منزلة أولياء الله الصالحين ومكانتهم عند ربهم | محمد جنيد المدني


نشرت: يوم الإثنين،17-ديسمبر-2018

منزلة أولياء الله الصالحين ومكانتهم عند ربهم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، أما بعد:

فأعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم

منزلة أولياء الله الصالحين ومكانتهم عند ربهم:

إن الأولياء هم عباد الله الصالحون الذين يتقربون إليه بأداء ما افترضه عليهم، ويجتهدون في عبادته وطاعته، طمعاً في نيل رضاه فيمتثلون لأوامره ويبتعدون عن نواهيه، ويسعون بكل جهدهم في مخالفة النفس وعصيان الشيطان، ويصبرون على الابتلاءات والمحن التي تواجههم في سبيل الوصول إلى ربهم سبحانه، فيملأ قلوبهم بنور معرفته، وإذا تكلم أحدهم تكلم بحمد ربه والثناء عليه، وإذا اجتهد اجتهد فيما يقربه إليه سبحانه، وهم لا يتوجهون بقلوبهم إلا إليه سبحانه، وإذا ما وصل العبد إلى هذا المقام والكيفية اصطفاه سبحانه بقربه ورحمته، وجعله ولياً وكان له سبحانه ناصراً ومعيناً على طاعته وعبادته، ويحفظه من الشر والمعاصي، ويشرفه بمرتبة محبوبيته وهذا من أعظم درجاته ومراتبه، والأمر لا يقتصر على ذلك وحسب بل يجعل له القبول في أهل السماء والأرض، ويجعل حبه وتعظيمه في قلوب خلقه، كما ورد في حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم قال:

(إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ...،). (صحيح مسلم: 2637)

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث الشريف:

محبَّة الله تعالى لعَبدِه هِيَ إرادَتُه الخَيرَ له وهدايَتُه وإنعَامُه عَلَيه ورَحمَتُه...، وحُبُّ جِبْرِيلَ والملائِكةِ يُحْتَمَلُ وَجهَينِ أَحَدُهُما: استِغفَارُهُم له وثَناؤُهُم عَلَيْهِ ودُعاؤُهُم، والثَّانِي: أَنَّ مَحَبَّتَهُم عَلَى ظَاهِرِهَا المعرُوفِ مِنَ المخلُوقِينَ وهُوَ مَيْلُ الْقَلبِ إليه واشتِياقُهُ إلَى لِقائِه، وسَبَبُ حُبِّهِم إِيَّاهُ كَوْنُهُ مُطِيعًا لِلَّهِ تعالى مَحبُوبًا له، ومَعْنَى (يُوضَعُ له الْقَبُولُ فِي الْأَرْض) أَي الحُبُّ فِي قُلُوبِ النَّاسِ وَرِضَاهُم عَنْهُ فَتَمِيلُ إليه القُلُوب وَتَرْضَى عَنْه...، (المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: 16/184)

فهؤلاء الجماعة جماعة الصالحين مقتدين بالنبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم وأصحابه والتابعين رضوان الله تعالى عليهم، وهم زينة للأرض وضياء للزمان والعالم يفوح بعطر معرفتهم، وهم يثبتون عند المحن والابتلاءات مُضَحِّين بأمنياتهم ورغباتهم لنيل رضى ربهم سبحانه، ولا يخافون من التضحية والفداء بنفوسهم وحياتهم في سبيله سبحانه، الناس يأكلون ويشبعون وهؤلاء يبقون جائعين صائمين، والناس يقضون لياليهم في النوم والاستراحة وهؤلاء يمضون لياليهم باكين قائمين وساجدين، فهؤلاء الناس أولياء الله الصالحين الذين زيَّن الله رؤوسهم بتاج الولاية، وشرح قلوبهم بعرفانه، وأطلعهم على أسراره، وما أجمل وأحسن فضائلهم وما أعلى وأولى مراتبهم وما أرفع وأعظم منزلتهم عند ربهم سبحانه فقد بين تعالى فضائلهم وكمالاتهم في كتابه الكريم وعلى لسان حبيبه الذي لا ينطق عن الهوى: حيث قال جل وعلا:

(أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ (62) ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ). (يونس: 62 - 63)

بين المفسرون أقوالًا عديدة في تفسير هذه الآية الكريمة، بعض منها على النحو التالي:

  • قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا. (جامع البيان في تأويل القرآن للطبري: 15/118)
  • ونقل القرطبي في تفسيرها حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الذي رواه الإمام أبو داود في سننه أنه قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:

    «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَأُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ، وَلَا شُهَدَاءَ يَغْبِطُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى»

    قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تُخْبِرُنَا مَنْ هُمْ، قَالَ:

    «هُمْ قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا، فَوَاللَّهِ إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ، وَإِنَّهُمْ عَلَى نُورٍ لَا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلَا يَحْزَنُونَ إِذَا حَزِنَ النَّاسُ» وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. (المرجع السابق: 15/121)، (سنن أبي داود: 3527)

  • وقال الإمام البيضاوي مفسراً لها: أَلا إِنَّ أَولِياءَ اللَّهِ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة، لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه، وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات مأمول. (أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي: 3/118)
  • وفسرها الإمام القرطبي قائلًا هذا: (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ فِي الْآخِرَةِ. (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) لِفَقْدِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: (لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) أَيْ مَنْ تَوَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتَوَلَّى حِفْظَهُ وَحِيَاطَتَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ فَلَا يَخَافُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَحْزَنُ...، (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 8/357)

وكذلك في الحديث الشريف بين الحبيب صلى الله تعالى عليه وآله وسلم منزلة ولي الله تعالى ومكانته، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ:

مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ...، (صحيح البخاري: 6502)

يقول الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى تحت هذا الحديث الشريف:

العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول الله كنت له سمعًا وبصرًا، فإذا صار نور جلال الله سمعًا له سمع القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور بصرًا له رأى القريب والبعيد، وإذا صار ذلك النور يدًا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب. (التفسير الكبير: جـ21، صـ436)

وكذلك روى الإمام الحاكم في مستدركه حديثاً يدل على مكانتهم عند ربهم سبحانه حيث نقل: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم:

«الْيَسِيرُ مِنَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَمَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللَّهِ فَقَدْ بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْأَبْرَارَ الْأَتْقِيَاءَ الْأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِنْ غَابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهُمْ مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ مُظْلِمَةٍ». (المستدرك للحاكم: 1/44، رقم الحديث: 4)

حياة الأولياء بعد وفاتهم:

ذكر الإمام جلال الدين السيوطي رحمه الله تعالى في كتابه شرح الصدور بشرح حال الموتى والقبور بعض روايات موثوقة عن حياة الأولياء بعد وفاتهم، وأيضًا نقلها الإمام أحمد رضا خان رحمه الله تعالى في فتاويه المعروفة بـ "الفتاوى الرضوية"، بعض منها فيما يلي:

  • قال الشيخ أبي سعيد الخراز رحمه الله تعالى: كنت بمكة فرأيت بباب بني شيبة شابًّا ميتًا، فلما نظرت إليه تبسم في وجهي، وقال لي: يا أبا سعيد أما علمت أن الأحباء أحياء وإن ماتوا، وإنما ينقلون من دار إلى دار. (شرح الصدور، باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم... إلخ، صـ206 - 207)
  • وعن الشيخ أبي علي الروذباري أنه ألحد فقيرًا، فلما فتح رأس كفنه ووضعه على التراب ليرحم الله غربته، قال: ففتح لي عينيه، وقال لي: يا أبا علي لا تذللني بين يدي من يدللني، فقلت: يا سيدي أحياة بعد الموت؟! فقال لي: بل أنا حيٌّ وكل محب لله حيٌّ لأنصرنك بجاهي غدًا. (شرح الصدور، باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم... إلخ، صـ207)
  • وقال إبراهيم بن شيبان رحمه الله تعالى: صحبني شاب حسن الإرادة فمات، فاشتغل قلبي به وتوليت غسله فبدأت بشماله من الدهشة، فأخذها مني ثم ناولني يمينه، فقلت: صدقت يا بني أنا غلطت. (شرح الصدور، باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم... إلخ، صـ207)
  • وعن أبي يعقوب السوسي رحمه الله تعالى أنه قال: غسلت مريدًا فأمسك إبهامي وهو على المغتسل، فقلت: يا بني خل يدي فإني أدري أنك لست بميت وإنما هي نقلة فخلى عن يدي. (شرح الصدور، باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم... إلخ، صـ207)
  • وعنه أيضًا أنه قال: جاءني مريد بمكة فقال: يا أستاذ غدًا أموت وقت الظهر فخذ هذا الدينار فاحفر لي بنصفه وكفني بالنصف الآخر، فلما كان الغد وجاء وقت الظهر، جاء وطاف ثم تباعد ومات، فلما وضعته في اللحد فتح عينيه، فقلت: أحياة بعد>الموت فقال: أنا محب وكل محب لله حي. (شرح الصدور، باب زيارة القبور وعلم الموتى بزوارهم... إلخ، صـ207)

وهذا الحديث الذي أورده الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره مفاتيح الغيب المشتهر بالتفسير الكبير مؤيِّدٌ لهذه الروايات التي ذكرناها آنفاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام:

(أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار). (التفسير الكبير: جـ9، آل عمران: 169 الآية، صـ94)

حب الأولياء سبب لنيل رحمة الله:

من هنا تجلت منزلتهم ومكانتهم عند ربهم سبحانه، فكم من درجات رفعها الله تعالى لهم، وكم من شرف أعطاهم الله سبحانه، وكم من عطاء أفاضه الله عليهم، وكم من رحمة نالوها من ربهم سبحانه، هؤلاء أولياءه ومحبوبوه يحبهم ويحبونه سبحانه،

فعلينا أيها الأحبة أن نحبهم ونقتدي بآثارهم ونتمسك بطريقهم ونسلك منهجهم ونتخلق بأخلاقهم، لأن الحب والتعلق بهم وسيلة وذريعة لنيل رحمة الله ورضاه كما ورد في حديث النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم عن يوم القيامة: يقول الله عز وجل:

"لَا يَنَالُ رَحْمَتِي مَنْ لَا يُوَالِي أَوْلِيَائِي ويُعَادِي أَعْدَائِي". (رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير: 22/59 رقم الحديث: 140)

فنسأله سبحانه أن يرزقنا حبهم، وحب من يحبهم، وحب من يقربنا إلى حبهم، وأن يحشرنا معهم في الحشر والمعاد، ويجمعنا بهم وبنبيه وأصحابه، إنه ولي ذلك والقادر عليه،

وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه ومن سار على نهجه أجمعين... والحمد لله رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية