المواسم الدينية وأثرها | الشيخ محمد مسلماني


نشرت: يوم الإثنين،27-يناير-2025

المواسم الدينية وأثرها

أيها الإخوة الكرام! لله خواص، في الأزمنة والأمكنة والأشخاص، وإن الله تبارك وتعالى من فضله وجوده؛ جعل لنا في خلال عامنا وأيامنا مواسم مباركة، هي لنا كالوقود للسيارة، وكالهواء النظيف للرئتين، بل هي كالروح للجسد، فطوبى ثم طوبى وهنيئًا لمن عرف هذه المواسم المباركة، وما فيها من نفحات وتجليات، وعمل فيها، وأقبل على الله تعالى واغتنمها، وجدَّ واجتهد، فهي تحيي موات القلوب، وتنقل العبد من حال إلى حال، وترتقي به إلى أذواق الإيمان، فيجد طعمه، ويذوق حلاوته، ويكون بذلك من الصالحين الفائزين المرضيين المقربين عند الله تبارك وتعالى.

هذا وإن لكل موسم خصِّيصة، ونورًا، وطاقة روحانية، وفي نهايته جائزة وأثر يظهر على العبد، وهذا الأثر لا يقف عند الفرد فحسب؛ بل يتعدّى إلى المجتمع حين ينعكس ذلك الأثر على أخلاقه ومعاملاته، فيتأثّر به مجتمعه من أقارب وأباعد حين يشعر بالحيوية الدينية الإيمانية، فيرتقي في علاقاته المختلفة والمتنوعة.

وقبل الخوض في موضوع أثر هذه المواسم على الفرد والمجتمع؛ لا بد من معرفة المواسم نفسها، وما يتعلق بزمانها وأوقاتها وما ورد في فضلها وفوائدها، فما هي هذه المواسم التي تمرّ بنا خلال العام؟ والظاهر أنها كثيرة ولكن نذكر بعضها وأهمها.

قال أبو عثمان النهدي رحمه الله تعالى: كانوا يعظمون ثلاث عشرات:

(العشر الأخير من رمضان، والعشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأول من المحرم). (لطائف المعارف لابن رجب الحنبلي صـ 80)

قلت: أما تعظيمهم للعشر الأخير من رمضان فلأنها موسم الاعتكاف، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وهي عشر العتق من النار، فلذلك يهتم بها الأخيار ويعظمونها.

وأما عشر ذي الحجة؛ فلأن النبي ﷺ قال فيها:

ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من أيام العشر وذلك لأن فيها يوم عرفة وموسم الحج.

وأما العشر من محرم فلأن فيها ذكرى هجرة الصحابة رضي الله عنهم من مكة إلى المدينة ويوم عاشوراء الذي قال فيه النبي الكريم ﷺ حين سئل عن صيامه: إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله.

فهي مواسم عظيمة جليلة، طوى الله فيها من الأسرار والأنوار والبركات والنفحات ما لا يحصى، وإذا تأملنا في هذه الشهور الثلاثة المذكورة آنفًا؛ رأينا فيها اتحادًا واتفاقًا في موضوع واحد وهو: مغفرة الذنوب من لدن علام الغيوب جل جلاله، فتأمّل معي هذه الأحاديث الشريفة الآتية تتضح لك المسألة جلية واضحة كالشمس:

• قال رسول الله ﷺ:

من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقد م من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. (صحيح البخاري وصحيح مسلم)

• وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول:

من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمّه. (صحيح البخاري: 1521)

• عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

صوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة ماضية وسنة مستقبلة. (مصنف بن أبي شيبة: 15366، تحقيق العلامة محمد عوامة)

• صيام يوم عاشوراء إني أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله. (صحيح مسلم: (1162)

فالمسلم الموفق حين يستمع إلى هذه الأحاديث التي وردت صحيحة عن الصادق المصدوق ﷺ الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يتشوق إلى ما عند الله تعالى، وترتفع همته مشمرًا عن ساعد الجدِّ، ومتعرضًا لنفحات الله في هذه المواسم العظيمة، مقبلاً بصدق على الله لينال بركاتِها ونفحاتِها وتظهر عليه آثارها وأنوارها.

لله تعالى نفحاتٌ من رحمته

• فعن سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«افعلوا الخير دهرَكم وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله عز وجل نفحاتٍ من رحمته يُصيب بها من يشاء من عباده، وسلوا الله عز وجل أن يستر عوراتكم، وأن يؤمِّن روعاتكم». (كتاب الدعاء للطبراني: 26)،

• وعن محمد بن مسلمة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

إن لربكم في أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعله أن يصيبكم نفحة منها، فلا تَشْقَوْنَ بعدها أبدًا. (المعجم الكبير للطبراني: (519))

شرح كلمات الحديث:

قال العلامة الْمُناوي رحمه الله في "فيض القدير" (1/541):

قوله: ((وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله)) أي: اسلكوا طُرُقَها حتى تصيرَ عادةً وطبيعةً وسجيةً، وتعاطَوا أسبابها؛ رجاء أن يهُبَّ من رياح رحمته نفحةٌ تسعدكم.

أو المعنى: اطلبوا الخير متعرِّضين لنفحات رحمة ربكم، بطلبكم منه.

وفي "الصحاح": نَفَحَ الطيب، "فاح"، ونَفَحتِ الريح "هبَّت"، ونَفحةٌ من العذاب: "قطعة منه". (مختار الصحاح: 315)

وفي "المصباح": نَفَحَهُ بالمال نفحًا: "أعطاه"، و"النفحة العطية." (المصباح المنير للحموي: 616)

وقيل: مبتدأ شيء قليل من كثير.

قوله: ((فإن لله نفحات من رحمته، يُصيب بها من يشاء من عباده)) المؤمنين، فداوموا على الطلب، فعسى أن تصادفوا نفحة من تلك النفحات، فتكونوا من أهل السعادات.

ومقصود الحديث: أن لِله فُيوضًا ومواهب تبدو لوامعها، من فتحات أبواب خزائن الكرم والمنن في بعض الأوقات، فَتَهُبُّ فورتها ومقدماتها كالأنموذج لما ورائها من مَدَدِ الرحمة، فمن تعرض لها مع الطهارة الظاهرة والباطنة بجمع هِمَّةٍ وحضورِ قلب؛ حصل له منها دُفعة واحدة، ما يزيد على هذه النعم الدائرة في الأزمنة الطويلة على طول الأعمار.

ووقت النفحة غير معلوم، بل مبهم في الأزمنة والساعات، وإنما غُيِّبَ علمُه لِتُدَاوم على الطلب بالسؤال المتداول، كما في ليلة القدر، وساعة الجمعة، فَقَصَدَ أن يكونوا متعرضين له، في كل وقت قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم، وفي وقت التصرّف في أشغال الدنيا، فإنه إذا داوم أوشك أن يوافق الوقت الذي يُفتح فيه، فيظفر بالغَناء الأكبر، ويسعد بسعادة الأبد.

الثمار يتحصل عليها العبد

أما الآثار التي هي الثمار التي يتحصل عليها العبد من هذه المواسم المباركة فكثيرة، ولكن نختصر فنقتصر على ذكر بعضها:

- التقوى

- الزهد في الدنيا

- الرغبة في الآخرة

- الصبر والتحمل

- سعة الصدر

- تحسين الأخلاق وتبدلها

- الإنفاق في سبيل الله

- استشعار حقيقة العبودية لله

- اليقين بأن الله هو الرزاق ذو القوة المتين

- الإيمان الجازم بأن الله على كل شيء قدير

- الشعور بالفقراء والمساكين

- الاستقامة على الطاعات

- غض البصر وحفظ اللسان

- الشعور بأن الله يحبه

- ازدياد نسبة محبة الله ورسوله في قلبه

- التشوق للمواسم في كل عام

فهذه بعض الآثار التي تظهر على المسلم المقبل على مولاه في المواسم المباركة كرمضان والحج وغيرهما من المناسبات الكثيرة، ومن أسر سريرة ألبسه الله ردائها، ومن تحقق بحالة لم يخلُ مجالسوه منها، فالمجالسة تقتضي المجانسة، ومن حصلت له هذه الصفات التي ذكرناها فإنه يكون مؤْثِراً مرضاة ربه على كل شيء، مؤثِّراً في أسرته وجيرانه وأقربائه ومجتمعه، صالحاً، مصلحاً طائعاً لله رب العالمين، متبعاً ومقتفياً أثر سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهذا هو الفوز والفلاح الذي يوصل العبد إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين، ونسأل الله الكريم أن يعيد علينا بركات هذه الأوقات بالعفو والعافية والرضا والقبول، بجاه سيدنا النبي الرسول كريم الأصول وأن يعطينا ببركته صلى الله عليه وسلم غاية المأمول، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية