لا حسدَ إلا في اثنتين | محمد ناصر جمال العطاري المدني


نشرت: يوم الجمعة،14-يناير-2022

لا حسدَ إلا في اثنتين

وقفة مع حديث نبوي شريف

يقول سيدنا وحبيبنا رسول ﷺ: (لا حسدَ إلّا في اثْنتين: رجل آتَاهُ اللَّهُ مالًا فسُلّط على هَلَكَتِه في الْحقّ، ورجل آتاهُ اللَّهُ الْحكمةَ فهو يقضي بها ويعلّمها).

الحديثُ المذكورُ يدُلُّ على استحسانِ الغِبْطةِ في شيئين اثنين، وذُكر فيه أيضاً الترغيبُ في التصدّق بالمال، وتعليم العِلْم،

ويبدو من ظاهره أنّ الحسدَ جائز في هذين الشّيئين ولكنّ الأمرَ ليس كذلك في الحقيقة، فالحسدُ سيِّءٌ في جميع الأحوالِ ومعصيةٌ أيضًا، بل المرادُ منه الغِبْطَةُ، وهي أنْ يتمنّى المرءُ مثلَ ما للمغبوط من النّعمةِ من غير أنْ يتمنّى زوالُها عنه، وهو ليس جائزًا فحسبُ بل مستحسنٌ في الخير وخصلةٌ محمودةٌ للمؤمن، أمّا الدّنيا الخالية من الدّين فهي مَذمومةٌ وداعيةٌ لغضبِ الله تعالى، وليست من الأشياء الّتي يُغبَط عليها صاحبها، إلّا أنّ الإنفاقَ في سبيل الله تعالى والعلمَ والحكمةَ من الأشياء المرضيّة عند الله تعالى التي يُغبط صاحبها عليها.

ما هما الخصلتان المحمودتان في الحديث الشريف:

  1. أن يُرزق المرء بالمال فهذا فضل من الله، ثم يمنحه التوفيق لينفق في طريقه فهذه هي نعمة ثانية. والمراد من الإنفاق في سبيل الله ، الإنفاق في كل ما لا يتعارض مع الشريعة المطهرة، لذلك إذا أنفق الإنسان مالًا فيما لا ينبغي إنفاقه فيه، فلا يحسَد عليه، ولا يستحق أي فضيلة.
  2. رجل آتاهُ اللَّهُ الْحِكمةَ فَهُوَ يقضي بها ويُعَلِّمها، والمراد بها القرآن أو كلّ ما منع من الجهل وزجر عن القبيح

قال العلامة عبد المصطفى الأعظمي رحمه الله تعالى في "التعليق" على هاتين الخصلتين: لاحظوا أنّ رسول الله ﷺ لم يجعل حياة أحد من الأمراء والملوك مغبوطةً غيرَ حياةِ الغنيّ الكريم وحياةِ عالم الدين، وهذا يوضّح لنا أنّ حياةَ عالم الدين هي القُدوة للعالم كله، وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي للعالم أنْ يشعر بالنّقص أو الدُّوْنِيَّة، وهم مَصابيح الهداية السّاطعة على أرض الله تعالى بلا شكٍّ، ولقد رزقَهم الله سبحانه وتعالى بخيْره العظيم، ولذلك تستغفر وتدعو لهم الحيواناتُ في الأرض، والطُّيُور في العُشّ، والنّملُ في جُحْرها، والأسماكُ في البحر، وجماعةُ الملائكة تضع أجْنِحَتَها تواضُعًا لهم، سبحان الله، ما هذا الفضل العظيم!

وهكذا قد فضَّلهم الله على الناس، وقد كان الرسول الأعظم ﷺ يدعو لهم، والملائكة تضع أجْنِحَتَها احترامًا لهم، فإذا كانت هذه الأمورُ كلُّها تزيد منزلة العلماء عند الله وعند العقلاء فما ينبغي لهم أن يستاؤوا من بعض الأغْبياء الّذين ينظرون إليهم نظرَ الازْدِراء معرضين عن حكم الله تعالى ورسولِه ﷺ، ويُفْسِدون آخرتهم بالتّباهي بالمال والتّفاخر بالدنيا وإهانة عباد الله الصّالحين!

يجب على علماء الحقّ أن يصبروا على إيذاء هؤلاء الْمُتَغَطْرِسين الجاهلين، وألّا تثبط هممهم بأن يتخلّوا عن إعلاء كلمة الله تعالى والمنزلة الجليلة التي بوّأهم االله إياها، ولقد أمر الله تعالى رسوله ﷺ فقال:

﴿خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ ١٩٩﴾

بعض الفوائد والمسائل المتعلّقة بالحديث السابق:

  1. ظهر أثره في بعض الجوارح فحسدٌ حرام بالاتّفاق وصاحبُ كونِه يستحقّ الْعقوبة من الله تعالى عليه في الآخرة.
  2. إنْ كانتْ النّعمة نعمةً دينيّةً واجبةً فالمنافسة فيها واجبةٌ وإنْ كانتْ النّعمة من الفضائل والصدقات فالمنافسة فيها مندوبة، وإنْ كانتْ نعمةٌ يُتنعّم بها على وجه المباح فالمنافسة فيها مباحة.
  3. الحسد هو اشتغال القلب بالنعم التي عند الناس وتمنّي زوالِها عنهم وتحصيلُها لنفسه، وهو صفةٌ مذمومةٌ، بينما الغِبطة هي صفةٌ محمودة، وعلى المرء أن يتمنّى الأشياء والخصائل العالية.
  4. الإنفاقُ في سبيل الله تعالى والقضاءُ بحكم الله تعالى بعد تعلّم العلوم الدينيّة ونشرُ الخير بين الناس عبادةٌ عظيمةٌ.
  5. ولا تَنسى أنّ الرسول ﷺ لم يأذن بالحسد في هذا الحديث، ولا نقول: إنّ المراد هنا الحسد مذموم، بل هو حسد الغبطة وهو محمود، وكما قلنا هو أنْ يتمنّى المرءُ مثلَ ما للمغبوط من النّعمةِ من غير أنْ يتمنّى زوالُها عنه، ولذلك لا يمكن فهم الحديث بشكلٍ سليم إلا بعد دراسة شروح الحديثِ، وإلّا قد يقع القارئ في الضّلال والضِّياع.

ينبغي للأَثْرِياء أن ينفقوا أموالَهم الّتي وهبهم الله تعالى إياه في نشر الإسلام وفي خدمة أهلهم وأقاربهم وأداءِ فريضة الحجّ والعُمْرة وغيرها من أمور الخير، وكذا ينبغي لأهل العلم أنْ يكونوا في طَلِيْعة من ينشر العلم والمعرفة حتّى يكون ذلك تحفيزًا لأولئك الّذين يقتدون بهذين الفِئَتَيْن ليبذلوا قُصَارَى جُهُودهم في اكْتساب هاتين الفضيلتين في حياتهم العمليّة.

ومَنْ خلال ما سبق ننصح من لا يملكون المالَ الكثيرَ لينفقوه في سبيل الله تعالى أنْ لا بأس عليهم أن يغبطوا الأغْنياءَ الّذين ينفقون في سبيل الله تعالى ويعتقدوا في قُلُوبهم أنّ الّذي يصل لحضرة الله تعالى هو النيّة الصالحة والإخلاص، وإذا كنتُ لا أملكُ المال الكثير لأنفقه في سبيل الله تعالى فإنّني إذا أضفتُ قدرًا كبيرًا من الإخلاص للقليل من المال وتصدّقتُ به في سبيل الله تعالى،

فأرجو بفضل الله تعالى أنْ يُكافِئَني عليه الأجرَ والثوابَ الكثير بلا حسابٍ، وبنفس الطريقة ينبغي لعامّة الناس أنْ يَغبطوا أهل العلم ويعتقدوا في قُلُوبهم أنّ العلم والزيادة منه لا يحصل إلا ببذْل الجُهُود المستمرّة، فعلينا مواصلة جُهودنا لمزيدٍ من التعليم والتعلّم.

فاللهمَّ افْتَحْ علينا فُتُوْح العارفين بحكمتك ووسّع علينا برحمتِك يا ذا الجلال والإكرام.

تعليقات



رمز الحماية