حقيقة التصوف في مواجهة أدعيانه وخصومه | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الأَربعاء،19-نوفمبر-2025

حقيقة التصوف في مواجهة أدعيانه وخصومه

هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18

الحمد لله الذي نوّر القلوب بمعرفته، وخصَّ أولياءه بلطائف عنايته، والصلاة والسلام على سيد السالكين وإمام المتقين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا وبعد:

مصدر التصوف:

لقد كانت الصحبة النبوية هي المدرسة الأولى التي تخرّج فيها أعلام الهدى وسادة الورع والزهد، هؤلاء الصحابة الذين كانوا قريبين من رسول الله ﷺ، كانوا مصدر نور وهداية للأجيال القادمة، حيث نشأت المدرسة النبوية التي تعلم فيها الصحابة، وكان لهم الأثر الكبير في نشر الإسلام، ثم إن هذا التأثير استمرّ حتى وصلت أفكار هذه المدرسة النبوية العظيمة إلى التابعين، ثم تابع التابعين، وهكذا بعدها تأسست مناهج السلوك القلبي، والتزكية الروحية، والتربية الأخلاقية التي عُرفت لاحقًا بـاسم: التصوف.

وهذا المصطلح التصوف لا يشير فقط إلى الزهد والعبادة أو إلى تصورات نفسية أو عاطفية، بل هو جوهر الشريعة وروحها، فمنذ بدايته، كان التصوف يرمي إلى تهذيب النفوس وتهذيب الأخلاق، والهدف الأكبر كان هو الوصول إلى مقام الإحسان كما ورد في الحديث النبوي: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. (صحيح البخاري : 50)

  • ومع مرور الزمن، تطور منهج التصوف وظهر العديد من المدارس والمناهج المختلفة التي تبنّت سبلًا متنوعة للوصول إلى الله ومعرفته، كلها تدور حول القاعدة المتفق عليها: إلهي أنت مقصودي ورضاك مطلوبي.
  • وتسعى للتحقق بمقام الإحسان بعد التحقق بمقام الإسلام والإيمان.
  • وبالتحقق الثالث للعبد المؤمن يكتمل شأن دينه بأرقى معانيه، وإلا فإن أكثر المؤمنين لهم التحقق العام في الإسلام والإيمان.

بهذا المعنى يتضح لنا أن مصدر التصوف الكتاب، والسنة، ومنهج العلماء الربانيين الذين يستندون إلى الكتاب والسنة في توجيه المؤمنين والمريدين بشكل خاص.

على الرغم من معرفتنا أن التصوف كان وما زال في جوهره يهدف إلى تصفية القلب والسير على نهج النبوة، فإن هذا المصطلح قد تعرض لعدة هجمات وتشويهات من بعض أدعيائه الذين لم يفهموا معناه الحقيقي، إضافة إلى خصومه الذين أرادوا أن يثيروا الشبهات حوله، لذا، فإن الحقيقة التي ينبغي ألا تغيب عن المسلم المنصف أن هذا العلم الروحي يعد جزءًا لا يتجزأ من قلب الدين الإسلامي، وهو الركن الثالث في الدين الذي جاء في حديث جبريل عليه السلام الذي جاء يعلّم الصحابة أمور دينهم.

هدف التصوف ومقصده:

التصوف هو علم يهتم بتربية القلب وتنقيته من الشوائب، ويعتبر الركيزة الأساسية التي يستند عليها سلوك المسلم في حياته اليومية، والمقصد الأساسي للتصوف هو الوصول إلى مقام الإحسان، وهذا المقام يزهد فيه العامة، ويغفل عنه أكثر الخاصة، ولا يسلكه إلا موفق صبر وصابر، وبذل المجاهدة للنفس، وصدق مع ربه في سيره، وصحب أهل الصدق والتربية مع المحبة لله ورسوله ﷺ، وحافظ على كثرة الذكر حتى يصير سالكاً طريق الاستقامة الذي يطلبه في كل ركعة من صلاته.

الاستقامة لا تقتصر على شعائر العبادة الظاهرة، بل تشمل جميع مجالات الحياة التي تحكمها النية الخالصة لله تعالى والموافقة للشريعة ظاهرًا وباطنًا.

التصوف في جوهره يسعى إلى تطهير الباطن، مع الانتباه لكل حركات النفس من حب الدنيا أو الشهوات التي تفسد علاقة العبد بالله ولذا قال أهل التربية: التصوف هو التحلّي بالصفات المحمودة، والتخلّي عن الصفات المذمومة. (غيث المواهب العلية في شرح الحكم العطائية: صـ 54)

وهكذا يعتبر التصوف منهجًا لتربية الأخلاق، بطريقة تتّسم بالعمل المستمرّ على النفس تزكيةً وتربيةً ومجاهدةً فتسمو بشكل روحي وأخلاقي يرضى عنها ربها وترضي رسول الله ﷺ،

 والله ورسوله أحق أن يرضوهوالله ورسوله أحق أن يرضوه  (التوبة: 62)

علاقة التصوف بالشريعة:

قلنا: إن مصدر التصوف الكتاب والسنة وتوجيهات الربانيين المستندة إليهما، وهدفه تربية النفس وتزكيتها ومجاهدتها،

قد أفلح من زكاها (الشمس: 9)

والذين جاهدوا فينا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا (العنكبوت: 69)

وهذه آية مكية، والمجاهد من جاهد نفسه وهواه.

التصوف إصلاح الظاهر وتنقية الباطن من الأغيار والمخالفات، وهذا كله من الشريعة بل هو الشريعة التي أُمرنا بتطبيقها، وعلى هذا فليس التصوف بدعة حديثة، بل هو في جوهره يكمّل الشريعة ويدعمُها، وهو بهذا لا يتناقض مع أحكام الإسلام وإنما يساهم في تحقيق التوازن بين الأعمال الظاهرة والباطنة، ولذا ورد عن الإمام مالك رحمه الله: من تفقه ولم يتصوف فقد تفسق، ومن تصوف ولم يتفقه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقق. (حاشية العلامة علي العدوي على شرح الإمام الزرقاني في الفقه المالكي: 3/95) (شرح عين العلم وزين الحلم للإمام ملا علي القاري: 1/33)

وهذا هو التكامل بين التصوف والعلم الشرعي، حيث يجمع التصوف بين الجانب الروحي والجانب الفقهي.

الشريعة تشكل الإطار العام للسلوك البشري، بينما التصوف يهتم بإصلاح النية والقلب ليتماشى مع أحكام الشريعة.

والطريقة هي الشريعة، تخدمها وتدعم السالك ليستقيم عليها، ولو استقاموا على الطريق. فالشريعة هي الفعل الظاهر، أما التصوف فهو التوجه القلبي الذي يُحسّن الفعل ويمنحه صبغة روحية تتوافق مع الهدف الأسمى للدين، وهو الإحسان.

نظرة العلماء إلى التصوف:


  • لم يكن العلماء عبر العصور الإسلامية إلا منصفين تجاه التصوف وأهله، حيث كانوا يعتبرون الصوفية أكثر الناس التزامًا بآداب الشريعة وأخلاق النبوة، قال الشيخ تاج الدين السبكي رحمه الله تعالى في كتابه معيد النعم ومبيد النقد تحت عنوان (الصوفية): حياهم الله وبيّاهم وجمعنا في الجنة نحن وإياهم وقد تشعبت الأقوال فيهم تشعبا ناشئا عن الجهل بحقيقتهم لكثرة المتلبسين بها إلى أن قال وإنهم المعرضون عن الدنيا المشتغلون في أغلب الأوقات بالعبادة.. ثم تحدث عن تعاريف التصوف إلى أن قال: والحاصل أنهم أهل الله وخاصته الذين ترتجي الرحمة بذكرهم ويستنزل الغيث بدعائهم فرضي الله عنهم وعنا بهم. (معيد النعم ومبيد النقم: صـ 119)
  • نقل العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى عن إبراهيم بن عبدالله القلانسي رحمه الله تعالى: أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال عن الصوفية: لا أعلم أقوامًا أفضل منهم. (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: 1/120)
  • نقل ابن مفلح: قيل للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: إن الصوفية يجلسون في المساجد على سبيل التوكل، قال العلم أجلسهم؟ فقيل: ليس مرادهم من الدنيا إلا كسرة خبز وخرقة؟ فقال: لا أعلم على وجه الأرض اقوامًا أفضل منهم، قيل إنهم يستمعون ويتواجدون؟ قال: دعوهم يفرحون مع الله تعالى ساعة، قيل: فمنهم من يُغشى عليه ومنهم من يموت؟ فقال:

وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ   (الزمر: 47)  (الآداب الشرعية ابن مفلح المقدسي: 2/308)


هذه الشهادة تبرز الروح الإيمانية التي يتحلى بها أهل التصوف والتي جعلتهم قدوة في الزهد والطاعة لله تعالى، وأقوالهم في الثناء عليهم كثيرة وشهيرة وفي الكتب المعتبرة منثورة.

شبهات تثار حول التصوف:

لقد تعرض التصوف لعدة هجمات من بعض الأفراد والجماعات الذين حاولوا تشويهه وربطه بالبدع والخرافات، ولكن الحقائق تبين أن التصوف لا علاقة له بتلك الممارسات المنحرفة. والشيوخ الأجلاء من أهل التصوف قد تصدوا لهذه الشبهات وأكدوا على أن التصوف يظل وفيًّا للكتاب والسنة.

يقول سيدي المربي فضيلة العارف بالله الشيخ عبد القادر عيسى رحمه الله تعالى في كتابه حقائق عن التصوف:

إلاَّ أن هناك جماعة من الدخلاء على الصوفية، نسبوا أنفسهم إليهم وهم منهم براء، شوَّهوا جمال حلقات الأذكار بما أدخلوا عليها من بدع ضالة، وأفعال منكرة، تحرمها الشريعة الغراء؛ كاستعمال آلات الطرب المحظورة، والاجتماع المقصود بالأحداث، والغناء الفاحش، فلم يَعُدْ وسيلةً عملية لتطهير القلب من أدرانه، وصلته بالله تعالى، بل صار لتسلية النفوس الغافلة، وتحقيق الأغراض الدنيئة.

ومما يُؤسَف له أن بعض أدعياء العلم قد تهجموا على حِلَقِ الذكر ولم يميزوا بين هؤلاء الدخلاء المنحرفين وبين الذاكرين السالكين المخلصين الذي يزيدهم ذكر الله رسوخًا في الإيمان، واستقامة في المعاملة، وسُموًّا في الخلق واطمئنانًا في القلب، وهناك علماء منصفون قد ميَّزوا بين الصوفية الصادقين السائرين على قدم الرسول الأعظم ﷺ، وبين الدخلاء المارقين، وأوضحوا حكم الله في الذكر، وعلى رأسهم العلاَّمة ابن عابدين في رسالته شفاء العليل، فقد ندد بالدخلاء على الصوفية، واستعرض بدعهم ومنكراتهم في الذكر وحذر منهم، ومن الاجتماع بهم، ثم قال: ولا كلام لنا مع الصُّدَّق من ساداتنا الصوفية المبرئين من كل خصلة ردية، فقد سئل إمام الطائفتين سيدنا الجنيد رحمه الله تعالى: إن أقوامًا يتواجدون ويتمايلون؟

فقال: دعوهم مع الله تعالى يفرحون، فإنهم قوم قطعت الطريق أكبادهم، ومزق النصب فؤادهم، وضاقوا ذرعًا فلا حرج عليهم إذا تنفسوا مداواة لحالهم، ولو ذقتَ مذاقهم عذرتهم.

ثم قال: وبمثل ما ذكره الإمام الجنيد رحمه الله أجاب العلاَّمة النحرير ابن كمال باشا رحمه الله لَمَّا استفتي عن ذلك حيث قال:

      ما في التواجد إن حققتَ من حرج     

ولا التمايل إن أخلصتَ من باس

فقمتَ تسعى على رِجْلٍ وَحُقَّ لمن

    دعاه مولاه أن يسعى على الراس     

(حقائق عن التصوف: صـ 158-159) (شفاء العليل وبل الغليل في حكم الوصية بالختمات والتهاليل: صـ 172 – 173)

وهذه الفقرة كافية لتوضيح الفرق الكبير بين التصوف السليم وأعمال بعض الأشخاص الذين حاولوا استخدام التصوف كغطاء لممارسات غير شرعية، وهي في نفس الوقت ترد على كل من يلصق الأباطيل في مدرسة التصوف العظيمة التي تمثّل المنهج العمل للإسلام.

دور التصوف في النفس والمجتمع:

التصوف له دور كبير في تزكية النفس، ويؤثر بشكل إيجابي على الفرد والمجتمع، من خلال المراقبة المستمرة للنفس والإخلاص في الأعمال، يتحقق السالك من صفاء قلبه وصفوِ نيته.

أما على مستوى المجتمع، فإن التصوف يساهم في نشر المحبة والتعاون بين الأفراد، ويحفز الناس على العمل من أجل الخير العام، فإذا استقام المؤمن في سلوكه ظاهرًا وباطنًا عاش في المجتمع لبنة تشعّ لمن حولها النور وينير لغيره الطريق ويشفق على الناس ويريد لهم من الخير ما وصل إليه وتحقق به لأن نفسه تزكت فلا يحسد أحداً ولا يأكل مال أحد، ولا يخاصم لأجل دنيا، يعفو ويصفح، ويحلم ويصبر، صابر على أذى جاره، يسعى في خدمة الناس، يحب للناس ما يحب لنفسه.

أهمية صحبة المرشد والمربّي في التصوف:

المرشد في التصوف يعد من الركائز الأساسية في سير السالك على الطريق، فهو الذي يرشد السالك إلى طريق الحق، وهو الطريق العملي الموصل إلى تزكية النفوس والتحلّي بالكمالات الخلقية، ولا يستطيع السالك أن يحقق مراده من التصوف دون صحبة مرشد صالح يعرف طريق السلوك ويعطيه النصيحة والتوجيه الصحيح، فتشفى بملازمته وحضور مجالسه من الأمراض القلبية والعيوب النفسية، وتتأثر شخصية الجالس له بشخصيته التي عرفت بالاستقامة والحضور مع الله تعالى، ففي الحديث عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله! أيُّ جلسائنا خير؟

قال: مَنْ ذكَّركُم الله رؤيتُهُ، وزاد في علمكم مَنْطقُه، وذكَّركم في الآخرة عملُه. (جمع الزوائد: 10/226، رجاله رجال الصحيح)

ولأهمية المرشد إلى الله قال الله تعالى:

الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا   (الفرقان: 59)

وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ   (لقمان: 15)

أخيرًا!

إن التصوف ليس طقوسًا ولا طلاسم، بل هو علم عظيم المقام، يقوم على الكتاب والسنة، وهو روح الدين وجوهره وفي زمن طغت فيه الماديات، واضطربت فيه النفوس، واشتدت الغربة، فإن التصوف هو البلسم؛ لأنه يعيد الإنسان إلى قلبه، وينفخ فيه من روح الله، ويقوّي صلته بخالقه الذي طلب منه التحقق بمقام:

فَاذْكُرُوْنِی اَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوْا لِی وَ لَا تَكْفُرُوْنِ (152:البَقَرَة)

نسأل الله أن يرزقنا صدق التوجه إليه، ومحبة أوليائه، والسير على خطى العارفين، إنه وليّ ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليمًا.

تعليقات



رمز الحماية