مدونات مختارة
الأكثر شهرة
كتابة آثار العباد من الصالحات والسيئات | الشيخ محمد قاسم العطاري
قال الله سبحانه تعالى:
إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمۡۚ (يس: 12)
التفسير:
إنا نحن بقدرتنا الكاملة نحيي الموتى يوم القيامة، ونكتب ما يعملون من الخير والشر من أعمالهم في الدنيا؛ لكي نجازيهم على ذلك يوم القيامة، وكما نسجل لهم أيضًا آثارهم وسُننَهم التي يتركونها بعد موتهم سواء كانت خيرًا أو شرًا. (التفسير الكبير: 9/ 257-258، بتصرف)
ذكر الله تعالى في الآية ثلاث نقاط رئيسية:
الأولى: إِنَّا نَحۡنُ نُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ
الثانية: وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ
الثالثة: وَءَاثَٰرَهُمۡ
النقطة الأولى: تُبيّن عقيدة القيامة، بأنّ الله تعالى يحيي الموتى يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم التي تسجل منذ الآن كما دلت النقطة التالية على ذلك.
النقطة الثانية: توضح كتابة الأعمال، لأنّ المراد بـ" وَنَكۡتُبُ مَا قَدَّمُواْ "ْ: الأعمال التي باشرها المرء بنفسه كالصلاة والصيام والحج والزكاة وقراءة القرآن والذكر والصلاة على النبي ﷺ وغيرها.
النقطة الثالثة: فيها أيضًا شيء مما يكتب، أي ءَاثَٰرَهُمۡ ، وفيها (الآثار) أربعة أقوال:
أحدها: يكتب كل ما سنّ الناس من سنن جديدة في الدين وتركوها لمن بعدهم، وهذه السنن إما أن تكون حسنة أو سيئة، ولكل منهما حكم يختلف عن الآخر، فالسنة الحسنة الجديدة تسمى "بدعة حسنة" كجمع القرآن في المصحف، وزخرفة المساجد، وبناء المحاريب والمآذن، وابتكار العلوم كالصرف والنحو، وكذلك الأنواع المختلفة من إهداء الثواب في الاجتماع بعد وفاة الميت بالثالثة، أو الأربعينية أو السنوية للميت، والأساليب الجديدة لإظهار المحبة للنبي ﷺ كالمسيرات والاحتفالات بالمولد النبوي الشريف، فجميع ذلك يعتبر من البدع الحسنة، ومن ابتدعها أو عمل بها فله الأجر والثواب بصدق نيته.
وأما ما أحدث من سنن سيئة جديدة فهي "بدعة سيئة"، ويأثم مخترعها وفاعلها.
وقد بيّن رسول الله ﷺ بيانًا واضحًا بشأن هاتين الطريقتين الحسنة والسيئة، فقال ﷺ:
مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ. (صحيح مسلم: صـ 394، (1017))
القول الثاني: أعمالهم من الخير والشر وهي التي لا تدخل في نطاق البدع إلا أنها تبقى آثارها حتى بعد الوفاة، ومن الأمثلة على الأعمال من الخير كأن:
(1) يقوم الشخص بتعليم تلاميذه العلمَ الشرعي، ثم يستمر طلابه في نشر هذا العلم حتى بعد وفاة أستاذهم.
(2) يؤسس معهدًا دينيًّا، ويبقى الطلاب يتعلمون فيه العلوم الدينية حتى بعد موته.
(3) يصنف كتابًا دينيًا يظل مطبوعًا حتى بعد رحيله إلى الآخرة.
(4) يبني مسجدًا تقام فيه الصلاة باستمرار حتى بعد مماته.
(5) يحفر بئرًا أو يجري الماء في أرض ليوفر للناس المياهَ، فيستفيد الناس منه حتى بعد انتقاله من الدنيا إلى الآخرة.
ومن الأمثلة على الأعمال التي من الشر:
(1) أن ينشئ أحدهم استوديو أفلام أو دارًا للسينما أو محل أشرطة فيديو سيئة أو دارًا للموسيقى تتم فيها عمليات إنتاج الأفلام وعرضها وبيع الأشرطة وإنتاج الموسيقى وإسماعه، والاستماع إليها حتى بعد وفاته.
(2) أو يبني حانة وخمارة أو بيت دعارة، يُرتَكب فيها المعاصي والفواحش، فيبقى هذا المبنى قائمًا حتى بعد موته وتستمر فيه الذنوب والفواحش.
(3) أو يُنشئ موقعًا إباحيًا على الشبكة أو صفحة على وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الفاحشة، ويشاهدها الناس فيقعون في الإثم حتى بعد وفاته.
(4) أو يشيّد ناديًا للقمار ويستمر كذلك بعد موته.
(5) أو أن يضع قوانين معادية للإسلام أو جائرة وتبقى هذه القوانين سارية المفعول حتى بعد وفاته.
فكل ما سبق ذكره من الأعمال الصالحة أو الطالحة، إذا لم يكن باسم الدين فلا يعتبر من البدع الحسنة ولا السيئة، وإنما هو مما تركوه من الأعمال، ومن قام بها سواء كانت حسنة أو سيئة، فإنها تُكتب له أو عليه، فإن كانت صالحة كتبت في الحسنات، وإن كانت سيئة كتبت له في السيئات.
لذا يجب علينا أن نتدبر في أنه بعد موتنا ستُسجل حسنات في صُحُفنا أو سيزداد عبء الذنوب علينا؟
القول الثالث: أنها آثار المشَّائين إلى المساجد، فعلى هذا المعنى، جاء سبب نزول الآية على النحو التالي:
كانت بنو سلمة في ناحية المدينة فأرادوا النقلة إلى قرب المسجد فنزلت هذه الآية، فقال رسول الله ﷺ:
«إِنَّ آثَارَكُمْ تُكْتَبُ فَلاَ تَنْتَقِلُوا». (سنن الترمذي: 5/154، (3237))
وهذا يدل على أن من يمشي إلى المسجد ليصلي فيه مع الجماعة كان له بكل خطوة أجرًا، وكلما كان المنزل أبعد عن المسجد كان الثواب أكثر، لما فيه من كثرة الخطى في الذهاب والإياب، إضافة إلى أنه ترفع له بها درجة وتحط عنه بها خطيئة، كما قال النبي الأكرم ﷺ:
إِذَا تَوَضَّأَ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الصَّلاَةُ، لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً، إِلَّا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ. (صحيح البخاري: 1/233، (647))
والصحابة رضي الله عنهم كانوا يحرصون كل الحرص على جمع الحسنات بغية زيادة الأجر، ويوجد روايات عديدة في هذا الموضوع، فعن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال:
كان رجل لا أعلم رجلاً أبعد من المسجد منه، وكان لا تخطئه صلاة ـ أي لا تفوته جماعة في صلاة ـ، قال: فقيل له: أو قلتُ له: لو اشتريت حمارًا تركبه في الظلماء، وفي الرمضاء، قال: ما يسرني أن منزلي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فَقالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: قدْ جَمع اللَّهُ لكَ ذلكَ كُلَّه، قدْ جَمع اللَّهُ لكَ ذلكَ كُلَّهُ.. (صحيح مسلم: 1/460، (663)
وللأسف الشديد، يشق على كثير من الناس حضور الجماعة في المسجد رغم قربهم من المسجد مع أن الصلاة مع الجماعة واجبة على الرجال كما هو المختار عند السادة الأحناف. (رد المحتار: كتاب الصلاة، باب صفة الصلاة، 2/183، بتصرف)
نسأل الله تعالى أن يهدينا جميعًا إلى سواء السبيل ويمنحنا الحرص على الحسنات وزيادة الأجر والثواب، آمين.
والقول الرابع: آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية، فمن المشي إلى الطاعة: الذهاب لمسجد أو معهد ديني أو مجلس علم أو صحبة صالح أو عيادة مريض، أو حضور جنازة، وكذلك السير إلى المعصية كالذهاب للسينما أو صالة القمار أو الحانة أو الصحبة السيئة.
فعن قتادة رضي الله عنه قال:
لو كان الله مغفِلا شيئا من أثر ابن آدم لأغفل من هذا الآثار التي تعفيها الرياح، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله حتى أحصى هذا الأثر فيما هو في طاعة الله أو في معصيته، فمن استطاع منكم أن يُكتب أثره في طاعة الله فليفعل. (تفسير الدر المنثور: 7/47)
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التدبر في أعمالنا، والحرص على حسناتنا، وأن يوفقنا للأعمال التي لا ينقطع أجرها بعد الموت. آمين بجاه النبي الأمين ﷺ.
تعليقات