مدونات مختارة
الأكثر شهرة
فتن آخر الزمان وسبل النجاة منها | محمد رضا القريشي
هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18
إن من أعظم ما ينبغي للمسلم في هذا الزمان أن يتفقه فيه، ويتسلّح لمواجهته، هو فهم طبيعة الفتن، ومعرفة سبل الوقاية منها، خاصة وقد تكاثرت علينا فتن الزمان، وتنوعت في صورها وأشكالها، وأصبحت كالأمواج العاتية التي لا تترك صغيرًا ولا كبيرًا إلا أصابته بشيء من أثرها.
وقد صدق حذيفة بن اليمان رضي الله عنه حين قال: «هذه فتن قد أظلت كجباه البقر، يهلك فيها أكثر الناس إلا من كان يعرفها قبل ذلك» (كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 5)
فكانت الحاجة ماسة لأن نقف على معاني الفتن، وأقسامها، وخصائص فتن آخر الزمان، وسبل النجاة منها، لعلنا نكون من الثابتين على الحق في زمن المتغيرات.
تعريف الفتنة:
الفتنة مأخوذة من فتن الشيء، وهي تعني اختباره، وفي اللغة يُقال: "فَتَنْتُ الذَّهَبَ بِالنَّارْ" (مجمل اللغة لابن فارس: 1/711)
أي صهره ليُفرَّق بين الجيد والرديء. ومن هذا قول الله عز وجل:
يَوۡمَ هُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ يُفۡتَنُونَ ١٣ (١٣ الذاريات )
معناها الاصطلاحي: الفتنة تعني الابتلاء والاختبار، وقد تستخدم أيضًا للإشارة إلى معانٍ أخرى مثل: الشرك والضلال، والكفر، والإثم، والجنون، والإعجاب بالشيء، والمرأة، والاختلاف والاضطراب في الدين والدنيا.
• وقد عرّف العلامة الجرجاني رحمه الله، الفتنة بقوله: «الفتنة: ما يتبيّن به حال الإنسان من الخير والشر» (كتاب التعريفات للجرجاني: 165)
• وعبّر عنها ابن حجر رحمه الله تعالى بمعنى قريب، فقال: «وأصل الفتنة "الامتحان والاختبار"، واستُعمِلت في الشرع في "اختبار كشف ما يُكره" (فتح الباري لابن حجر: 11/177)
كلمة الفتنة في القرآن الكريم:
ذكرت الفتنة في القرآن الكريم في عدة مواضع، وجاءت بمعان متنوعة مثل الابتلاء، والذنب، والضلال، والكفر، والشرك، والعذاب، والقتل، فمنها:
• للابتلاء
أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ ٢ (العنكبوت: 2)
• للضلال
وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتۡنَتَهُۥ فَلَن تَمۡلِكَ لَهُۥ مِنَ ٱللَّهِ شَيۡـًٔاۚ (المائدة: 41)
• للشرك
وَقَٰتِلُوهُمۡ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتۡنَةٞ و (البقرة: 193)
• للقتل
وَإِذَا ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَلَيۡسَ عَلَيۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَقۡصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَوٰةِ إِنۡ خِفۡتُمۡ َ يَفۡتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْۚ (النساء: 101)
أنواع وأقسام الفتنة:
الفتن تتنوع في طبيعتها وآثارها، وقد أخبر عنها علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله: «تكون في هذه الأمة خمس فتن: فتنة عامة، وفتنة خاصة، ثم فتنة عامة وفتنة خاصة، ثم تكون فتنة سوداء مظلمة، يكون الناس فيها كالبهائم» (المستدرك للحاكم: 8540 )
o الفتنة العامة:
هي الفتن التي تصيب عامة الأمة، فيصبح الإسلام وأهله في بلاءٍ عظيم فهي فتنٌ عامة تعصف بالعباد والبلاد، فيضعف الإسلام ويهون شأن أهله وتتداعى الأمم عليهم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم، كمواقع القطر» (صحيح مسلم: 2885)
وقد بدأت هذه الفتن منذ عهد صحابة النبي ﷺ، ولا تزال في هذه الأمة إلى يومنا هذا.
o الفتنة الخاصة:
هي الأمور التي تقع على الإنسان في خاصة نفسه من خيرٍ أو شر، يمتحن الله عزَّ وجلَّ بها العبد في ماله أو زوجه أو أولاده أو جاره .. وهو من سُنن الله الكونية السارية على جميع عباده لا محالة. قال رسول الله ﷺ:
«فتنة الرجل في أهله وماله وجاره، تكفرها الصلاة، والصدقة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» (صحيح البخاري: 3586)
o الفتنة المظلمة:
هي الفتن التي يلتبس فيها الحق بالباطل، ويصعب فيها التمييز بين الصواب والخطأ، فيتخبط الناس بسبب كثرة الشبهات. قال سيدنا أبو هريرة رضي الله عنه: "الفتنة الرابعة عمياء مظلمة تمور مور البحر، لا يبقى بيت من العرب والعجم إلا ملأته ذلا وخوفا، تطيف بالشام، وتغشى بالعراق، وتخبط بالجزيرة بيدها ورجلها، تعرك الأمة فيها عرك الأديم، ويشتد فيها البلاء حتى ينكر فيها المعروف، ويعرف فيها المنكر، لا يستطيع أحد يقول: مه مه، ولا يرقعونها من ناحية إلا تفتقت من ناحية، يصبح الرجل فيها مؤمنا ويمسي كافرا، ولا ينجو منها إلا من دعا كدعاء الغرق في البحر." (كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 676)
أقسام الناس في الفتن:
ينقسم الناس أمام الفتن إلى ثلاثة أقسام:
o ثابتون على الحق: وهم الذين ثبتهم الله تعالى بتوفيقه وعنايته.
o مترددون: تارة هنا وتارة هناك، يتبعون أهواءهم.
o هالكون: انجرفوا مع الفتنة فهلكوا، والعياذ بالله.
أسباب وقوع الفتن:
تتنزّل الفتن على القلوب كما تتنزّل السموم في الأجساد، ولها أسبابٌ إذا اجتمعت، أظلمت البصائر، وأغلقت منافذ الحق، ومن أعظم تلك الأسباب:
o الجهل بالدين
o ضعف الإيمان
o اتباع الهوى
o انتشار البدع والشبهات
o حب الدنيا والركون إليها
o التنافس على المال والسلطة
أوصاف وأحوال الفتن وسبل النجاة منها:
من أعظم ما تنبأت به السنن النبوية: فتن آخر الزمان، وهي شديدة متلاحقة. وقد نبّه النبي ﷺ إلى صفاتها، فقال إنها:
« تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا» (صحيح مسلم: 144)
« فتن كقطع الليل المظلم» (سنن الترمذي: 2197)
« فتن تموج كموج البحر» (صحيح البخاري: 7096)
وفي صحيح البخاري:
«لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج - وهو القتل القتل - حتى يكثر فيكم المال فيفيض» (صحيح البخاري: 1036)
وقد حذر النبي ﷺ من فتن عظيمة تسبق الساعة، مثل فتنة التفرق، وفتنة انقلاب الموازين، وفتنة الدجال، وفتنة يأجوج وماجوج، وفتنة الإشاعات، وفتنة الأئمة المضلين، وفتنة الهرج، وفتنة المجاعة، وفتنة بنو قنطوراء، وفتنة الأحلاس وفتنة السراء وفتنة الدهيماء، وفتنة الشرقية والغربية، والفتنة العمياء، وفتنة السفياني، ومنها:
• فتنة التفرق: تمزق الأمة إلى فرق ومذاهب.
«إنها ستكون فتنة وفرقة واختلاف، فإذا كان كذلك فأت بسيفك أُحدا، فاضربه حتى ينقطع، ثم اجلس في بيتك، حتى تأتيك يد خاطئة، أو منية قاضية» (سنن ابن ماجه: 3962)
• فتنة الدجال: قال رسول الله ﷺ:
« ما كانت فتنة، ولا تكون حتى تقوم الساعة، أكبر من فتنة الدجال، ولا من نبي إلا وقد حذره أمته، ولأخبرنكم بشيء ما أخبره نبي أمته قبلي "، ثم وضع يده على عينه، ثم قال: " أشهد أن الله ليس بأعور» (مسند أحمد: 14112)
• فتنة الأئمة المضلين: قال رسول الله ﷺ:
«لغير الدجال أخوفني على أمتي» قالها ثلاثا. قال: قلت: يا رسول الله، ما هذا الذي غير الدجال أخوفك على أمتك؟ قال: «أئمة مضلين» (مسند أحمد: 21296)
• فتنة انقلاب الموازين: يُصدّق الكاذب، ويُكذّب الصادق، ويؤتمن الخائن، ويخوّن الأمين. عن أبي هريرة، قال: قال ﷺ:
« سيأتي على الناس سنوات خداعات، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة؟ قال: «الرجل التافه في أمر العامة» (سنن ابن ماجه: 4036)
• فتنة الإشاعات: أخبار كاذبة ومضللة تنتشر بين الناس بلا علم ولا تحقق. عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ أنه قال
« سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يحدثونكم ما لم تسمعوا به أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم» (مسند أحمد: 8267)
• فتنة المجاعة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ:
« يكونُ فِي آخرِ الزَّمَانِ مَجاعةٌ مَن أَدركَتهُ فَلا يَعدلنَّ بالأكبَادِ الجَائِعةِ» (الأدب المفرد للبخاري: 560)
• فتنة الهرج: كثرة القتل وسفك الدماء بلا سبب مشروع، عن أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ، قال:
« لا تقوم الساعة حتى يكثر الهرج» قالوا: وما الهرج يا رسول الله؟ قال: «القتل القتل» (صحيح مسلم: 157)
• فتنة بنو قنطوراء:
إذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه، صغار الأعين، حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق: فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا، وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا، وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم، ويقاتلونهم وهم الشهداء (سنن أبي داود: 4306)
• فتنة الأحلاس
• فتنة السراء
• فتنة الدهيماء
« قيل لرسول الله ﷺ ما فتنة الأحلاس؟ قال: هي هرب وحرب، ثم فتنة السراء، دخنها من تحت قدمي رجل من أهل بيتي يزعم أنه مني، وليس مني، وإنما أوليائي المتقون، ثم يصطلح الناس على رجل كورك على ضلع، ثم فتنة الدهيماء، لا تدع أحدا من هذه الأمة إلا لطمته لطمة، فإذا قيل: انقضت، تمادت يصبح الرجل فيها مؤمنا، ويمسي كافرا، حتى يصير الناس إلى فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط نفاق لا إيمان فيه، فإذا كان ذاكم فانتظروا الدجال، من يومه، أو من غده» (سنن أبي داود: 4242)
• فتنة الشرقية والغربية: عن كعب، قال
تكون فتن ثلاث كأمسكم الذاهب، فتنة تكون بالشام، ثم الشرقية هلاك الملوك، ثم تتبعها الغربية، وذكر الرايات الصفر، قال: والغربية هي العمياء (كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 97)
• الفتنة العمياء: عن أبي هريرة، رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ وسلم:
«ويل للعرب من شر قد اقترب، من فتنة عمياء صماء بكماء، القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، ويل للساعي فيها من الله تعالى يوم القيامة» (كتاب الفتن لنعيم بن حماد: 467)
من أسباب النجاة في الفتن:
من أراد السلامة حين تشتدّ المحن، وتتشابك السُبُل، فعليه أن يتشبّث بأسباب النجاة التي بها يحفظ الله عباده ويثبّت أقدامهم، وأعظم تلك الأسباب التمسّك برسول الله ﷺ وهديه، كما أرشد إلى ذلك بنفسه ﷺ حين قال:
« ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله » (سنن الترمذي: 2906)
فالفتن إذا أقبلت عمّت، وإذا وقعت ارتبكت، وقد دلّنا النبي ﷺ على سبل النجاة منها، وبيّن لنا أبواب السلامة عند اضطراب الزمان، ومن أهمّ أسباب النجاة في الفتن:
o اللجوء إلى الله بالدعاء والتوبة والاستغفار
o الاعتصام بالكتاب والسنة
o طلب العلم الشرعي
o الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
o النظر في عواقب الأمور
o التحرز من الشائعات وعدم تصديق كل ما يُنقل
o الابتعاد عن مواطن الفتن وأهلها
o لزوم جماعة المسلمين
أخيراً!
نسأل الله تعالى أن يثبتنا على السُّنَّة، وأن يُجنّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليماً.
تعليقات