نفحات ليلة القدر | الشيخ عبد الباسط المحمد


نشرت: يوم الإثنين،18-أبريل-2022

نفحات ليلة القدر

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ وبعد:

حديثنا اليوم عن ليلةٍ هي تاج الليالي، بل هي دُرّة الليالي، ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والسماء، ليلة بدأ فيها نزول القرآن الكريم على سيدنا محمد ﷺ، ليلة يُفرق فيها كلّ أمرٍ حكيم، ليلة تَفوق في حقيقتها حدود الإدراك البشري، والعمل الصالح فيها مضاعف في الأجر دون الليالي الأخرى، فكلّ ركعةِ صَلاةٍ، وتسبيحة، وتحميدة، وصدقة وغير ذلك من الصالحات في هذه الليلة خير من العمل في ألف شهر، وفي هذه الكلمات المباركة نذكِّر بعضنا بليلة القدر، فضائلها، ووقتها، ميزاتها وخصائصها، والدعاء فيها، وأهم ما يتعلق بهذه الليلة العظيمة، سائلين الله تعالى أن يبلّغنا إيّاها، ومن المتعرضين لنفحات الله تعالى فيها، إنه سميع مجيب.

انتقاءٌ واصطفاء

قال العلماء الكرام رحمهم الله تعالى: إنّ لله تعالى خواص في الأزمنة، والأمكنة، والأشخاص.

فقد اختصّ الباري عزّ وجلّ الأمّة المحمدّية بمزيد فضله، وواسع إنعامه، وجزيل مَنِّه، فلله تعالى الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، فاصطفى من الأماكن مكّة المكرمة والمدينة المنورة، ومن الجبال جبل عرفات، ومن الأيّام يوم الجمعة، ومن البشر الأنبياء، ومن الأنبياء نبيّنا محمدًا ﷺ، ومن الليالي ليلة القدر، وقد منَّ الله تعالى بهذه الليلة على هذه الأمّة، وجعل العبادة فيها خيرا من ألف شهر، فكأنّها موسم نورانيٌّ كلّيّ يحصل في الكون في ليلة القدر، فيها يحصل نوع من الوحدة الروحيّة بين المسلمين على وجه الأرض.

معناها وسبب تسميتها بهذا الاسم

معنى القدر: هو الشرف والرفعة، ويختلف الشرف والرفعة بمقدار من يشرّف ويرفع، فالإنسان الذي يرفع شيئًا يبقى على قدْره، أمّا الباري عزّ وجلّ إذا رفع شيئًا فيكون ذا شأنٍ عالي وقدرٍ رفيع، وهو الذي رفع وشرّف ليلة القدر، وهذه رِفعة ما بعدها رفعة، وقد اختلف العلماء على عدة أقوال في سبب تسميتها، ولا ضير أن تكون كلّها مجتمعة نذكر منها:

القدْر: ليلة تقدّر فيها الأشياء: فالله تعالى يُطْلع ملائكته على ما سيقدّره طيلة العام:

﴿فِيهَا يُفۡرَقُ كُلُّ أَمۡرٍ حَكِيمٍ ٤﴾.

القدْر من الضيق: فالأرض تضيق لكثرة ما ينزّل إليها من الملائكة، إنّ الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى.

القدْر من الشرف والعظمة: لأنّ الله تعالى أنزل فيها القرآن الكريم:

﴿نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلۡأَمِينُ ١٩٣﴾

القدْر والشرف الذي يكون للعامل فيها: فالطائع والعابد في هذه الليلة يكون ذا قدْر وشرف.

القدْر في العبادة: أي أنّ العبادة فيها لها قدْر عظيم

وقتها وسبب اختفائها

أشهر الأقوال: أنّها في العشر الأواخر من رمضان، وأكثر الأقوال: أنّها في الليالي الوترية من العشر الأخير، وأكثرها أيضًا: أنّها ليلة السابع والعشرين، واستدل من رجّح ليلة السابع والعشرين، بأنّ سيدنا أُبي بن كعب رضي الله تعالى عنه كان يحلِف على ذلك بأن يقول:

والله! إنّي لأعلم أيّ ليلة هي......، هي ليلة صبيحة سبع وعشرين.

وفي رواية:

(تحرّوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان).

لماذا أخفى الباري عزّ وجلّ هذه الليلة؟

أخفاها الله تعالى كما أخفى كثيرًا من الأمور عن عباده، حتى يَجدّوا ويجْتهدوا في سائر الأزمان:

فقد أخفى رضاه في الطاعات حتى يرغبوا في الكل.

وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل.

وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الصلوات الخمس.

وأخفى وليّه بين الناس حتى يعظّموا الكل.

وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا في كل الدعوات.

وأخفى قبول التوبة ليواظب المكلّف على جميع أقسام التوبة.

وأخفى وقت الموت ليبقى الإنسان دائما على استعداد له.

وكذلك أخفى هذه الليلة، ليعظّموا جميع ليالي شهر رمضان

الدعاء في ليلة القدر

قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى في "لطائف المعارف": ثبت عن النبي ﷺ

: من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدّم من ذنبه.

القيام هو إحياؤها بالتهجّد، والاجتهاد بالذكر والدعاء، وقال سيدنا سفيان الثوري رحمه الله تعالى: الدعاء في تلك الليلة أحبّ إليّ من الصلاة.

وعن أم المؤمنين الصدّيقة بنت الصدّيق السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها وعن أبيها

قالت: قلت: يا رسول الله ﷺ! أرأيت إنْ علمتُ أيّ ليلةٍ ليلةُ القدر، ما أقول فيها؟ قال: قولي: اللهم إنّك عفوّ تحبّ العفو فاعف عنّي.

علامات ليلة القدر

ذكر العلماء الأعلام رحمهم الله تعالى علامات لهذه الليلة، منها: تمتاز ليلة القدر بالسكينة، وطمأنينة القلب، وتكون السماء صافية، والجوّ معتدلاً، ويشهد لذلك بعض الآثار:

فعن سيدنا عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه: ليلة القدر في العشر البواقي، من قامهنّ ابتغاء حسبتهنّ، فإنّ الله تعالى يغفر له ما تَقدّم من ذنبه وما تأخّر، وهي ليلة وتر: تسع، أو سبع، أو خامسة، أو ثالثة، أو آخر ليلة، وقال رسول الله ﷺ:

إنّ أمارة ليلة القدر أنّها صافية بلجة، كأنّ فيها قمرًا ساطعًا، ساكنة ساجية لا بردَ فيها ولا حرَّ، ولا يَحِلُّ لكَوكبٍ أنْ يُرمى به فيها حتى تُصبِحَ، وإنَّ أمارتَها أنَّ الشَّمسَ صَبيحتها تَخرُجُ مُستَويةً ليس لها شُعاعٌ ، مثل القمر ليلة البدر، لا يحلّ للشيطان أن يخرج معها يومئذ.

وعن سيدنا واثلة بن الأسقع الليثي رضي الله تعالى عنه:

ليلة القدر ليلة بلجة لا حارّة ولا باردة ولا سحاب فيها ولا مطر ولا ريح ولا يُرمى فيها بنجمٍ، ومن علامة يومِها تطلع الشّمسُ لا شعاعَ لها.

كيفيّة الاستعداد لهذه الليلة المباركة

هناك هيأتان للاستعداد لها
1ـ هيئة ظاهرة: تتمثل بحرص المكلّف على الاغتسال، ولبس أفضل اللباس لاسيما الأبيض إنْ وُجد، والتطيّب، عظيماً لمكانتها عند الله تعالى، وإجلالاً لشعائر الله تعالى، وصلة الأرحام وإن كانوا هم المخطئون، وردّ المظالم إلى أهلها وغيرها من الأخلاق الظاهرة.

2ـ هيئة باطنة: صفاء القلب، لا يوجد شيء في الدنيا يستحق أن تدخل ليلة القدر ويكون في قلب مؤمن حقد أو حسد أو كِبر أو شحناء أو بغضاء وغيرها من أمراض القلب، فليكن كل مسلم متجاوِز على قدر الإمكان عن إخوانه، ليكن متواضعاً، محبا، مسامحاً، حتى لا يُحرَم من تجلّيات الله تعالى على عباده في هذه الليلة العظيمة.

ــ أهم سؤال: ما هي أهم الوصايا التي يُطلب فعلها في ليلة القدر؟

هناك عدّة أمور من أهمها ثلاثة، مأخوذة من وصايا معظم العلماء والصلحاء من أمّة الحبيب ﷺ وهي:

من أول دخول الشهر المبارك يسأل الله تعالى أن يوفقه لليلة القدر والفوز بكرامة الله.

يحرص المكلّف ألاّ تفوته صلاة العشاء وصلاة الفجر جماعة في ليالي رمضان كلّها، وفي العشر الأواخر أولى.

يجتهد المسلم على قيام الليل ولو يسيرًا، وذلك في جميع الشهر وفي العشر الأخير منه أكثر.

لا يُحرم فضلها وبركتها إلا محروم

وقد ورد:

إنّ هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خيرٌ من ألف شهر، من حُرمها فقد حُرم الخير كلّه، ولا يُحرم خيرها إلا محروم.

اللهمّ بلّغنا ليلة القدر، واجعلنا من الذين يتعرضون لنفحات الله تعالى فيها، واجعلنا من عتقائك من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين! صلّوا على الحبيب، اللهمّ صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ربّ العالمين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مركز_فيضان_المدينة
#مؤسسة_مركز_الدعوة_الإسلامية

تعليقات



رمز الحماية