مدونات مختارة
الأكثر شهرة
مكانة الرسول ﷺ في القرآن الكريم | الشيخ محمد قاسم العطاري
يقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم
ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُۥ مَكۡتُوبًا عِندَهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَٱلۡإِنجِيلِ يَأۡمُرُهُم بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَيَنۡهَىٰهُمۡ عَنِ ٱلۡمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ. (الأعراف: ١٥٧)
يبدو من قراءة هذه الآية وكأنّها أُنشودةٌ في مدح النبيِّ ﷺ بأسلوب النثر، وتتجلّى مكانة الرسولﷺ فيها من كل كلمة، وقد أجمع المفسّرون أنّ المراد من كلمة الرسول الواردة في هذه الآية هو سيدنا محمد ﷺ عبدُ الله ورسوله ﷺ والوسيط في الرسالة بين الخالق ومخلوقه، هو الذي يبلّغ أوامر الله تعالى ونواهيه وأحكامه لعباده، اختصّه الله بعلم الغيب إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ، وهو لا يحتاج إلى أحدٍ سواه ويتعلّم منه مباشرة، أوصافُه تتألّق في التوراة والإنجيل كالنّجوم، إنّه يحثّ الناس على الخير ويُبعدهم عن الشرّ ليُنقذهم من النار، جسدُه الشريف طيّبٌ، طاهرٌ، مباركٌ، يحبّ الطيبات ويُجوّزُها للأمة، ويجنّبهم الشوائب القذرة والنجاسات ويُحرّمُها عليهم، وقد ريّح الناس من القوانين الباطلة، وعبء العادات السيّئة وتقاليد الجاهلية التي كانت مُنتشرةً بين أوساط المجتمع عبر الزمن، فلا يكون المرء مسلمًا بدون الإيمان به والتأييد له والامتثال لأوامره، ولا يتمّ الإيمان إلا بمعرفته وحبّه واتّباعه وتوقيره، ومَن سنّ سُنّتَه ﷺ فقد فاز فوزًا عظيمًا في الدنيا والآخرة.
وليس معنى كلمة أمّي الواردة في الآية المذكورة ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ ٱلۡأُمِّيَّ أنّه لم يكن يَعرف القراءة والكتابة أصلًا، بل ثبتَ من كتب الحديث والسيرة أنّه ﷺ كان يَقدِر على القراءة والكتابة، بل معناها أنّه لم يتعلّم من مخلوق وإنّما خالقُه مَنْ علّمه، وهذه معجزة للنبي ﷺ، إضافةً لذلك ذكر المفسّرون معاني عديدة لكلمة "أمّي": ¯
- أنّه منسوب إلى أمّ القرى وهي مكة.
- أنّه من العرب وهيَ أمة أمية أي نسبة إلى جماعة لا يعرفون القراءة والكتابة ولو كان هو نفسُه متعلّماً، ولذلك سُمّي أهل مكة بالأمّيِّين مع أنّ الكثير منهم كانوا يقرؤون ويكتبون.
- أنَه ابن الأمة. (تفسير الماوردي، الأعراف، الآية: ١٥٧، ٢٦٨/٢)
بشارات التوراة والإنجيل بالنبي ﷺ
كان اليهود والنصارى يجدون أوصاف الرسول ﷺ المبشّر في التوراة والإنجيل ولكنّهم على الرغم من ذلك كانوا يُعادونه، وقد ذكر المفتي نعيم الدين المراد آبادي رحمه الله تعالي في تفسير هذه الآية قائلًا: كان أهل الكتاب في جميع العصور يحرّفون النصوص التي ذُكرت فيها أوصاف الرسول ﷺ، وكانوا يحاولون طَمسَها من كتبهم، وفعلوا كثيراً ولكنّهم لم ينجحوا، لأنّ نُسَخ الكتاب المقدّسِ كانت منْتشرةً في العالم كلّه، فوصلَتْ بعض أوصافه الشّريفة إلينا في بعض النصوص على الرغم من كل المحاولات، وورد في الآية السادسة عشرة من الإصحاح الرابع عشر "لإنجيل يوحنا" المطبوع في جمعية الكتاب المقدس البريطانية والأجنبية في لاهور باكستان كالآتي: "وأنا أطلب من الآب فيعطيكم مُعزِّيًا آخر ليمكث معكم إلى الأبد". ففسّر الشارح كلمة (مُعزِّيًا) في الحاشية فقال: معناه وكيلٌ أو شفيع، أي: وهو الذي يبقى معكم إلى الأبد، معناه: أنّ دينه لا يُنسخ إلى يوم القيامة، وهو رسول الله ﷺ حتمًا بدون أي شك، ثم جاء في الآية التاسعة والعشرين وكذا في الثلاثين من الإصحاح نفسه: "وقلتُ لكم الآن قبل أن يكون بعدها حتّى متى كان تؤمنون، لا أتكلّم أيضًا معكم كثيرًا؛ لأنّ رئيس هذا العَالَم يأتي وليس له فِيَّ شيءٌ". هذه بشارة من سيدنا عيسى عليه السلام برسولنا ﷺ، وجعل أمّته تنتظر ولادته المباركة وتشتاق إليه، وهو في الحقيقة ترجمة لكلمة "البارقليط" اليونانية، أما قول سيدنا المسيح عليه السلام: "وليس له فِيَّ شيءٌ"، وهو أدبٌ وتواضعٌ لحق النبي ﷺ.
وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيۡهِمُ ٱلۡخَبَٰٓئِثَ
في هذا الجزء من الآية ذُكر وصفاً آخر للنبي ﷺ بأنّه يُحلّ للأمّة الشيء الطيّب، ومنها الطيّبات التي حرّمها الله تعالى على بني إسرائيل لعصيانهم وكانت مباحةً في الأصل، وكذا يُحرّم عليهم الخبائث والمستقذرات، وقائمةُ المحرّمات وأنواعها ذُكرت في الأحاديث بالتفصيل، فهل رسولُ الله ﷺ كان مُشرِّعًا بمعنى أنّه كان يُحلّ حرامًا ويُحرّم حلالًا؟ ولمعرفة جواب هذا السؤال قد ناقش العلماءُ كثيرًا، والتحقيق في ذلك أنّ الله تعالى قد أعطى السلطة للنبي ﷺ أنْ يُحلّ ما يشاء ويُحرّم ما يشاء، هذا ما يتّضحُ من كلمتي هذه الآية (يُحلُّ ويُحرّم) والمضمون نفسُه ورد في الأحاديث الكثيرة أيضًا، ومَن أراد المزيد حول هذا الموضوع فليُراجع رسالة الإمام أحمد رضا خان رحمه الله تعالى "مُنية اللبيب أنّ التشريع بيد الحبيب"؛ وهي موجودة في المجلد الثلاثين من الفتاوى الرضوية للإمام.
وَيَضَعُ عَنۡهُمۡ إِصۡرَهُمۡ وَٱلۡأَغۡلَٰلَ ٱلَّتِي كَانَتۡ عَلَيۡهِمۡۚ
الإصر: هو الحبس والقهر، والمراد هنا في الآية: الأمور المعقَّدة التي تُقيّدهم عن الخيرات وعن الوصول إلى الثواب، وهي التشديدات التي كانت في دين بني إسرائيل؛ لأنّ الضمير (عليهم) تعود إلى بني إسرائيل، والأغلال جمع غُلٍّ، وهي السلاسل التي توضع في العنق أو اليد، أو الرقبة، والمراد هنا الأثقال والمشقّة، وفي هذا الجزء من الآية ذُكر وصف آخر للنبي ﷺ بأنّه يُسهّل على الناس ويرفع عنهم المشقّة والصعوبات والطقوس الدينيّة غير المشروعة والتقاليد الباطلة التي فرضها عليهم القساوِسةُ والرهبان من عند أنفسهم، والرسول ﷺ قد وضع عنهم الآصار والأغلال كلّها بتشريع أحكامٍ سهلةٍ، وجعل اليُسرَ من طبيعة هذا الدين حيث قال رسول الله ﷺ:
يسّروا ولا تُعسّروا، وسكّنوا ولا تُنفّروا. (صحيح البخاري، ١٣٣/٤, ٦١٢٥)
وقول النبي ﷺ:
أحبّ الدين إلى الله الحنيفيّة السَّمحة. (صحيح البخاري، ٢٦/١)
وفي رواية أخرى: قال النبي ﷺ:
إنّ الدين يُسرٌ. (صحيح البخاري، ٢٦/١، ٣٩)
صفات الناجين
في نهاية الآية ذُكرَتْ صفات الناجين من الخسران في الدنيا والآخرة:
الوصف الأوّل:
الإيمان به: الإيمان بالنبي ﷺ وهو من أهمّ صفات الناجحين؛ لأنّ النجاة والنجاح مقصوران على الإيمان به، وهو رسول جميع الخلق الذين جاؤوا بعد إعلان نبوّته وسيأتون إلى يوم القيامة، كما قال الله تعالى في القرآن الكريم:
قُلۡ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُمۡ جَمِيعًا. (الأعراف: ١٥٨)
وإنّ الله تعالى أخذ العهد والميثاق على جميع الرسل والأنبياء أن يؤمنوا بمحمدٍ ﷺ، وأن ينصروه ويتبعوه إن أدركوه فقال:
لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ. (آل عمران: ٨١)
الوصف الثاني:
توقير النبي ﷺ: توقير النبي ﷺ وتعظيمُه قولًا وعملًا واعتقادًا ظاهرًا وباطنًا فرضٌ على كل مسلمٍ وجزءٌ لازمٌ من الإيمان، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يُوقّرونه ويُقدّرونه بشكلٍ لا مثيل له، وقد قال الشاعر في اللغة الفارسية بما معناه: تحت السماء لا يُوجد مكانٌ أكثر توقيرًا من روضة رسول الله ﷺ، حيث كان عباد الله الصالحين الكبار كالجنيد البغدادي وأبي يزيد البسطامي يحبسون أنفاسهم احترامًا له.
الوصف الثالث:
تأييد رسول الله ﷺ: تأييد رسول الله ﷺ ونصرتُه وإعانته فرضٌ على كل مسلمٍ، قال الله تعالى:
ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ. (الأحزاب: ٠٦)
وقال تعالى:
مَا كَانَ لِأَهۡلِ ٱلۡمَدِينَةِ وَمَنۡ حَوۡلَهُم مِّنَ ٱلۡأَعۡرَابِ أَن يَّتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ ٱللَّہِ وَلَا يَرۡغَبُواْ بِأَنفُسِهِمۡ عَن نَّفۡسِهِۚ. (التوبة: ١٢٠)
من ذلك ما ورد من تقديم سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه قدَمَه للَدغ الحيّة في غار ثور، ونومُ سيدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على فراش رسول الله ﷺ ليلة الهجرة، هي من أعظمُ الأمثلة في التاريخ الإنساني للعون والنصرة له ولا نجد لها نظيرًا، وكذا وقوف الصحابة رضي الله عنهم أمام رسول الله ﷺ في المعارك ليدفعوا السهامَ والرماح بأنفسهم عن جسده الشريف ﷺ، وكانوا تفسيرًا عمليًّا لهاتين الآيتين الكريمتين العظيمتين، ولذا قال الشاعر:
رسولَ الله، يا خيرَ البرايا***فِداك الروحُ يا قلبي فِداكا
فِداك النفسُ والأهلُ وكُلِّي***فِداك المالُ يُبذَلُ في رِضاكا
فِداك دمي ولحمي والعيونُ***فَذرّاتي تَهِيمُ إلى لِقاكا
الوصف الرابع:
اتباع النور: والمراد منه القرآن الكريم، الذي يَتنوّر به قلب المؤمن، وبه يزول ظَلام الشكّ والجهل وينتشر نورُ العلم واليقين، صاحبُ نور السماوات والأرض الذي أنزلَ النورَ بواسطة مخلوقٍ نوراني؛ هو سيدنا جبرائيل عليه السلام على عبده الذي وصفَه بالسراج والمنير، ومن اتّبعَ هذا النور اهتدى بهداية النور وقبرُه يكون منوّرٌ بذلك النور، والنورُ نفسُه سيُضِيء الصراطَ المظلمَ له ليَعبر به إلى الجنة.
حاملوا هذه الصفات كلِّها بُشّروا بالفلاح، بأنّ الذين يؤمنون بهذا الرسول ﷺ ويُوقِّرونه ويَنصرونه ويَتَّبعون النور الذي جاء به هم الناجون.
اللهم نوّر قبري بنورك، واجعل عن يميني وشمالي وأمامي وفوقي نورًا حتى أُبعثَ آمنًا مُطمئنًّا يا نور السماوات والأرض، آمين بجاه النبي الأمين ﷺ.
للاطلاع على مثل هذه المقالات المفيدة ليس عليك إلا زيارة هذا الموقع
تعليقات