تشويق المتقين لجنة رب العالمين | المفتي محمد قاسم العطاري


نشرت: يوم الأَربعاء،23-يوليو-2025

تشويق المتقين لجنة رب العالمين

هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18

قال الله سبحانه وتعالى:

وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِينَ غَيۡرَ بَعِيدٍ ٣١ هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٖ ٣٢ مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ ٣٣ ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٖۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُلُودِ ٣٤ لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيۡنَا مَزِيدٞ ٣٥. (ق: 31-35)

التفسير:


تضمنت الآيات المذكورة خمسة أمور:

1) أن الجنّة مُعَدّة للمتقين وهذا المقام العظيم ـ مقام نعيم الله وكراماته ـ وهذا النعيم سيقرّب للذين اتقوا ربهم أو سيُدنى لهم يوم القيامة.

2) وعَد الله سبحانه وتعالى "الجنّة" لمن يكثر الرجوع إلى الله، والحافظين لحدوده، والراعين لحقوقه، والخاشين له بالغيب، والمقبلين إليه بقلوب مُنيبة.

3) دخول الجنة يكون دخولاً أبديًا مصحوبًا بالسلامة.

4) يتنعّم أهل الجنة في الجنة بكل ما تشتهيه أنفسهم.

5) بالإضافة إلى النعم التي ينالها العبد عند طلبها في الجنة، فإن الله تعالى يمنحه نعمًا إضافية، وأعلاها رؤية الله تعالى.

قوله تعالى:

وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِينَ غَيۡرَ بَعِيدٍ ٣١

علمًا بأن الجنة مكان عظيم، يتجلى فيه الفضل الإلهي، ويفيض الكرم الرباني، وتتدفق النعم الرحمانية التي لا تنقطع،

اسم المكان العظيم الذي فيه فضل الله تعالى ورحمته على عباده ونعيمه الأبدي هو الجنة التي أعدها الله تعالى لعباده المؤمنين، وفيها من النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وهذا المكان العظيم فوق السماوات السبع.

معنى تقريب الجنة للمتقين:


إزلاف الجنة للمتقين له معان متعددة، منها:

1. أن هذا قبل الدخول في الدنيا، والمعنى أن الجنة زُيّنت لقلوبهم في الدنيا بالترغيب والترهيب فصارت قريبة من قلوبهم.

2. وقيل: بعد الدخول قربت لهم مواضعهم فيها فلا تبعد. (تفسير القرطبي: 9/16)

3. يطوي الله المسافة التي بين المؤمن والجنة وهذا هو التقريب، وذلك يدل على تيسير وصولهم إليها. (تفسير جمل: 7/270، بتصرف)

4. قربت الجنة للمتقين إلى مكانٍ غير بعيد منهم، بحيث يشاهدونها ويرونها في الموقف.

حال المتقين يوم القيامة:


من حيث دخول الجنة فإن المتقين على ثلاثة أصناف:

1- قوم يحشرون إلى الجنة مشاة وهم الذين قال فيهم:

وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ رَبَّهُمۡ إِلَى ٱلۡجَنَّةِ زُمَرًاۖ (الزمر: 73) وهم عوام المؤمنين.

 

2- وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا على طاعاتهم المصورة لهم بصورة حيوان، وهؤلاء هم الخواص.

3- وأما خاص الخاص، فهم الذين قال فيهم:

وَأُزۡلِفَتِ ٱلۡجَنَّةُ لِلۡمُتَّقِينَ (ق: 31)

فقرّب الجنة منهم غير بعيد أي: الجنة غير بعيد عنهم وهم البعداء عن الجنة في مقعد صدق عند مليك مقتدر. (روح البيان: 9/130)

قوله تعالى: هَٰذَا مَا تُوعَدُونَ: هذا يقال لهم في الآخرة عند إزلاف الجنة، إما من قبل الله تعالى أو على ألسنة الملائكة تشريفا لهم.

صفات أصحاب الجنة

الصفة الأولى لهم: "أَوَّابين" (لِكُلِّ أَوَّابٍ) لقد بيّنت الآيات السابقة أوصاف أهل الجنة، فأول هذه الصفات هي صفة "أَوَّاب"، وقد وردت لـكلمة "أواب" معانٍ متعددة وكل منها صحيح في مكانها، ومنها:

1- الأوّاب: الرجاع إلى طاعة الله تعالى بالتوبة عن المعاصي. (تفسير القرطبي: 9/16، بتصرف)

2- قال سعيد بن المسيب: هو الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب. (تفسير الطبري: 8/65)

3- وقيل: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلوة فيستغفر الله منها. (تفسير القرطبي: 9/16)

4- المسبح لله. (تفسير الطبري: 10/577)

5- وقيل هو الذي يرجع من الذنوب ويستغفر.

(التفسير الكبير: 10/145)

الصفة الثانية لهم: "حفظ حدود الله" (حَفِيظٖ)

قد تعددت أقوال المفسرين في شأنه، منها:

1- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو الحافظ لأمر الله، وعن مجاهد: هو الحافظ لحق الله تعالى بالاعتراف ولِنعمه بالشكر. (تفسير القرطبي: 9/17)

2- عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله ﷺ: من حافظ على أربع ركعات من أول النهار كان أواباً حفيظا. (أيضًا)

3- هو الراجع إلى الله في جميع أحواله لا إلى ما سواه حافظا لأنفاسه مع الله لا يصرفها إلا في طلب الله أي لا يغفل عن الحق تعالى لحظة. (روح البيان: 9/131)

4- الحافظ لما استودعه الله من حقه ونعمته. (تفسير القرطبي، 9/17، بتصرف)

5- عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: هو الذي يحفظ ذنوبه حتى يرجع عنها ويستغفر منها. (تفسير البغوي: 4/204)

الصفة الثالثة لهم: "الخشية من الله" مَّنۡ خَشِيَ ٱلرَّحۡمَٰنَ بِٱلۡغَيۡبِ: جاء في الآية ذكر الخشية من الرحمن، وهنا فرقٌ بين الخشية والخوف:

فأما الخوف: فهو تألم النفس من عقاب الله تعالى وهو يحصل لأكثر الخلق وإن كانت مراتبه متفاوتة.

وأما الخشية: فهي تحصل عند الشعور بعظمة الخالق وهيبته، وهذه حالة لا تحصل إلا للعلماء الربانيين والأولياء الصالحين.

وإنما إيثار ذكر اسمه ٱلرَّحۡمَٰنَ

في الآية دون اسم الجلالة للإشارة إلى أن هؤلاء المتقين يخشون الله مع علمهم أنه رحمن واسع الرحمة وأنه لا يحجب رحمته عنهم كما أنهم في ذلك يعملون بهذا القول لربهم الكريم:

نَبِّئۡ عِبَادِيٓ أَنِّيٓ أَنَا ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٤٩ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ ٱلۡعَذَابُ ٱلۡأَلِيمُ ٥٠

(الحجر: 49)

 

فإنهم يَجمَعُون بين الخوف والرجاء.

معنى خشية الله بالغيب:


الخشية بالغيب:

1- أن يخاف الله، وإن لم يكن رآه.

2- وقال الضحاك والسدي: يعني في الخلوة حين لا يراه أحد. (تفسير القرطبي: 9/ 17)

الصفة الرابعة لهم: قلوبهم منيبة إلى الله

وَجَآءَ بِقَلۡبٖ مُّنِيبٍ ٣٣

المنيب هو المقبل على الطاعة.

وقيل: المخلص.

وقال أبو بكر الوراق: علامة المنيب أن يكون عارفا لحرمته ومواليا له، متواضعا لجلاله تاركا لهوى نفسه. (أيضًا)

قال الفخر الرازي: القلب المنيب كالقلب السليم في قوله تعالى:

إِذۡ جَآءَ رَبَّهُۥ بِقَلۡبٖ سَلِيمٍ (الصافات: 84)

أي: سليم من الشرك، ومن سلم من الشرك يترك غير الله ويرجع إلى الله فكان منيباً، ومن أناب إلى الله برئ من الشرك فكان سليماً. (التفسير الكبير: 10/147)

قوله تعالى:

ٱدۡخُلُوهَا بِسَلَٰمٖۖ

أي: بسلام من الله أو من ملائكته عليهم.

وقيل بسلامة من زوال النعم وحلول النقم، أي متلبسين به.

وقال الفخر الرازي رحمه الله تعالى: قوله تعالى:

بِسَلَٰمٖۖ

كما يقول المضيف: ادخل مصاحبًا بالسلامة والسعادة والكرامة. (التفسير الكبير: 10/148)

قوله تعالى:

ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلۡخُلُودِ ٣٤

ويتضح معنى:

" يَوۡمُ ٱلۡخُلُودِ"

في العقيدة الإسلامية الجوهرية، ألا وهي أن الجنة خالدةٌ لا تفنى أبدًا، وأن أهلها فيها خالدون، وكذلك الحال بالنسبة للنار وأهل النار، فإن النار خالدة لا تبيد أبدا، وأهلها فيها خالدون.

قوله تعالى عن نعيم الجنة:

لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا وَلَدَيۡنَا مَزِيدٞ ٣٥

قال القشيري رحمه الله تعالى: يقال لهم: قد قلتم في الدنيا: "ما شاء الله كان"، فاليوم ما شئتم كان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.

والمختار: أن المزيد في الآية هو النظر إلى وجه الله الكريم، فيجتمعون في كلّ يوم جمعة، فلا يسألون شيئا إلا أعطاهم وتجلى لهم، ويقال ليوم الجمعة في الجنة: يوم المزيد. (روح البيان: 9/132)

عقيدة أهل السنة في رؤية الله:

هي أن المؤمنين سيرون ربهم في الآخرة، وهذه الرؤية لهم ستكون بلا كيف ولا جهة.

أخيرًا!

نسأل الله العلي القدير أن يمنّ علينا جميعًا بالتخلّق بأخلاق أهل الجنة، والتحلّي بصفاتهم والتوفيق للعمل بأعمالهم، وأن يغفر لنا بغير حساب، وأن يجعلنا من رفقاء النبي ﷺ في الفردوس الأعلي من الجنة. آمين بجاه خاتم النبيين ﷺ.

تعليقات



رمز الحماية