لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر | محمد إلياس السكندري


نشرت: يوم الأَربعاء،31-أغسطس-2022

لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر

قال الله تعالى في محكم تنزيله:

﴿وَلَا تَبَرَّجۡنَ تَبَرُّجَ ٱلۡجَٰهِلِيَّةِ ٱلۡأُولَىٰۖ﴾

من مقاصد الشريعة الإسلامية الغراءُ مخالفة كلّ رذيلة ونقص، مع الدعوة إلى كلّ كمال وفعل حسن....

فقد كان في الجاهلية أفعال رذيلة وعادات قبيحة كثيرة جاءت شريعتنا الغراءَ لنبذها ومخالفتها: كـ"التفاخر بالحسب، والطعن في النسب، والاغترار بالكثرة، والنياحة عند النوائب، والتطيّر والتشاؤم بالأيّام أو بالشهور أو بالأعداد وغيرها"، وهذا الأخير هو المقصود في مقالنا هذا بإذن الله تعالى.

كان من عادات العرب الجاهلية: التشاؤمُ من عدّة أشياء، فنهى حبيبنا محمد ﷺ عن ذلك بقوله فيما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله تعالى في صحيحيهما: عن سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال النبي ﷺ:

"لا عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا هَامَةَ"، فقال أعرابيّ: يا رسول اللّه ﷺ! فما بالُ إبلي؟ تكون في الرّمل كأنّها الظِّبَاء، فيخالطها البعيرُ الأجربُ فيُجْرِبها؟ فقال رسول الله ﷺ: فمَن أعدَى الأوّلَ؟"

وفي رواية:

"لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ"

فقولهﷺ: (لا عدوى) هو اسم من الإعداء وهو أن يصيبه مثلُ ما يصاحب الداء، وكانوا يظنّون أنّ المرض بنفسه يعدّي وأنّ المرض يتعدّى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحّاء فيمرض بذلك، وكانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها: الجرب، ولذلك سأل الأعرابي عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب؟ فقال النبي ﷺ: "فمن أعدى الأوّل؟" ومراده: أنّ الأوّل لم يجرب بالعدوى بل بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده

(والهامة: هي البومة)، وذلك أنّهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير الليل

وقد كان العرب يتشاءمون منها، ولقد حذر النبي الكريم ﷺ مِن هذا الفعل، ونهى المسلم أن يرجع عن سفره أو يترك عمله بالتطيّر، قال رسول الله ﷺ:

"مَن رَدَّتهُ الطِّيَرَةُ مِن حاجةٍ، فقد أشرك"

فالتطيّر كما قال ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى: أصل التطير أنّهم كانوا في الجاهلية يعتمدون على الطير فإذا خرج أحدهم لأمرٍ فإنْ رأى الطير طار يمنةً تيمّن به واستمرّ وإنْ رآه طار يسرةً تشاءمَ به ورجع، وربّما كان أحدهم يهيِّج الطير ليطير فيعتمدها، فجاء الشرع بالنهي عن ذلك وكانوا يسمّونه السانح فهو الذي ولاَّك ميامنه بأن يمرّ عن يسارك إلى يمينك والبارح بالعكس، وكانوا يتيمّنون بالسانح ويتشاءمون بالبارح؛ لأنّه لا يمكن رميه إلاّ بأن ينحرف إليه وليس في شيء من سُنوح الطير وبروحها ما يقتضي ما اعتقدوه، وإنما هو تكلّفٌ بتعاطي ما لا أصل له، وقد كان بعض عقلاء الجاهلية ينكر التطيّر ويتمدّح بتركه

قال ابن الأعرابي رحمه الله تعالى: كانوا يتشاءمون بها (أي: بالبومة)، إذا وقعت على بيت أحدهم، يقول: نعت إليَّ نفسي، أو أحداً من أهل داري

وأما قوله ﷺ: (ولا صفر)، فاختُلف في تفسيره:

فقال كثير من المتقدّمين: الصفر: داء في البطن يقال: إنّه دُود فيه كبار كالحيّات، وكانوا يعتقدون أنه يعدي، فنفى ذلك النبي ﷺ، وقد يقال: هو من باب عطف الخاص على العام وخصّه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى، وقالت طائفة: بل المراد بصفر "شهر".

ثم اختلفوا في تفسيره على قولين:

أحدهما: أنّ المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء، فكانوا يحلّون المحرّم، ويحرّمون صفرًا مكانه وهذا قول مالك رحمه الله تعالى.

والثاني: أنّ المراد بأنّ أهل الجاهلية كانوا يتشاءمون من صفر، ويقولون: إنه شهر مشؤوم، فأبطل النبي ﷺ ذلك، وهذا القول حكاه أبو داوود عن محمد بن راشد المكحولي رحمهما الله تعالى عمّن سمعه يقول ذلك، ولعلّ هذا القول أشبه الأقوال.

كثير من الجهّال يتشاءم بصفر وربّما ينهى عن السفر فيه، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهيّ عنها، وكذلك التشاؤم بالأيّام كيوم الأربعاء

وقد روي أنّه: "يوم نحس مستمر" في حديث لا يصحّ بل في "الأدب المفرد" و"مسند أحمد": عن جابر رضي الله تعالى عنه

أنّ النبي ﷺ: دعا على الأحزاب يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر، قال جابر رضي الله تعالى عنه: ولم ينزل بي أمرٌ مهمٌّ غائظٌ إلاّ توخّيتُ تلك الساعة فدعوتُ الله فيه

يفهم ممّا سبق أنه كان للعرب في هذا الشهر -أي: في شهر صفر- منكران عظيمان:

الأول: التلاعب بحرمة الشهور حيث جعل الله سبحانه وتعالى منها: أربعة حرمٌ، ثلاث متواليات: ذي القعدة وذي الحجّة والمحرّم، ورجب فرد، ولكن المشركين إذا أرادوا أن ينتهكوا حرمة شهر المحرّم قدّموا شهر صفر وجعلوه مكانه.

الثاني: هو التشاؤم بشهر صفر فقد كانت العرب تتشاؤم من هذا الشهر، وتعتقد نحوسته، لذلك بيّن عليه الصلاة والسلام أنّ ذلك مذموم ومنهيّ عنه، وأنه ليس في شهر صفر نحوسة ولا شُؤم، فعن عروة بن عامر القرَشِي رضي الله تعالى عنه قال: ذُكِرت الطيَرَةُ عند النبيّ ﷺ، فقال:

"أحسَنُها الفَألُ، ولا تردّ مسلمًَا، فإذا رأى أحدكم ما يَكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يَدفع السيّئاتِ إلا أنت، ولا حول ولا قوّة إلا بك"

فالنفي هنا بمعنى النهي، أي: شأن المسلم ألاّ يرجع عما عزم عليه من أجلها، لعلمه أن لا أثر لغير الله تعالى أصلاً.

ومثله البحث عن أسباب الشر من النظر في النجوم ونحوها من الطيرة المنهي عنها والباحثون عن ذلك غالباً لا يشتغلون بما يدفع البلاء من الطاعات بل يأمرون بلزوم المنزل وترك الحركة وهذا لا يمنع نفوذ القضاء والقدر، ومنهم من يشتغل بالمعاصي وهذا ممّا يقوي وقوع البلاء ونفوذه، والذي جاءت به الشريعة هو ترك البحث عن ذلك والإعراض عنه والإشتغال بما يدفع البلاء من الدعاء والذكر والصدقة وتحقيق التوكّل على الله عزّ وجلّ والإيمان بقضائه وقدره

واعلموا أنّ شهر صفر إنما هو أحد الشهور الهجرية التي خلقها الله سبحانه وتعالى ولم يرد في فضله ولا في ذمّه ثمة حديث، فلا يتعلّق به تخصيص بالخير ولا بالشر وإنما هو كسائر الأوقات التي جعلها الله فرصة للأعمال النافعة، فلا نتشاءم ولا نتطيّر بل علينا الرضا والتسليم لحكم الله سبحانه وتعالى والدعاء منه واللجوء إليه بما يرضيه.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مركز_فيضان_المدينة
#مؤسسة_مركز_الدعوة_الإسلامية

تعليقات



رمز الحماية