مدونات مختارة
الأكثر شهرة
آفات اللسان | الشيخ طارق المحمد
دخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر:إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا، فأنت من أهل هذه الآية: إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا (الحجرات ٦). وإن كنت صادقًا، فأنت من أهل هذه الآية:هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ (القلم ١١). وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو، يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا (إحياء علوم الدين ج٣ ص١٩٢)
ومن هنا قيل في المثل: كمالك في كلامك ، ومثله أيضاً: «لسانك حصانك إن صنته صانك وإن هِنته هَانك.
لا شكّ أنّ اللسان نعمة من أجل النعم على الإنسان، وبها يفْصح عن الحب والألم والمرض، وبها يصلح بين الناس ويقرأ القرآن ويذكر الله ويدعو إلى الله وبها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وبها أيضاً يقول الصدق ويتحرى محاسن الكلام والألفاظ، وبها ينشر العلم والفضيلة، وبالمقابل: أنه بهذه النعمة قد يكذب ويحرّف الكلام، أو يجادل ويماري ويغتاب، وبها أيضاً قد ينشر الفساد ويسب ويشتم العباد، أو يقول كلاما يهوي به سبعين خريفاً في جهنم.
وهذه النعمة التي هي اللسان سلاح ذو حدّين، ذلك العضو الذي قد يكب الناس على وجوههم في جهنم بسببه، ذاك اللسان الذي أورد أصحابه الموارد، الذي قالَ سَيِّدُنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَين أَمْسَكَ لِسانَهُ وخاطَبَهُ قائِلاً:
يا لِسانُ قُلْ خَيْرًا تَغْنَمْ وٱسْكُتْ عَنْ شَرٍّ تَسْلَمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَنْدَم إِنّي سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلَّمَ يَقُولُ أَكْثَرُ خَطايا ابْنِ آدَمَ مِن لِسانِه (رواه الطبراني وغيره)
لذلك استقامة الإنسان أصلها استقامة قلبه ولا يستقيم القلب إلا باستقامة اللسان، بل إن أعضاء الانسان تشتكي اللسان كل يوم ففي الحديث
إذا أصبحَ ابنُ آدمَ، فإنَّ الأعضاءَ كلَّها تُكفِّرُ اللِّسانَ، فتقولُ: اتَّقِ اللهَ فينا، فإنَّما نحنُ بكَ، فإن استقمْتَ استقَمْنا، وإن اعوجَجْتَ اعوجَجْنا. (أخرجه الترمذي واللفظ له، وأحمد)
ولذلك فإن أكثر ما يلوم المرء نفسه عليه في يومه وحياته هو لسانه! وأن أكثر ما يدخل الناس النار هو الفم(اللسان) والفرج ألم نقرأ أنه:
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ فَقَالَ الْفَمُ وَالْفَرْجُ. (أخرجه الإمام الترمذي وقَالَ هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ وَعَبْدُ اللَّهِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الزُّهْدِ)
وإذا أردنا معرفة واستقصاء تلك الخطايا التي تتسبب في دخول النار لمن أطلق للسانه العنان، فيرجع ذلك إلى آفات يقع بها اللسان، ويتهاون بها الإنسان؛ فتورده المهالك والنيران، وقد ذكر الإمام الغزالي خطر تلك الآفات وعدَّدها في كتاب الإحياء وجمعها في عشرين آفة نذكر بعضها(مقتبس من إحياء علوم الدين)
الآفة الأولى الكلام فيما لا يعني: فمَنِ اشْتَغَلَ بِمَا لا يَعْنِيهِ فَاتَهُ مَا يَعْنِيهِ وورد:
إنَّ من حُسنِ إسلامِ المرءِ قلةَ الكلامِ فيما لا يَعنيهِ. (الإمام أحمد في المسند عن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم)
وسببه الحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو ملأ الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها وعلاج ذلك كله أن يعلم أن أنفاسه رأس ماله وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الخيرات الحسان فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين، ومَن حسبَ كلامَهُ مِن عملِهِ؛ قلَّ كلامُهُ إلّا فيما يعنيهِ.
الآفة الثانية فضول الكلام: وهو أيضا مذموم لأنه زيادة فيما يعني على قدر الحاجة فإن حصل المقصود بكلمة واحدة فذكَرَ كلمتين فالثانية فضول.
الآفة الثالثة الخوض في الباطل: وهو الكلام في المعاصي والباطل وأنواعه لا يمكن حصرها و لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا وقد ورد: "أعظمُ الناسِ خطايا يوم القيامةِ أكثرُهم خوضًا في الباطلِ"، وأهل النار ينعون أنفسهم بقول: وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلۡخَآئِضِينَ. (المدثر ٤٥) فاحذر الخوض مما يوردك موارد أهل النار.
الآفة الرابعة المراء والجدال: المراء وهو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض فكل كلام سمعته فإن كان حقا فصدّق بِه وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.
الآفة الخامسة الخصومة :وهي أيضا مذمومة وهي وراء الجدال والمراء وحقيقتها لجاج في الكلام ليستوفي به مال أو حق وفي الحديث: إنَّ أَبْغَضَ الرِّجالِ إلى اللَّهِ الألَدُّ الخَصِمُ. (صحيح البخاري)
الآفة السادسة التقعر في الكلام: وهو التشدق وتكلّف السجع والفصاحة والتصنع فيه فإنه تكلُّف مقوت، ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم.
الآفة السابعة الفحش والسب وبذاءة اللسان: وهو مذموم منهي عنه ومصدره الخبث واللؤم لحديث : إيّاكم والفُحشَ فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفاحشَ والمُتفحِّشَ.ُ. (أخرجه ابن حبان في صحيحه)
الآفة الثامنة اللعن: اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم "ليس المؤمنُ بطَعّانٍ، ولا بلَعّانٍ، ولا الفاحشِ البَذيءِ" واللعن هو الطرد والإبعاد من الله تعالى وليس لأحد حق فيه.
الآفة التاسعة الغناء والشعر: والمذموم منهما ما اشتمل على محرم أو دعاء إليه.
الآفة العاشرة المزاح: والمنهي عنه المذموم منه هو المداومة عليه والإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك والضغينة في بعض الأحوال ويسقط المهابة والوقار
الآفة الحادية عشرة السخرية والاستهزاء: وهو محرم لأنه استهانة وتحقير للغير وتتبع العيوب والنقائض على وجه يُضْحَك منه وقد يكون بالقول والفعل وقد يكون بالإشارة والإيماء ونهى القرآن صراحة عنه في آيات واضحات من سورة الحجرات.
الآفة الثانية عشرة الغيبة: وقد حرمها الله في كتابه وشبّه صاحبها بآكل لحم الميتة فقال تعالى وَلَا يَغۡتَب بَّعۡضُكُم بَعۡضًاۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمۡ أَن يَأۡكُلَ لَحۡمَ أَخِيهِ مَيۡتٗا فَكَرِهۡتُمُوهُۚ. (الحجرات ١٢) وفي الحديث: يا معشرَ من آمن بلسانِه ولم يؤمِنْ بقلبِه لا تغتابوا المسلمين ولا تتَّبعوا عوراتِهم. (أخرجه أبو داود)
الآفة الثالثة عشرة النميمة: ففي الحديث لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمّامٌ. (صحيح مسلم) وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الإخوان الملتمسون للبراء العثرات
الآفة الرابعة عشرة كلام ذي الوجهين: وهو ذو اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وقد يكون بسببه فتنة ونميمة فليحذر فعل شر الناس.
وآفَاتِ اللِّسَانِ عديدة وكثيرة ليست محصورة فيما ذكرناه، ومن أخطرها القولُ عَلى اللهِ تَعالى بِغَيرِ عِلمٍ القَوْلُ فهو من أعظم المحرمات، قال تعالى: وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ. (تفسير الواحدي النيسابوري الوسيط في تفسير القرآن المجيد ج٢/٣٦٤) ويدخل فيه الشهادات و الأيْمان وغيرها.
كثيرون هم الواقعون ببعض هذه الآفات أو أكثرها ، فلينتبه المرء لذلك، وعلى المؤمن أن يحذر هذه الآفات وغيرها ويعمل على التخلّص من جميع آثام لسانه، ويعوّد لسانه ذكر الله و تلاوة القرآن، والكلام الحسن، وذلك بالصحبة الصالحة والمحافظة على مجالس الذكر، ثم محاسبة النفس اليومية على الكلام كل مساء ليقلل مما يكثر منه في يومه الآخر، ويتوب من موبقات الكلام.
وإذا لم يتخلص المرء من آفات لسانه، وزلّات كلامه، فقد يزلّ لسانه عند النزع ويُخشى عليه من سوء الخاتمة، نسأل الله العفو والعافية والسلامة لنا ولكم ولجميع أهل الإيمان بجاه النبي الأمين والحمد لله رب العالمين.
تعليقات