سيدي أبو المواهب التونسي رحمه الله تعالى: وإياك يا أخي أن تُحْرَمَ احترام أصحاب الوقت فتستوجب الطرد والمقت، فإنّ مَن أنكر على أهل زمانه حُرِمَ بركة أوانه. أهـ. (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار المعروف بـ"الطبقات الكبرى" للشعراني: 2/599).
ولهذا قال الشيخ أحمد التجاني رحمه الله تعالى كما في "جواهر المعاني": ومَن أعرض عن أهل عصره، مستغنيًا بكلام مَنْ تقدّمه مِنَ الأولياء الأموات طُبِعَ عليه بطابع الحرمان، وكان مثله كمن أعرض عن نبيّ زمانه وتشريعه مستغنيًا بشرائع النبيّين الذين خلوا قبله، فيسجّل عليه بطابع الكفر. أهـ. (الدرة الخريدة شرح الياقوتة الفريدة ص171 ج2)
قال سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في أول طبقاته:
وسمعت سيدي عليًا الخواص رضي الله تعالى عنه يقول: لو أن كمال الدعاة إلى الله تعالى كان موقوفًا على إطباق الخلق على تصديقهم لكن الأولى بذلك رسول الله ﷺ والأنبياء قبله، وقد صدقهم قوم، وهداهم الله بفضله، وحرم آخرون، فأشقاهم الله تعالى بعدله، ولما كان الأولياء، والعلماء على أقدام الرسل عليهم الصلاة والسلام في مقام التأسّي بهم، انقسم الناس فيهم فريقين، فريق معتقد مصدق، وفريق منتقد مكذب، كما وقع للرسل عليهم الصلاة والسلام ليحقق الله تعالى بذلك ميراثهم، فلا يصدقهم، ويعتقد صحة علومهم، وأسرارهم، إلا من أراد الله عز وجل أن يلحقه بهم ولو بعد حين، وأما المكذب لهم المنكر عليهم، فهو مطرود عن حضرتهم لا يزيده الله تعالى بذلك إلا بُعدًا، وإنما كان المعترف للأولياء، والعلماء بتخصيص الله تعالى لهم، وعنايته بهم، واصطفائه لهم قليلاً من الناس لغلبة الجهل بطريقهم، واستيلاء الغفلة، وكراهة غالب الناس أن يكون لأحد شرف بمنزلة، أو اختصاص حسداً من عند أنفسهم، وقد نطق الكتاب العزيز بذلك في قوم نوح عليه الصلاة والسلام فقال:
وَمَنْ ءَامَنَ ۚ وَمَآ ءَامَنَ مَعَهُۥٓ إِلَّا قَلِيلٌ هود: 40
وقال تعالى:
" وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يُؤۡمِنُونَ ١٧ " هود: 17،
و
" وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨٧" الأعراف: 187، ويوسف: 21.
وقال الله تعالى:
أَمۡ تَحۡسَبُ أَنَّ أَكۡثَرَهُمۡ يَسۡمَعُونَ أَوۡ يَعۡقِلُونَۚ إِنۡ هُمۡ إِلَّا كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّ سَبِيلًا ٤٤ الفرقان: 44،
وغير ذلك من الآيات. (لواقح الأنوار في طبقات الأخيار المعروف بـ"الطبقات الكبرى" للشعراني: 1/101).
وأكثر من ابْتُلِيَ بهذا الحجاب الفقهاء الذين يجْمُدون على علم الفروع، أو ما يسمى بالفقه وعلم الكلام وينضم إليه بكثرة أصحاب الثقافات المختلفة التي ليس لها صلة بعلم القلوب وتصحيح الباطن المشار إليه بقوله جل وعلا:
وَذَرُواْ ظَٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥٓۚ الأنعام 120
ولذلك قال أيضًا سيدي ابن عطاء الله رحمه الله تعالى في "لطائف المنن"، والقول مروي أيضًا عن سيدي أبي الحسن الشاذلي رحمه الله تعالى:
ولقد ابتلى الله سبحانه هذه الطائفة بالخلف، خصوصا أهل العلم الظاهر، فقَلَّ أن تجد منهم مَنْ شرح الله صدره للتّصديق بوليّ معيّن، بل يقول لك: نَعَمْ، نعلم أنّ الأولياء موجودون، ولكن أين هم؟ فلا تذكر له أحدا إلاّ وأخذ يدفع خصوصية الله فيه طلق اللسان باحتجاج عارٍ من وجود نور التصديق. فاحذر ممن هذا وصفه، وفِرَّ منه فرارك من الأسد". أهـ. 149 لطائف المنن لابن عطاء الله
واعلم أن العارف بالله بعد أن تسلك معه وتتهذب نفسك وتتزكّى، فإنه يزجّك في بحر المعارف ويراقبك مراقبة المدرب المربي عن كثب فإذا خاطرت او أشرفت على الخطر أنقذك، وإذا ضربت بك الأمواج سارع لينهض بك إلى بحر بلا أمواج، وإذا تهت أخرجك من التيه إلى بر النور والصفاء، فتعيش في صفاء بلا كدر، وعلم بلا شبهة، وتجلٍ دون أوهام، وبحقائق دون خيالات وهكذا ...فمن ابتعد عن العارف وظن أنه قادر بنفسه على الغوص في المعارف فإنه سيلقى حتفه في وسط الطريق، ومن ترك الأدب آل أمره إلى العطب.
العارف ذهب ورجع ليأخذ غيره وهذا هو كمال الكاملين يكمّلون غيرهم لا يتعلّقون بالمعارف ولا الوجدانات، ولا يشكّكون بالحقائق والعرفانات إذا لم يصلوا اليها، وربما بعضهم وصلوا إليها ولم يتحدثوا بها، وربما بعضهم وصل لشيء منها ولم يقدر على تعبيد الطريق لغيره ولم يكتمل له ذلك بعد!
وبعضهم لم يقفوا عندها أصلاً؛ لأن المقصود عند الجميع (إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي) فمطلوبهم واحد ألا وهو رضا الله تعالى والتحقق بالعبودية له على أكمل الوجوه.
وفاقد الشي لا يعطيه، وكم من سالك في الطريق ظن الوصول وهو لم يجتز الأصول، وظن المريد أو المتعلم أو المتفقه أنه صار مؤهلا للانفطام عن شيخه فهذا من عقبات الطريق وتلبيس النفس والشيطان، نسأل الله العافية والسلامة والأمان، كما نسأله جلّ وعلا ألا يجعلنا من المحجوبين ولا من أهل الحرمان إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين.
تعليقات