حرمة النبي الأعظم ﷺ والأدب معه | طارق المحمد


نشرت: يوم الأَربعاء،12-أكتوبر-2022

حرمة النبي الأعظم ﷺ والأدب معه

قالوا قديماً: مَنْ فاتهُ الأدب أصابهُ العطَب، وقالوا: الأدب قبل الطلب! ومن أسباب الفتح على المتعلّم أدبه وسمته وحفظه للحرمة، ومن أجل اللطائف في كمال التعظيم لسيدنا محمد ﷺ ما جاء في ترجمةِ المحدّث علي بن عبد الصادق الرجراجي رحمه الله تعالى أنه اشترى عبدًا، وبعد ذهابه معه سألهُ عن اسمه فقال: «محمد» فقال له: اذهب حيث شئتَ فإن مثلي لا يملك محمدا!

ولقد ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكًا رحمهما الله تعالى في مسجد رسول الله ﷺ فقال له مالك رحمه الله تعالى: يا أمير المؤمنين! لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدّب قوماً فقال:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ ٢﴾

ومدح قومًا فقال:

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصۡوَٰتَهُمۡ عِندَ رَسُولِ ٱللَّهِ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ ٱمۡتَحَنَ ٱللَّهُ قُلُوبَهُمۡ لِلتَّقۡوَىٰۚ لَهُم مَّغۡفِرَةٞ وَأَجۡرٌ عَظِيمٌ ٣﴾

وذمَّ قوما فقال:

﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ ٱلۡحُجُرَٰتِ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ ٤﴾

وإن حرمته ميتا كحرمته حيًّا.. فاستكان لها أبو جعفر رحمه الله تعالى وقال: يا أبا عبد الله! أستقبل القبلة وأدعو أم أستقبل رسول الله ﷺ؟ فقال: ولِــــــمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة!! بل استقبله واستشفع به فيشفعه الله» قال الله تعالى:

﴿وَلَوۡ أَنَّهُمۡ إِذ ظَّلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ جَآءُوكَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱسۡتَغۡفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابٗا رَّحِيمٗا ٦٤﴾

ولأجل ذلك كان ساداتنا الصحابة رضي الله عنهم يراعون معه كمال الأدب، ويُجلّونه تمامَ الإجلال، وكذلك سار العلماءُ حتى في حمل ما جاء في القرآن الكريم عن رسول الله ﷺ على أحسن المحامل، وأجلّ المعاني تعظيمًا لقدره، ورفعةً لشأنه.

ونهَجَ المربّون على الآداب والتعظيم لشعائر الله الذي ورثوه عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم، فتعظيم سيد المرسلين ﷺ سيرة ثابتة ولازمة عند أهل الحبّ والديانة؛ بل مما يُعلم من الدِّين بالضرورة.

وليست دروس الشمائل ومجالس السيرة والموالد، التي تقام في شهر ربيع الأول أو غيره على مدار العام، إلا إحياءً لسنة رسول الله ﷺ في حياة المؤمنين؛ بل إن غاية هذه المجالس إعادة روح التعظيم في قلوب المسلمين، كما أمر القرآن، ليعيش المؤمنون في حياتهم الصلة الروحية كما عاش السلف والعلماء العظام، يعظمون رسول الله فيتّبعونه، يحبون حبيب الله فيقتدون به، يسمعون سيرته وأوصافه فيجلّونه، يطربون بمدحه ويسيرون على هديه، ومعلوم ما كان عليه السلف من التعظيم لرسول الله ﷺ ابتداءًا من الصحابة الكرام رضي الله عنهم ثم التابعين وتابعيهم رحمهم الله تعالى إلى يومنا هذا، وهم أوفى من التزم بما قال الله تعالى:

﴿لِّتُؤۡمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُۚ وَتُسَبِّحُوهُ بُكۡرَةٗ وَأَصِيلًا ٩﴾

وقوله تَعالى:

﴿لَّا تَجۡعَلُواْ دُعَآءَ ٱلرَّسُولِ بَيۡنَكُمۡ كَدُعَآءِ بَعۡضِكُم بَعۡضٗاۚ﴾

حيث أوجب تعالى تعزيره وتوقيره وألزم إكرامه وتعظيمه.

1- قال ابن عباس رضي الله تعالى عنه: تعزّروه: تجلّوه.

2- وقال المبرّد: تعزّروه: تبالغوا في تعظيمه.

3- وقال الأخفش: تنصرونه.

4- وقال الطبري: تعينونه.

وقُرئ "تعززوه"، بزاءين من "العز"، ونهى عن التقدّم بين يديه بالقول وسوء الأدب بسبقه بالكلام على قول ابن عباس وغيره، وهو اختيار ثعلب من العلماء.

• قال سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى: لا تقولوا قبل أن يقول وإذا قال فاستمعوا له وأنصتوا، ونُهُوا عن التقدّم والتعجّل بقضاء أمر قبل قضائه فيه وأن يفتاتوا بشيء في ذلك من قتال أو غيره من أمر دينهم إلا بأمره ولا يسبقوه به

وهذا التعظيم والتبجيل لا يختلف عنه بعد وفاته كما هو في حياته ﷺ، والأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخيّة أوسع من الحياة الدنيوية، ولذلك يقول العلامة القاضي المحبّ صاحب الشفا رحمه الله تعالى:

واعلم أن حرمة النبي ﷺ بعد موته وتوقيرَه وتعظيمَه لازم كما كان حال حياته وذلك عند ذكره ﷺ وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته وتعظيم أهل بيته وصحابته.

• قال أبو إبراهيم التّجِيبيُّ رحمه الله تعالى: واجب على كل مؤمن متى ذكره أو ذُكر عنده أن يخضع، ويخشع، ويتوقّر، ويسكن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه ويتأدّب بما أدّبنا الله تعالى به.

قال القاضي أبو الفضل وهذه كانت سيرة سلفنا الصالح وأئمتنا الماضين رضي الله عنهم(المرجع السابق).

ثم نقل الإمام المحبّ القاضي عياض رحمه الله تعالى طرفًا من هذا التعظيم وبسط فيه الأمر لكل مؤمن يحبّ رسول الله ﷺ، وسيعلم القارئ والسامع لمثل هذا الكلام كم هو قاصر بل بعيد عن هذا التعظيم الذي كان عليه سلفنا الصالح الذين يجب أن نقتدي بسيرتهم في تعظيم حبيبنا ﷺ، ... فكما في حديث عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه الطويل وفيه: ..

وما كان أحد أحبَّ إليَّ من رسول الله ﷺ ولا أجلَّ في عيني منه وما كنتُ أطيق أن أملأ عينَيَّ منه إجلالاً له ولو سُئلتُ أن أصفه ما أطقتُ؛ لأني لم أكن أملأ عينَيَّ منه

وروى الترمذي رحمه الله تعالى عن أنس رضي الله تعالى عنه

أن رسول الله ﷺ كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جلوس فيهم أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلا يرفع أحد منهم إليه بصرَه إلا أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويتبسّمان إليه ويتبسّم لهما

وروى أسامة بن شريك رضي الله تعالى عنه قال:

أتيت النبي ﷺ وأصحابه حوله كأنما على رؤوسهم الطير

وفي حديث صفته:

إذا تكلّم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير

وقال عروة بن مسعود رضي الله تعالى عنه:

حين وجهته قريش عام القضية إلى رسول الله ﷺ ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى؛ وأنه لا يتوضّأ إلا ابتدروا وضوئه وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا ولا يتخم نخامةً إلا تلقوها بأكفهم فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدُّون إليه النظر تعظيمًا له، فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش! إني جئت كسرى في ملكه وقيصر في ملكه والنجاشي في ملكه وإني والله! ما رأيت ملكًا في قوم قطّ مثل محمد في أصحابه

وفي رواية:

إن رأيت ملكاً قطّ يعظمه أصحابه ما يعظم محمد أصحابه، وقد رأيت قومًا لا يسلمونه أبدًا

وعن أنس رضي الله تعالى عنه:

لقد رأيت رسول الله ﷺ والحلاّق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل

ومن هذا لما أذنت قريش لعثمان في الطواف بالبيت حين وجهه النبي ﷺ إليهم في القضية أبى وقال:

ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله ﷺ

وفي حديث طلحة رضي الله تعالى عنه:

أن أصحاب رسول الله ﷺ قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نَحْبَه، وكانوا يهابونه ويوقرونه

وهذا من أخبارهم معه ﷺ في حياته، وأما بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى فإن الأمر في التعظيم لم يختلف؛ بل هو مشهور ومعلوم لكل ذي بصيرة وقلبٍ منوّر؛ فكان مالك رحمه الله تعالى إذا ذكر النبي ﷺ يتغير لونه وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوماً في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون ولقد كنتُ أرى محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى وكان سيّد القراء لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنتُ أرى جعفر بن محمد رحمه الله تعالى وكان كثير الدعابة والتبسم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ أصفر وما رأيته يحدث عن رسول الله ﷺ إلا على طهارة، ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم رحمه الله تعالى يذكر النبي ﷺ فينظر إلى لونه كأنه نزف منه الدم، وقد جفّ لسانه في فمه هيبةً منه لرسول الله ﷺ، ولقد كنتُ آتي عامر بن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه فإذا ذكر عنده النبي ﷺ بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع، ولقد رأيت الزهري رحمه الله تعالى وكان من أهنأ الناس وأقربهم فإذا ذكر عنده النبي ﷺ فكأنه ما عرفك ولا عرفته، ولقد كنت آتي صفوان بن سليم رحمه الله تعالى وكان من المتعبّدين المجتهدين فإذا ذكر النبي ﷺ بكى فلا يزال يبكي حتى يقوم الناس عنه ويتركوه

فانظر يا أخي! كيف تأدّبوا مع رسول الله ﷺ في حديثه وسماع ذكره وسيرته، وتأمّل كيف عاشوا حياتهم بالمحبّة الصادقة لجناب رسول الله ﷺ، لقد كان حقّاً أهل حبٍّ ومتابعة وتعظيم وتوقير، لقد جعلهم ذلك الحبّ والأدب في مصافّ الملائكة الكرام عليهم السلام، حتى صارت أخبارهم في الأدب من الغرائب التي تُذكر، ولا شكّ أنّ أدبهم وسمتهم وحبّهم أعظم وأجلّ مما يتغنى به الكثيرون اليوم في ألسنتهم والحقيقة عنهم غائبة، فإن الحقائق أثبت من الدعاوي والأقوال، فما أجمل بالمؤمن أن يتتبّع هذه الأخبار لينظر حاله ويقتدي بأولئك العظام الأوائل..

فقلِّدِ القومَ يا هذا بسيرَتهِمْ*****فكَمْ وكمْ جَرَّ للتَّحقيقِ تَقليدُ

ونختم بفائدة جليلة ذكرها العلامة محمد الفضيل الشبيهي الزرهوني الإدريسي رحمه الله تعالى في كتابه "الفجر الساطع على الصحيح الجامع" عند باب:

﴿وَأَنذِرۡ عَشِيرَتَكَ ٱلۡأَقۡرَبِينَ﴾

حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وفيه:

فقال أبو لهب ...... ألهذا جمعتنا؟ فنزلت:

﴿تَبَّتۡ يَدَآ أَبِي لَهَبٖ وَتَبَّ﴾،

فعلق العلامة الشبيهي عند هذا: يتعينُ على قارئ هذا المحل عدم تلفظّهِ بهذه الجملة الشنيعة، ويقتصر على [فقال أبو لهب: ... ألهذا جمعتنا]؛ لأنها وإن كانت من حكاية كلامِ الغير، ففيها من البشاعةِ، وسوء الأدبِ مع النبيّ ﷺ ما لا يخفى، فلا تسمحْ نفس مؤمن بذكرها، هذا ما ظهر لي، ولم أرَ من نصّ عليه بخصوصه

والأخبار في هذه الآداب كثيرة مستفيضة، وألّف العلماء فيها أسفاراً وكتباً عريضة، الرجوع إليها يدفع عن القلب كل شبهة ومريضة، والنظر فيها عند أهل الحبّ للاقتداء بها سجية وفريضة، اللهم وفّقنا لمتابعة حبيبك الأكرم، ونبيك الأفخم، ورسولك الأعظم، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية