العلاقة بين الدين والعقل | الشيخ المفتي محمد قاسم العطّاري


نشرت: يوم السبت،09-أبريل-2022

العلاقة بين الدين والعقل

يحاولُ بعضُ الناس إعطاءَ الانطباع والحكم بأنّ الدِّين والعقلَ شيئان متضادّان، ويقول: من يتَّبعِ الدِّينَ يجبْ أن يترك العقلَ، ومن يأخذ بالعقلِ يجبْ أن يترك الدِّين، ما مدى صحّة هذا القول!؟

فتعالَوْا بنا لنقوم بتحليله

القولُ بـ"إنّ الإسلامَ يُعارِض العقلَ" كقول "إنّ قارونَ كان أكبر الْمُعارِضين للثروة" أو "إنّ ألكسندر غراهام بل (Alexander Graham Bell) كان أكبر خصمٍ للهاتف" أو "ستيفن بول جوبز (Steven Paul Jobs)‏ كان أكبرَ خصمٍ للهاتف الذكيّ" أو "كان نيوتن (Newton) أو أينشتاين (Einstein) أكبر خصمٍ للعلم". هذا قولهم بأفواههم بعيدٌ عن الحقيقة، لا يستطيعُ أن يدّعيَ مثل هذا القول إلا جاهلًا لم يقرأ القرآنَ الكريم ولو قراءةً خاطفةً فضلًا عن الإمعان؛ لأنّ المرءَ إذا قرأ القرآنَ الكريم ولو بانتباهٍ بسيطٍ لَعلم من أوّل وَهْلةٍ، وبكلّ وضوح أنّ الإسلامَ لا يخالف العقلَ، بل الملاحَظ أنّ كلمة "عقل" ومشتقّاتها في القرآن الكريم وردت بكثرة، مما يدُلُّ على أهمّيّة العقلِ والتفكير والتدبر، وبعض تفاصيله كالآتي:

كثرةُ وُرود كلمة "علم" ومشتقّاتها في القرآن الكريم، لو قرأتَ القرآن الكريم لوجدتَ كلمة "علم" ومشتقّاتها فيه بكثرة، كـ يعلم، يعلمون، تعلم، تعلمون، عالم، عالمين، عالمون، عليم ونحوها، تجمعها مادّة "علم"، ولقد أعلن القرآنُ الكريمُ بكلّ صراحة:

﴿قُلۡ هَلۡ يَسۡتَوِي ٱلَّذِينَ يَعۡلَمُونَ وَٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَۗ﴾

قال العلامة جلال الدِّين السيوطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: أي: لا يَسْتَوِيان كَما لا يَسْتَوِي العالِم، والجاهِل.

والكلمةُ الأخرى التي وردت في القرآن الكريم بكثرة هي: "العقل" هذه الكلمة مع مشتقّاتها وردت في القرآن قرابة 49 مرة، منها: لعلّكم تعقلون، أفلا تعقلون، لقوم يعقلون، فهم لا يعقلون، أكثرهم لا يعقلون، مما يدلّ أيضًا على أهمّيّة العمل بالعقل.

والكلمة الثالثة التي تكثر في القرآن الكريم هي "الفكر" ومشتقّاتها، ومعناها التدبّر، والتأمّل، وإعمال العقل في الشيء للوصول إلى الحقيقة، على سبيل المثال "ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا"، "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا"، "لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ"، "تتفكروا"، "يتفكروا"، "تتفكرون"، "يتفكرون"، "فَكَّر"، وما إلى ذلك، التفكّر هو إطلاق الفكر، والعقل في أمر أو شيء مّا.

الكلمة الرابعة "الفهم" وقد أثنى عليها القرآن، ووهبها الله تعالى لعباده الصالحين، ووصفها بأنّها نعمة، وإحسان لهم.

الكلمة الخامسة "التدبّر" تعني التأمّل، والفهم للوصول إلى حقيقة شيء مّا، وهو وظيفة العقل أيضًا.

الكلمة السادسة "النظر" استخدمت هذه الكلمة في القرآن الكريم للتأمل والعقل، كما جاء في الآية التالية:

﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى ٱلۡإِبِلِ كَيۡفَ خُلِقَتۡ﴾

بالإضافة إلى ذلك وردت في القرآن الكريم، وبشكل متكرّر كلمة "تذكّر" تعني طلب النُّصح والاعتبار، وهو لا يحصل بدون التفكّر والتأمل.

الكلمة الثامنة "العبرة" كما قال الله تعالى:

﴿فَٱعۡتَبِرُواْ يَٰٓأُوْلِي ٱلۡأَبۡصَٰرِ﴾

وهي الاتِّعاظُ والاعتبارُ بما مضَى من خلال المشاهدة وإعمال العقل.

عددُ الآيات التي تحتوي على مثل هذه الكلمات تتجاوز من المئات ممّا يدلّ قطعًا على أهمّيّة العلم، والفهم، والعقل، والتفكر، والتدبر، والتأمل في الإسلام.

الترغيبُ المتكرِّر، والحثُّ على هذه الأمور، وذكرُ الفضائل بطرقٍ مختلفةٍ في القرآن الكريم لدرجة أن لو قرأه القارئ ولو بشكل سطحيّ لا يمكن له أن يعتقد أنّ الإسلامَ ضدّ العقل، بل الإسلامُ يحثُّ ويُثني عليه ويمدحه، بل ذمّ الذين لا يستخدمون العقلَ ولا يتفكّرون في مظاهر الكون، وعلامات خلق الله تعالى للاستدلال على وجود القادر المطلق؛ لأنهم سيُحرَمون من معرفة الخالق، يقول القرآن الكريم عن هؤلاء الناس: إنّهم لا يستحقُّون أن يُسمُّوا بشرًا؛ لأنّ البشر يُطلق على من يستخدم عقلَه، وعدم استخدام العقل، والفهم هو من خصائل الحيوانات، وبالتالي فإنّ من لا يستخدم العقلَ مع وجود فيه هو بشر في الشكل فحسب، وفي الحقيقة هو أسوأ من الحيوانات، قال الله تعالى في هذا الصدد:

﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَٱلۡأَنۡعَٰمِ بَلۡ هُمۡ أَضَلُّۚ﴾

بالله عليكم إذا عرفنا أنّ القرآن الكريم (وهو الذي أساس للإسلام) يُعلن أنّ من لا يستخدم العقلَ أسوأ من الحيوانات، فهل يكون الإسلام ضد العقل؟ كلَّا ثم كلَّا..

ولكن هناك نقطة أخرى، وهي أنه لو قال أحدهم: يا سيّدي! إنّ الدِّين يمنع عن كذا وكذا، وهذا ضدّ العقل.

فجوابه: أنّ الدِّين ليس ضدّ العقلِ، وإنّما ضدّ إساءة استخدامه، الإسلامُ لا يذُمُّ العقلَ في تلك الأمكنة بل يذمّ سوء الاستخدام، الاستدلال بمثل هذه الحجج كإدانة المسجد الواردة في القرآن الكريم، بقوله تعالى:

﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِداً ضِرَاراً وَكُفۡراً وَتَفۡرِيقاً بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَاداً لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبۡلُ﴾

وهو استنكار لسوء استخدام المسجد، مسجد الضرار هو كلّ مسجد بني لمضارّة المسلمين، وأذيّتهم، والتفريق بينهم، وإشاعة الكفرِ، ومعاداة الله تعالى ورسوله ﷺ.

فلو قال أحد بعد قراءة هذه الآية: إنّ الإسلام ضدّ المساجد فهذا كلام خالٍ عن الحقيقة؛ لأنّ الإسلامَ ليس ضدّ المساجد، وإنّما يأمر ببناء المساجد.

والإدانةُ وردت لمكانٍ بُني باسمِ المسجد لنشر الفتنة، والفرقة، والبغضاء، والنفاق، والكفر، والمساجد مراكزُ الإسلام ورموزه.

وعلى هذا النحو تمامًا هناك مثال آخر، لو بدأتْ الممارسةُ المثيرةُ للاشمئزاز في مستشفى ما بإزالةِ الكلى وسرقتها من المرضى أثناء إجراء العمليّة الجراحيّة، واحتجّ الناسُ ضدّ ذلك المستشفى، ومنع بعضُهم البعضَ من الذهاب إليه، فهل يمكن لشخصٍ عاقلٍ أن يقول: إنّ أهل هذه البلدة يخالفون الأطباء أو النظام الصحي في البلد؟ مستحيل، هم ليسوا ضدّ الأطباء، ولا النظام الصحي بل ضدّ سوء استخدام المستشفى، والنظام الصحي المتمثل بسرقة الكلى.

وهناك مثال ثالث، وهو أنّه إذا علمت الحكومةُ أنّ مدرسة كذا تُدرِّس الأطفالَ في المناهج المدرسية كتبًا تسبّب الكراهية لهذا البلد، وتُشوِّه التاريخ،َ وتُنشر العصبيّةَ الإقليميّةَ أو القبليّةَ فداهمت الشرطةُ تلك المدرسة وكلَّ من يسير منهجها، وأغلقتها، وأخذت كتبها، ونتيجة لذلك خرج أصحابُ المدارس الأخرى على الشوارع يَصرخون ضدَّ الحكومةِ بأنّها ضدّ المؤسّسات التعليميّة، فهل يُقبل كلامُهم؟ مستحيل؛ لأنّ تصرّفَ الدولة ليس بسبب مناهضة المؤسّسات التعليميّة بل ضدّ المناهج الدراسيّة الخاطئة، والأنشطة المناهضة لأمن الدولة والوطن.

هكذا هي قضيّة العقل تمامًا، وإنّ الإسلامَ يُحرِّم إساءةَ استخدام العقل، وهو ليس مُعارضًا للعقل بل معارضٌ للاستخدام السلبيّ للعقل، العقلُ الذي ينشر العداوةَ للوطن هو مذموم بالطبع، فما بال العقل الذي يتمرَّد على أحكم الحاكمين، ويؤدّي إلى إنكارِ وجود خالق الكون، ويُعلِّم العداوةَ لأوامر المالك الحقيقي!

لا شك أنه مذمومٌ ومرفوض أيضًا وبكلّ تأكيدٍ، وهذه الإدانة ليست للعقل في الحقيقة بل لإساءة استخدامه.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مركز_فيضان_المدينة
#مؤسسة_مركز_الدعوة_الإسلامية

تعليقات



رمز الحماية