رعاية الأسرة بين الافراط و التفريط | الشيخ فارس عمران


نشرت: يوم الإثنين،17-يناير-2022

رعاية الأسرة بين الافراط و التفريط

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين وبعد:

رعاية الأسرة والحرص على مصالحها أمر أساسيٌّ يشكل نواة لصلاح المجتمع ككل، وإصلاح المجتمع يبدأ من إصلاح الأسرة، ولا يخفى أن صلاح الأسرة يتطلب وعيًا وحكمةً وتوازنًا فيمن يقود زمامها ويرعى أمورها، وذلك الراعي والمصلح هو الأب والأم.

وإنك لتجد أكثرَ رعاة الأسر في زماننا من الآباء ما بين ساعٍ متفانٍ في رعاية الأسرة والأبناء لتوفير ما يحتاجونه من الناحية المادية وتحقيق النجاح والتميز الدنيوي، غير أن نصيبهم في رعاية دينِ أولادهم كنصيب الذئب من قميص يوسف عليه السلام.

وفي المقابل، ترى أناسًا صالحين حريصين على دينِ أولادهم وصلاح منبتهم، غير أنهم لا يولون عناية لصلاح دنيا الأولاد، مما قد يعود بالفساد على دينهم على المدى البعيد.

لذا كانت نظرةُ الإسلام للأسرة ورعاية الأولاد نظرةً متوازنة حكيمة، بعيدةً عن الإفراط والتفريط، تراعي شؤون الأولاد التربوية الدينية، وفي الوقت نفسه تحفظ لهم حقوقهم الدنيوية...

فما هي أهم معالم هذه النظرة الوسطية المعتدلة؟ هذا ما نسلط الضوء عليه بإجمالٍ في هذه الكلمات المختصرة، ولعلنا نفصل القول في مقالاتٍ لاحقة بعون الله تعالى.

الاهتمام بالجانب الدنيوي:

أولى الإسلام اهتمامًا بالغًا بهذا الجانب، فجعل السعْي على العيال وتلبية احتياجاتهم الدنيوية الضرورية طريقًا من طرق السعي في سبيل الله، ولو أَجَلْنا النظر في الأحاديث النبوية لرأينا نماذج متعددة من التوجيهات النبوية تؤكد هذا المعنى، ومن هذه النماذج:

ما رواه الطبراني عن كعب بن عجرة رضي الله تعالى عنه:

(مر على النبيِّ ﷺ رجلٌ فرأى أصحابُ النبيِّ ﷺ من جلَدِه ونشاطِه فقالوا: يا رسول الله ﷺ! لو كان هذا في سبيل الله؟! فقال رسولُ اللهِ ﷺ: إن كان خرج يسعى على ولدِه صغارًا فهو في سبيل الله عز وجل وإن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله عز وجل وإنْ كان خرج يسعى على نفسِه يعفُّها فهو في سبيل الله عز وجل وإنْ كان خرج يسعى رياءً ومفاخرةً فهو في سبيلِ الشيطانِ.)

قال الإمام المناوي رحمه الله تعالى: ((إن كان خرج يسعى على ولده صغارًا) أي يسعى على ما يقيم به أودهم (فهو) أي الإنسان الخارج لذلك أو الخروج أو السعي (في سبيل الله) أي في طريقه وهو مثاب مأجور؛ إذ الخروج فيه كالخروج في سبيل الله عز وجل أي الجهاد أو السعي كالسعي فيه)

فما أعظم هذا الحديث وما أهم هذه اللفتة، فينبغي على المسلم الذي يبتغي في سعيه على أولاده مرضاةَ الله وتوفيقه أن يصلح النية ويحسن القصد، فإن كان سعيه لأجل أولاده سبيلًا للفخر على الناس فإن ذلك سبب في ضياع الأجر والثواب، وكم ترى من يجهَد ويَجِدُّ في سبيل تعليم أولاده في أفضل المدارس، ويوفّر لهم أسباب الراحة ورغد العيش، ما يبتغي بذلك إلا الفخر على الناس فيضيع بذلك أجره وثوابه، وما أعظم فعله لو كان خالصًا في سبيل الله تعالى.

وكذلك لا يجوز للإنسان أن يتفرغ للعبادة والذكر ويترك عياله جياعًا أو عالة على أحد، لذا قال العلماء: الصوفي ابن وقته، أي يقوم بواجب الوقت الذي أناطه الله سبحانه وتعالى به، فإنْ كان صاحب أسرةٍ قام على شؤون أسرته وأدى لهم حقوقهم الدينية والدنيوية.

ومن تلك النماذج أيضًا: حديث سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه المشهور، عندما أراد أن يوصي بشطر ماله فقال له سيدنا رسول الله ﷺ:

(الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله، إلا أجرت حتى ما تجعل في فِيّ امْرأتك).

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى في شرحه على "صحيح مسلم": (وفي هذا الحديث: حثٌّ على صلة الأرحام، والإحسان إلى الأقارب، والشفقة على الورثة، وأن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد، واستدل به بعضهم على ترجيح الغني على الفقير).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا يتسع المقال لذكرها وفيما مرَّ كفاية، ولكن مما ينبغي ملاحظته والتأكيد عليه مما سبق، اهتمام الشرع الشريف بالنية، وربط الأمور الدنيوية الاعتيادية بالنيات الصالحة الأخروية، تأكيدًا لهدف المسلم في هذه الحياة الدنيا.

الاهتمام بالجانب الديني:

عندما اهتم الشارع بالناحية المادية، لم يغفل عن الناحية الدينية التي هي أساس الأمر كله، قال الله سبحانه وتعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قُوٓاْ أَنفُسَكُمۡ وَأَهۡلِيكُمۡ نَارٗا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلۡحِجَارَةُ عَلَيۡهَا مَلَٰٓئِكَةٌ غِلَاظٞ شِدَادٞ لَّا يَعۡصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمۡ وَيَفۡعَلُونَ مَا يُؤۡمَرُونَ ﴾

قال الإمام الآلوسي رحمه الله تعالى في تفسيره: (ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب،... وأخرج ابن المنذر، والحاكم وصححه وجماعة رحمهم الله تعالى عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية: علّموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدّبوهم، والمراد بالأهل على ما قيل: ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة، واستُدِلَّ بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وقيل: إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من جهل أهله.

وهكذا نرى أن الإسلام قد حثَّ على كفاية الأولاد من الناحية المادية الدنيوية، حتى في التركة والميراث، ولكنه في الوقت ذاته ربط ذلك بالمقصد الأسمى، ألا وهو رضا الله سبحانه وتعالى، فجعل هذه الكفاية سبيلًا لإصلاح الآخرة، لذا أكد كذلك على أهمية رعايتهم من الناحية الدينية وتنشئتهم على السنن والأخلاق الإسلامية.

نسأل الله أن يجعلنا من أهل الاعتدال والاستقامة، وأن يدخلنا دار الكرامة، وأن يصلح الأهل والذرية بجاه خير البرية ﷺ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

للاطلاع على مثل هذه المقالات المفيدة ليس عليك إلا زيارة هذا الموقع

تعليقات



رمز الحماية