نعمة الرضا | محمد إلياس اليماني


نشرت: يوم السبت،27-فبراير-2021

نعمة الرضا

كلنا يبحث عن السعادة وهي من الأهداف السامية والغايات العالية، وأمنية كل إنسان مسلمًا كان أو كافرًا، بل إن الفقراء والأمراء والوزراء والحكام والسلاطين يسعون لتحصيلها في حياتهم لأن طبيعة البشر تكره حياة النكد والشقاء ويبذل جهده ليعيش في ظلال السعادة الحقيقية لذا يبحث عنها وتتنوع أساليب ووسائل البحث عنها، ويختلف الناس في طلب السعادة، كلُ واحد من منظاره فمنهم من يبحث عنها في جمع الأموال من الذهب والفضة والأنعام والخيل المسومة والزروع والنخيل والأنهار الجارية. ومنهم من يبحث عنها في المناصب والرئاسة، ومنهم من ينشدها في كثرة الأهل والأولاد، ومنهم من يراها في المآكل والمشارب، واعتقدتها فئات في حسن العلوم والمعارف، وهكذا يراها كل واحد من زاوية معينة ويبحث عنها بكل ما أوتي من قوة. فما هو سر السعادة وأين تكمن حقيقتها؟

سر السعادة:

الكثير من الناس يفقدون السعادة رغم أنهم يمتلكون أسبابها المادية الظاهرة سواء في المال والجاه والأولاد والبناء والقصور والسيارات والمتاجر وغير ذلك لكن مع كل هذا هم يبحثون عنها ولا يشعرون بحقيقتها!

هل فكّر أولئك الباحثون بأن السعادة الحقيقية في عبادة الله سبحانه وتعالى والتمسك بشرعه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه ثم ترك التضجر والتسخّط على قضائه وقدره، وبعبارة أخرى هل بحثوا في جانب الرضى بقضاء الله وقدره!

لا شك أن من يرضى بقضاء الله فقد ذاق طعم الإيمان ومن ذاق طعم الإيمان فقد نال السعادة، كما يقول الإمام النووي ناقلاً عن القاضي عياض رحمه الله حول حديث:

ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد ﷺ رسولا. (صحيح مسلم: ٣٤)

أي: صح إيمانه واطمأنت به نفسه وخامر باطنه لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته ونفاذ بصيرته ومخالطة بشاشته قلبه لأن من رضي أمرًا سهل عليه فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذَّت له. (شرح صحيح مسلم للنووي:٢/٢)

مقامات الرضا:

وعُلم من ذلك أي من الحديث السابق: أن مقاماته ثلاثة:

الأول: الرضوان بربوبيته وألوهيته سبحانه وتعالى، بأن لا يتخذ المسلم ربًّا غيره سبحانه وتعالى وينزل به حوائجه ويسكن إلى تدبيره وتقديره الذي قدره له كما قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى:

قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ. (الأنعام:١٦٤)

أطلب ربا سواه، وهو رب كل شيء، يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري، أي: لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه؛ لأنه رب كل شيء ومليكه، وله الخلق والأمر. (تفسير ابن كثير:٣/٣٨٣)

الثاني: الرضوان برسوله ﷺ فيكون بكمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بأن يكون النبي ﷺ أولى به من نفسه كما قال الإمام أبو منصور الماتريدي في تفسير قوله تعالى:

النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ. (الأحزاب:٦)

أي هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم، أي: هو أولى أن يعظّم ويكْرم ويشرف ويحترم ويطاع من غيره. (تفسيرالماتريدي:٨/٣٩٥)

وأما الثالث: الرضوان بدينه: فإذا قال أو حكم أو أمر أو نهى رضي بذلك، ولم يبق فى قلبه حرج من حكمه، وسلم لله تسليمًا ولو كان مخالفًا لرضا النفس وهواها ولمرادها. (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب: ٢/ ٥٢٩ بتصرف)

فهو طريق السكينة والوقار وسر السعادة والطمأنينة، فهو جنة الدنيا للمؤمنين ونعيم المتقين ومستراح القانتين وقرة عين المحبين، وليس من شروطها بأن لا يحس العبد الكاره والألم، ولكنه لا يعترض على حكم الله سبحانه وتعالى ولا يسخط، لأن كراهة النفس أو الشعور بالألم لا ينافيه، كما نرى المريض يرضى بشرب الدواء الكريه المرير، وكما يرضى المسلم المؤمن حين يصوم في اليوم الشديد الحر بما يشعر من ألم الجوع والظمأ.

وكما هو معلوم لدى الجميع حين توفي إبراهيم بن حبيبنا ونبينا محمدﷺ حيث قال ﷺ

إِنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، وَالقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلاَ نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. (صحيح البخاري: ١٣٠٣)

فدموع العين وحزن القلب لا ينافيه بل قول الحبيب ﷺ: ولا نقول إلا ما يرضي الرب. ليعلمنا أن نرضى بالقضاء والقدر فهو المطلوب من العبد بأن يرضى بقضاء الله وقدره ولا يسخط عليه.

الرضا بالقدر:

نرى كثيراً في أيامنا وواقعنا من هو غير راض عن حاله وماله ونفسه، فالمتزوج يتطلع لغير زوجته، والمريض يسخط والصحيح يتذمّر، والموظف يضجر من عمله، والعاطل يبحث عن العمل، وصاحب المال في طلب المزيد، والفقير لا يرضي بحاله، وباختصار فإن الأكثر مع علوّ ما هو فيه من النعم والأحوال غير راض عن نفسه وحاله وماله.

فلماذا هكذا البشرية تشتكي من حالها وعيالها وما هي فيه!

ولمن تشتكي؟ وهل الشكوى إلى الخلق أم الخالق؟ ومن المعلوم أن الخلق لا يستطيعون جلب خير أو نفع، ولا يقدِروا دفع شرٍ أو ضرٍ فكيف لهم أن يجلبوا سعادة؟

يقول الإمام ابن رجب الحنبلي -رحمه الله- في قول النبيﷺ:

فلو أنَّ الخلقَ كلَّهم جميعًا أرادوا أنْ ينفعوكَ بشيءٍ لم يقضِهِ اللهُ، لم يقدِروا عليه، وإنْ أرادوا أن يضرُّوكَ بشيءٍ لم يكتُبْهُ اللهُ عليكَ، لم يقدِروا عليه.

أي إن ما يصيب العبد في دنياه مما يضره أو ينفعه، فكله مقدر عليه، ولا يصيب العبد إلا ما كتب له من ذلك في الكتاب السابق، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعا. (جامع العلوم والحكم: ٤٨٣)

فإذا علم المرء بأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله سبحانه وتعالى له من الخير والشر والنفع والضر، فيرضى به ولا يشتكي إلى غيره سبحانه وتعالى، روي عن عبد الرحمن بن إبراهيم الفهري، عن أبيه، قال: " أوحى الله عز وجل إلى بعض أنبيائه: إذا أوتيت رزقا مني، فلا تنظر إلى قلته، ولكن انظر إلى من أهداه إليك، وإذا نزلت بك بلية، فلا تشكني إلى خلقي، كما لا أشكوك إلى ملائكتي حين صعود مساوئك، وفضائحك إلي. (الزهد والرقائق للخطيب البغدادي: ٨٢)

طريق الرضا:

طريق الرضا مختصر جدا يوصل العبد إلى أجلّ غاية، ولكن مع مشقة وصعوبة وكما قيل لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَبِر، ومن أعظم أسباب تحصيله أن يلازم ما جعل الله سبحانه رضاه فيه فإنه يوصله إلى مقامه ولا بد. وقد قيل ليحيى بن معاذ - رحمه الله -: متى يبلغ العبد إلى مقام الرضا؟ فقال إذا أقام نفسه على أربعة فصول فيما يعامل به ربه، فيقول إن أعطيتني قبلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت.

وروي في الإسرائيليات أن عابدا عبِدَ اللهَ دهرًا طويلًا فرأى في المنام فلانة الراعية رفيقتك في الجنة فسأل عنها إلى أن وجدها فاستضافها ثلاثًا لينظر إلى عملها فكان يبيت قائمًا وتبيت نائمة ويظل صائمًا وتظل مفطرة، فقال أما لك عمل غير ما رأيت فقالت ماهو والله إلا ما رأيت لا أعرف غيره فلم يزل يقول تذكري حتى قالت خصيلة واحدة هي فيّ إن كنتُ في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء وإن كنتُ في مرض لم أتمن أن أكون في صحة وإن كنتُ في الشمس لم أتمن أن أكون في الظل فوضع العابد يده على رأسه وقال أهذه خصيلة هذه والله خصلة عظيمة يعجز عنها العبّاد.

وعن بعض السلف إن الله تعالى إذا قضى في السماء قضاء أحب من أهل الأرض أن يرضوا بقضائه. ( إحياء علوم الدين:٤/٣٤٦)

ثمرة الرضا

قال عمر بن الخطاب في كتابه الذي كتبه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما :

إن الخير كله فى الرضا، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر. (الرسالة القشيرية:٢ ٣٤٥)

فالرضا عن الخالق سبحانه وتعالى من أعلى مقامات اليقين بالله كما قال الفضيل بْن عياض لبشر الحافي: الرضا أفضل من الزهد في الدنيا، لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته. (الرسالة القشيرية:٢ ٣٤٤)وقد قال الإمام أبو طالب المكي: فمن أحسنَ الرضا عن الله جازاه الله بالرضا عنه، فقابل الرضا بالرضا، وهذا غاية الجزاء ونهاية العطاء، وهو قوله عزّ وجلّ:

رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ. (التوبة: ١٠٠)

وقد رفع الله الرضا على جنات عدن، وهي من أعلى الجنات، كما فضّل الذكر على الصلاة فقال تعالى:

وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً في جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرضْوَانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ. (التوبة: ٢٧ ) ( قوت القلوب في معاملة المحبوب: ٢/ ٦٣)

والرضى له آثار عظيمة وفوائد كثيرة التي تعود على المرء بالخير والسعادة في الدنيا والآخرة وتتمثل فيما يلي:

أولا: تذوق حلاوة الإيمان: كما مر في الحديث السابق الذي رواه الإمام مسلم: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا... إلخ.

ثانيا: غفران الذنوب فقد جاء عن النبي ﷺ:

مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللهِ رَبًّا وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ. ( صحيح مسلم: ٣٨٦)

ثالثا: حصول السعادة: كل من رضي برضى الله سبحانه وتعالى فقد نال السعادة وقرت عينه بمرضاة ربه فيعيش حياة طيبة يقول ابن كثير في قول الله تعالى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً. (النحل:٩٧) هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحا - وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى من بني آدم ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، وإن هذا العمل المأمور به مشروع من عند الله - بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة. ( تفسير ابن كثير:٤/٦٠١)

رابعًا: الفوز برضا الله سبحانه وتعالى في الدنيا والآخرة وهو مطلوب البشرية بأكلمه حتى الأنبياء والرسل، كما قال سيدنا موسى عليه السلام حين سأله ربه سبحانه وتعالى عن الاستعجال فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ. (طه:٨٤)

فيفوز العبد بذلك كما ثبت في الحديث الشريف الذي رواه الشيخان: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ:

إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الجَنَّةِ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لاَ نَرْضَى يَا رَبِّ وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، فَيَقُولُ: أَلاَ أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا. (متفق عليه، البخاري)

فهذه بعض ثمرات وفوائد الرضا في الدنيا والآخرة؛ وهناك ثمرات وفوائد أخرى لا يتسع المقام لذكرها؛ وأسأل الله أن يرزقنا الرضا بقضاء الله وقدره. والحمد لله رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية