مدونات مختارة
الأكثر شهرة
مفهوم الولاية من خلال حديث الأولياء (الجزء الأول) | الشيخ عبد الباسط المحمد
هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 19
الحمد لله رب العالمين المنتصر لأوليائه المنتقم ممّن عاداهم بأنواع بلائه والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين ﷺ وإمام المتقين وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فمن أعظم ما امتنَّ الله تعالى به على عباده المؤمنين أن جعل منهم أولياءَ من عباده الصالحين أولئك الذين أخلصوا العبادة لله تعالى واتبعوا رسوله ﷺ، فكانوا من المقرّبين.
وقد ورد في فضلهم حديث قدسي شريف بيَّن صفاتهم ومكانتهم عند الله تعالى، وحذّر من معاداتهم جاء فيه عن سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ:
إنّ الله تعالى قال: من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه (صحيح البخاري: 650)
هذا الحديث العظيم يفتح الباب للحديث عن مفهوم الولاية في الإسلام وشروطها، وعلامات الأولياء الحقيقيين الذين لا يقطعون صلتهم بالله طرفة عين. فمن هم أولياء الله تعالى؟ وما هي صفاتهم؟ وكيف ندخل في ساحة الولاية؟ وحرمة معاداتهم، هذه الأسئلة وغيرها سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال، مستنيرين بنور الكتاب والسنة ومستهدين بهدي السلف الصالح.
الحديث عن الأولياء ليس مجرد كلامٍ عن فضائل بل هو دعوةٌ عمليةٌ للارتقاء بالإيمان، والتخلُّق بأخلاق المحسنين، حتى نكون من الذين قال فيهم الحق سبحانه:
ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (يونس:62)
الوَلِيّ في اللغة: -وِزانُ فَعيلٍ- ضِدُّ العَدُوِّ، مِن "وَلِيَه": إذا قام به، وكُلُّ من وَلِيَ أمرَ غَيرِه فهو وَلِيُّه، ويُطلَقُ على ابنِ العَمِّ والناصِر،ِ والصَّدِيقِ، والمحِبِّ. وأصلُ "ولي": يدُلُّ على قُربٍ (تفسير غريب القرآن لابن قتيبة: صـ 368)
والمراد بالولي اصطلاحًا: العالِمُ باللهِ، المواظِبُ على طاعَتِه، الْمُخلِصُ في عِبادته (فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 11/ 342)
والوليُّ له معنيان:
إحداهما: فعيل بمعنى مفعول، وهو من يتولى اللهُ سبحانه أمره؛ قال الله تعالى:
وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ َ (الأعراف: 196)
فلا يكله إلى نفسه لحظة بل يتولى الحقُّ سبحانه رعايتَه.
والثاني: فعيل مبالغة من الفاعل؛ وهو الذي يتولى عبادة الله تعالى وطاعته فعبادته تجرى على التوالي (الرسالة للقشيري: 2/ 416)
• قال الإمام السُّيوطيُّ رحمه الله تعالى: الولي هو العارِفُ باللهِ تعالى حَسَبَ ما يُمكِنُ، الْمُواظِبُ على الطَّاعاتِ، الْمُجتَنِبُ للمَعاصي، الْمُعرِضُ عَن الِانهماكِ في اللَّذَّاتِ والشَّهَوات (إتمام الدراية للسيوطي: صـ 7)
لقد جاء حديث الأولياء ليؤكد عِظَم مكانة عباد الله الصالحين، الذين ارتبطت قلوبهم بالله تعالى ارتباطًا وثيقًا فكانوا بحقٍّ أهلاً لولايته ورضوانه.
هذا الحديث يدل على أن أولياء الله هم الذين التزموا بالفرائض، ثم أتبعوها بالنوافل فاستحقوا بهذا القرب من الله أن ينصرهم ويحفظهم من أعدائهم.
وشرح الإمام النووي رحمه الله تعالى: الحديث مؤكدًا أن محبة الأولياء وموالاتهم من صميم الإيمان وأنَّ معاداتهم تعني الخروج عن دائرة الولاء لله ورسوله. (رياض الصالحين: صـ 635)
وإذا أردنا أن نستزيد في فهم معنى الولاية، فإنّ القرآن الكريم قد حدَّد صفات الأولياء في آية واضحة:
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ َ (يونس: 62-63)
فسّرها العلماء بقولهم: أولياء الله هم المؤمنون المتقون، الذين اجتنبوا الشرك والمعاصي، وامتثلوا أوامر الله تعالى
(تفسير ابن كثير: 4/ 278)
فهذا يفتح الباب واسعًا أمام المسلمين ليدخلوا إلى ساحة الولاية ومن ثّمَّ يرتقون في مدارج الطاعة والإخلاص حتى يصلوا إلى طبقة السابقين الأبرار من أمة سيدنا محمد ﷺ التي وردَ تقسيمها إلى ثلاث أصناف في قوله تعالى:
ثُمَّ اَوْرَثْنَا الْكِتٰبَ الَّذِينَ اصْطَفَينَا مِنْ عِبَادِنَاۚ-فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهۚ-وَ مِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌۚ-وَ مِنْهُمْ سَابِقٌۢ بِالْخَيرٰتِ بِاِذْنِ اللّٰهِ-ذٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (فاطر: 32)
فظالم لنفسه: أصحاب الذنوب المصرون عليها.
والمقتصد: المؤدي للفرائض، المجتنب للمحارم وهذا من أولياء الله تعالى، ولكنه يقف في الطبقة الأدنى.
وسابق بالخيرات: هو المؤدي للفرائض والنوافل، المجتنب للمحرمات والمكروهات وهذا هو الذي يرتقي إلى الطبقة الأعلى من طبقة الأولياء (تفسير معالم التنزيل للبغوي: 6/422-423، ملخّصًا)
صفات الولي الحقيقي ومن هم أفضل أولياء الله تعالى:
من أهم صفات الولي أنه مجاب الدعوة، راضيًا عن الله تعالى في كل حال قائمًا بالفرائض، تاركًا للنواهي، زاهدًا فيما يتنافس عليه الناس من طلب العلو في الدنيا والحرص عليها، لا يكون لنفسه شغل بملاذ الدنيا ولا بالتكاثر منها، إذا وصل إليه القليل صبر، وإن وصل إليه الكثير شكر، يستوي عنده المدح والذم، والفقر والغنى غير معجب بما منّ الله عليه من خصال الولاية متواضع، خاشع، حسن الأخلاق، كريم الصحبة، عظيم الحلم. وجمهور العلماء على أنّ أفضل أولياء الله تعالى هم الأنبياء والرسل المعصومون عن كل ذنب أو خطيئة المؤيدون بالمعجزات من عند الله تعالى، وأفضل الأولياء بعد الأنبياء والرسل "أصحاب رسول الله ﷺ" الذين عملوا بكتاب الله وسنة رسول الله ﷺ، ومن جاء بعدهم من القرون حتى أيامنا هذه ممّن ينسب إلى الولاية.
والباب الأعظم إلى دخول ساحة الولاية هو "الإيمان بالله تعالى" وما ندب إليه رسوله ﷺ الذي قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره (صحيح مسلم: 9)
وأصعب هذه الخصال "الإيمان بالقدر" فإن حصل له ذلك هانت عليه جميع الأمور، وأولياء الله تعالى يتفاوتون في الولاية بمقدار ما رزقهم الله تعالى من الإيمان والمعيار الذي تُعرف به صحة ولاية الولي أن يكون عاملاً بكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، فلا يكون الوليّ ولياً لله حقاً إلا إذا تحقّقَ في شخصه بالإيمان والتقوى (الإنصاف للإمام الصنعاني: 44-46)
واتبع رسول الله ﷺ واهتدى بهديه واقتدى به في أقواله وأفعاله.
تحريم معاداة أولياء الله تعالى:
في هذا الحديث تحذير من الوقيعة في أولياء الله تعالى ومعاداتهم والخوض في أعراضهم وأنسابهم؛ لأنَّ فيها تعرُّضًا لحرب الله تعالى ومعاداته، ولا طاقة لمخلوق بذلك، وكل امرئٍ حسيبُ نفسِه.
إن الله عزّ وجل لَيَنتَقِمُ لأوليائِهِ ممَّن آذاهم، ويعاقب مَن لم ينصرهم، وإنهم حِمَى الله في أرضه، وخزيُ الله واقع بمَن آذاهم، وإن الله ليغضبُ لغضبهم ويرضى لرضاهم، وإنّ الله إذا أراد بقومٍ خيرًا وفقهم للسُّنّة وحبب إليهم أولياءه، وإذا أراد بقومٍ شرًّا أخذهم في طريق البدعة وحبب إليهم أعداءه (الدلالة على الله لأبي القاسم البكري الصقلي: صـ 31)
مَن اغتاب وليًّا لله أو عالِمًا ليس كمن اغتاب مجهول الحالة مثلًا، وقد قالوا ضابط الغيبة: ذكر الشخص بما يكره، وهذا يختلف باختلاف ما يقال فيه، وقد يشتد تأذّيه بذلك، وأذى المسلم مُحَرَّمٌ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 10/ 470)
ويدخل في معاداتهم أي شكل من أشكال الإيذاء لما جاء في رواية: من أذلّ وليًّا (مسند البزّار: 99)
وفي آخر: من أهان وليًّا (المعجم الأوسط للطبراني: 9/ 139)
إن كل من يؤذي مؤمنًا تقيًّا أو يعتدي عليه في ماله أو نفسه أو عرضه فإن الله تعالى يعلمه أنه محارِبٌ له وإذا حاربَ الله عبدًا أهلكه وهو يُمهل ولا يُهمل ويمد الظالمين مداً ثم يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وقد وقع في بعض روايات الحديث أن معادات الولي وإيذائه محاربة لله ففي حديث السيدة عائشة رضي الله عنها: من أهان لي وليا فقد استحلّ محاربتي (المعجم الأوسط للطبراني: 9352)
فإياك إياك أن تنال أحدًا من أولياء الله تعالى بسوء فيعاديك بالمحاربة فتقع معه فيما لا قدرة لك على دفعه عن نفسك لا بالجنود ولا بغيرها (حلية الأولياء: 1/4)
وفي الختام فإن هذا الموضوع يدفعنا إلى التأمل في حالنا: هل نحن من الساعين إلى ولاية الله بتحقيق الإيمان والتقوى؟ أم أننا غافلون عن هذا الشرف العظيم؟ فليكن حديث الأولياء نبراسًا نهتدي به، ونورًا نسير على ضوئه، حتى نكون من عباد الله المخلصين، وللكلام عن حديث الأولياء تتمة في العدد القادم من هذه المجلة إن شاء الله تعالى.
تعليقات