الاحتفال بالمولد النبوي سمة أهل السنة والجماعة | الشيخ أيمن ياسر بكار


نشرت: يوم الإثنين،30-سبتمبر-2024

الاحتفال بالمولد النبوي سمة أهل السنة والجماعة

لقد اتخذنا على عاتقنا في هذه الزاوية أن نتكلم عن سيرة وشمائل وأحوال الحبيب المصطفى ﷺ، والذي ابتدأناه عن "أهمية معرفة السيرة النبوية"، ونحن في شهر ربيع الأول مررنا بمناسبة مباركة كريمة، ينبغي الوقوف عندها لما أثير حولها من الشبهات وكثر فيها من اللغط، ولما للحديث عنها من الأهمية في توضيح صفات أهل المنهج القويم، وتبيين معالم الطريق المستقيم، فإنّ أولى وأعظم ما ينبغي أن نستفيده من نظراتنا إلى السيرة العطرة معرفة الحق وأهله، لنكون في كنفه وحظيرته.....

وهذه المناسبة هي "ذكرى المولد النبوي الشريف"، والاحتفال بها من أعظم الأعمال المستحبة في زماننا، وهي من العلامات المميزة لأهل السنة والجماعة الذين لم يتلبّسوا بأيّ مداهنة ولا مدارة، ولهذا ونصيحة للمسلمين في الدين، ينبغي أن نبيّن أحقّية الاحتفال بالمولد النبوي الشريف:

أولاً- البعد المكاني والزماني في الإسلام:

إنّ الأماكن والأزمان في الإسلام ليست على درجة واحدة في الأفضلية، فبينها تفاوت وتفاضل، فمن الأماكن المباركة التي تفضّل على غيرها: (المسجد الحرام، المسجد النبوي، المسجد الأقصى، مكة المكرمة، المدينة المنورة، الشام المباركة، اليمن السعيد، وادي العقيق.. الخ) ومن الأزمان المبارك التي تفضُلُ غيرها (يوم الأضحى، يوم عرفة، شهر رمضان، يوم عاشوراء... الخ) وأهمية الأماكن والأزمنة تظهر بما احتوته من أحداث، وبما تعلق بها من فضائل.

ثانيًا- البعد المكاني والزماني في حياة الإنسان:

الإنسان يعيش مع الزمان والمكان بشكل متلاصق ومتلازم، فالزمن حياته، والمكان محل إنفاقه، ومحتوى أحداثه، فهو مجموعة أحداث ومواقف في زمان ومكان، ولهذا نجد الحنين إلى الذكريات والديار، ونجد عناية الإنسان بالمناسبات.

إذن دينياً وإنسانياً لا تكون الأيام كلها على قدم المساواة، فما ارتبط فيها من فضائل ومكرمات أو حوادث مهمات لا يمكن أن تمر عليك كغيرها من غير تفاعل قلبي وسلوكي.

ثالثًا- شبهات وردود (أسئلة وأجوبة):

السؤال: هل ليوم مولد سيدنا النبي ﷺ أهمية في الإسلام أم هو كغيره من الأيام؟

الجواب: أجل، له أهمية عظيمة، فيوم مولده ﷺ هو يوم مولد أكرم الناس، وأحب الخلق إلى الله تعالى، ويوم مولده هو يوم الرحمة العظمى للعالمين، قال تعالى:

وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ ١٠٧ [ الأنبياء: 107]

هذه فرحة ما بعدها فرحة، وحق لنا الفرح بها قال سبحانه:

قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨﴾ [ يونس: 58]

يوم مولده هو بداية حياته الشريفة التي أقسم بها الله تعالى وهو سبحانه لا يقسم إلا بعظيم:

لَعَمۡرُكَ إِنَّهُمۡ لَفِي سَكۡرَتِهِمۡ يَعۡمَهُونَ ٧٢ [ الحجر: 72]

وحياته الشريفة تمتد من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته ﷺ والدليل الواضح الجلي، الصحيح القوي: ما ورد في الحديث أنه ﷺ:

سُئل عن صوم يوم الاثنين، قال: ذاك يومٌ وُلدتُ فيه (صحيح مسلم: صـ 455، (1162))

فقد أولى سيدنا النبي ﷺ يوم مولده اهتمامًا وعناية وخصوصية، وهو ﷺ لا يهتم بأمور دنيوية، فمولده الشريف هو أمر ديني عظيم، ولا يمكن لعاقل بعد ما قدمنا من كلام، إنْ مرت عليه مناسبة المولد الشريف أنْ ينظر إليها ويتعامل معها كغيرها من الأيام.

ولعلك تتساءل فتقول: أن سيدنا النبي ﷺ احتفى واعتنى بيوم مولده بعبادة بشكل فردي فهل يجوز أن تجتمع جماعة من المسلمين لأجل هذه المناسبة؟

الجواب: أجل، وقد ورد عن الصحابة رضي الله عنهم في حديث صحيح أنهم كانوا يجتمعون في المسجد يذكرون الله تعالى ويدعونه ويحمدونه شكراً وامتناناً على نعمتين عظيمتين هما "الهداية للإسلام" و"سيدنا النبي ﷺ".

فعن أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه: أنَّ رسولَ اللَّهِ ﷺ خرجَ على حَلْقةٍ يعني من أصحابِهِ فقالَ: ما أجلسَكم؟ قالوا: جلَسنا ندعوا الله ونحمَدُهُ على "ما هدانا لدينِهِ" و"منَّ علينا بِكَ"، قالَ: آللهِ! ما أجلسَكم إلَّا ذلِكَ؟ قالوا: آللهِ! ما أجلسَكم إلَّا ذلِكَ، قال: أما إنِّي لَم أستحلِفْكم تُهمةً لَكم وإنَّما أتاني جبريلُ عليْهِ السَّلامُ فأخبرَني أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يُباهي بِكمُ الملائِكةَ) (سنن النسائي: صـ 861، (5436))

أي: هم يجتمعون في مجلس عبادة جماعي والغاية (الشكر والثناء على الله على منة سيدنا النبي ﷺ) وهذا ما يحدث في احتفالات المولد.

ولعلك تتساءل فتقول: أليس هذا الفعل محدث وكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة؟

الجواب: هذا الكلام أصله في الحديث الشريف، ولكن فُهم الحديث في هذا الزمان بشكل خطأ، فهؤلاء المخطئون يقولون: (أن أي محدث مهما كان فهو بدعة وضلالة) وهذا كلام وفهم غير صحيح، وإذا أردنا معرفة الفهم الصحيح وما يدل عليه، فينبغي أن نرجع إلى علمائنا وإلى سلفنا رضي الله عنهم، فقد ورد عن السلف أن الأمور المحدثة نوعان:

- محدثة سيئة وهي بدعة وضلالة.

- محدثة حسنة وهي بدعة حسنة.

قال الإمام الشافعي رحمه الله وهو إمام السلف: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة، فهو محمود، وما خالف السنة، فهو مذموم) (حلية الأولياء: 9/113).

والدليل على صحة هذا التقسيم:

إحداث الصحابة أمورًا في الدين وعدم الإنكار عليهم: وإليك هذا المثال كي يتضح المقال في الحديث: عن سيدنا رفاعة بن رافع الزُّرَقيّ رضي الله عنه قال:

كنا يومًا نصلّي وراء النبي ﷺ، فلما رفع رأسه من الركعة قال: "سمع الله لمن حمده".
قال رجل وراءه: "ربنا ولك الحمد، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه".
فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا.
قال: "رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها، أيهم يكتبها أول" (صحيح البخاري: 1/280، (799)).

الذي فعله هذا الصحابي رضي الله عنه أنه أحدث أمرًا في الدين، أحدث شيئًا في ركن عظيم، ولو كان فهمهم الذي يقول (أي: محدثة مهما كانت هي بدعة وضلالة) لكان أول ما يقال لهذا الصحابي: (كيف تحدث أمرًا في الدين وفي أعظم عبادة وهي توقيفية، ألم تعلم أن كل محدثة بدعة وضلالة).. ولكن الذي حدث أنه ﷺ أثنى عليه وأيد فعله وهناك أمثلة كثيرة.

فهم وفعل سيدنا الفاروق عمر رضي الله عنه: وهو الصحابي الجليل الذي وافقه القرآن الكريم في أكثر من موقف، وهو الذي لقب بالفاروق؛ لأن الله تعالى فرق به بين الحق والباطل، وهو رضي الله عنه قد أحدث أمرًا في الدين لم يفعله رسول الله ﷺ وهو جمع الناس على إمام واحد في التراويح، فقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه واصفًا هذا الفعل المحدث (نعمتِ البدعة هذه) لو كان كل البدع ضلالة لما أثنى عمر رضي الله عنه على البدعة، ولو كل محدث في الدين ضلالة لما أحدث عمر رضي الله عنه هذا الأمر في الصلاة...

ختامًا...

ورد في الحديث عن سيدنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال:

أرسل إليّ سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه مقتلَ أهل اليمامة، وعنده سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهبَ كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن.
قال سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه: قلتُ لعمر رضي الله تعالى عنه: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ فقال عمر: هو واللهِ خيرٌ، فلم يزل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيتُ الذي رأى عمر رضي الله تعالى عنه.
قال سيدنا زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: وعمر رضي الله تعالى عنه عند جالس لا يتكلم، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله تعالى عنه: إنك رجل شابٌّ عاقل لا نتّهمك، كنتَ تكتب الوحي لرسول الله ﷺ، فتتّبع القرآن فاجمعه.
فوالله! لو كلّفني نقلَ جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله؟
فقال أبو بكر: هو واللهِ خيرٌ، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدرَ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما... الحديث (صحيح البخاري: 3/242، (4679)))

في هذا الحديث يتساءل الصحابة رضي الله عنهم "كيف نفعل ما لم يفعله رسول الله ﷺ؟".

فكان الجواب الشافي والكافي (هذا والله خير)، فعلمنا من فهمهم وطريقة تعاملهم مع الحوادث والمستجدات أن هناك أمورًا خيرية ومصالح نافعة لم يذكرها الشرع بشكل مفصل ومحدد، بل تركها مرسلة، ووضع لنا القواعد الأصولية، والمقاصد الشرعية التي نستضيء من خلالها لمعرفة الحق، فتجدنا اليوم نقيم المسابقات في حفظ القرآن الكريم ونعطي الفائزين المكافآت من غير أن يكون لدينا آية أو حديثاً يقول لنا (وأقيموا المسابقات القرآنية وكافئوا عليها) بل أتتنا أحاديث تظهر فضل حفظ القرآن الكريم وتشجّع عليه، فعلمنا أن كل ما يمكن أن نحدثه من أمور لتحقيق هذا المقصد العظيم فهو مندوب محبوب، وكذلك الشرع الحنيف فرض علينا محبة سيدنا النبي ﷺ، فعلمنا أن كل ما يمكن أن نحدثه من إقامة المناسبات والفعاليات التي تذكر المسلمين بسيدنا النبي ﷺ، وتذكرهم بسيرته ومواقفه وأحواله وكل ما يتعلق به هو مندوب محبوب ينبغي أن نحرص عليه.


تعليقات



رمز الحماية