القصيدة الرائية في مدح خير البرية والسيرة الذاتيّة لشاعرها | أبو سفيان محمد راشد المدني


نشرت: يوم الأَربعاء،17-مايو-2023

القصيدة الرائية في مدح خير البرية والسيرة الذاتيّة لشاعرها

قال شيخ القراء والمحدثين الإمام محمد بن محمد الْجَزَرِيّ الدمشقيّ رحمه الله تعالى في توجّهه إلى زيارة النبي ﷺ:

لِطيبةَ بِتُّ طول الليل أَسرِيْ*****لعل بها يكون فِكاكُ أَسْرِي

فجسمي عندهم والقلبُ مُضْنًى*****فباتوا يُدْلِجون وبات يَسْرِي

فكم بحرٍ وكم برٍّ قَطعْنا*****وخلَّفْنا الرِّفاق وراء نهر

وكم عامٍ نسيرُ وراء عام*****وكم شهرٍ ندورُ وراء شهر

أَفِرُّ إلى الحِمى حفظًا لديني*****وهل يُنْجِي المدينَ سوى المفرّ

إذا خشُنَ المقامُ بأرض قومٍ*****فقد حسُنَ المفرُّ لذا المقرِّ

على وادي العقيقِ جرتْ دُمُوعي*****دِماءً كالعقيق بِحَرِّ جَمْر

تُرَى لي هل إلى أُحُدٍ رُجوعٌ*****وهل أَحَدٌ إليه أُبِيحُ سِرِّي

وهل لي في البقيع هناك عَوْدٌ*****ومن لي أن يكون هناك قبري

أخي! إن جئت سَلْعًا قِفْ وسَلْ عن*****حُشاشة مُهْجَتِي وسَلاَمِيَ اقْرِي

وعُجْ بي في قـبـاء فـإنّ عُجْبِي*****لِبِئْرِ أريسَ كيف ارتاح صدري

وليس الماءُ ماءَ أبي وجدِّي*****ولا والله! ذاك البِئْرُ بئري

وما حبُّ الديار شَغَفْنَ قلبي*****ولكن حُبُّ ساكنِها لَعَمْرِي

مَنازِلُ حَلَّها قدمُ الْمُفَدَّى*****رسول الله محبوبي وذُخْرِي

رسولَ الله! جئتُك في انكسار*****من الآثام فارحمني بجَبْر

رسولَ الله! جئتُك مستقيلاً*****من الزَّلاَّت فَاكْنُفْها بستر

رسولَ الله! حيث ظلمتُ نفسي*****وجئتُك تائبًا فَامْنُنْ بغُفْر

رسولَ الله! كن لي شافعًا من *****تغابُن عند صفٍّ يوم حشر

رسولَ الله! يا حَسَنَ الْمُحَيَّا*****فَدَتْكَ النّفسُ يا سمعي وبصري!

رسولَ الله! كم لي من ذنوبٍ*****وعنها في حِماك هَوايَ عُذْرِي

رسولَ الله! ضيفُك نازلٌ*****في جوارِك عَلَّهُ يُقْرَى وتَقْرِي

رسولَ الله! ضعفي وانكساري*****لديك فَجُدْ على ضعفي وكسري

رسولَ الله! أنت لنا*****ملاذٌ ليوم كريهةٍ وسدادِ ثَغْر

رسولَ الله! ليت العُمْرَ يَفْنَى*****وفيك مَدائِحِي نظمي ونثري

وليت الشعرَ في عَلْياك يُرْضِي*****وهل يُرْضِيك مِنِّي ليت شعري

رسولَ الله! فيك شَدَدْتُ رَحْلي*****ولا أخشى وَحَقِّك قولَ نُكْر

وها أنا قائم وجّهت وجهي*****وما باليت حيث جعلت ظهري

جعلتُك قبلتي لدعاء ربي*****وأنت وسيلتي في كل عسر

ومنها:

وقد سمع الكلام بلا حجابٍ*****وخُصّ بذا المقام فأيّ فخر

وكم قد خصَّه ربُّ البَرايا*****خصائصَ لم تكن تُحْصَى بحَصْر

لها قمرُ السماء انشقَّ حقًّا*****له الشمسُ ردت بعد بدر

وتسبيح الحَصا في كفِّه لذكر*****ولا تنسَ حنينَ الجذع وادْر

ونبعُ الماء من يده مرارًا*****وما في مِزْوَد من كفِّ تمر

وفي آخرها:

وصلِّ على النبيّ المصطفى من*****نسير إليه ونحن بقرب قبر

وصِهْرَيْه ضَجِيعَيْهِ وأَكْرِمْ*****معَ الخَتَنَيْنِ وارضَ عن أَهل بدر

وآلٍ الصحابةِ وتابِعِيْهم*****وسَلِّمْ للقيامة كلَّ عصر

ليس هناك انتهاء ٌولا حَدٌّ لمدح خاتم الأنبياء محمد المصطفى ﷺ؛ لأن الله تعالى قال في القرآن المجيد:

وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ ٤

وفي مقام آخر قال تعالى:

وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ ٤

قال الإمام الرازي رحمه الله تعالى حول هذه الآية: معناه ما يخطر ببالي هو "ولَلأحوالُ الآتيةُ خيرٌ لك من الماضية" كأنّه تعالى وعده بأنّه سيزيده كلّ يوم عِزًّا إلى عِزٍّ، ومَنصبًا إلى منصبٍ

وبعد هذا التفسير الجميل "لو جمعنا عدد شعراء الرسول ومادحيه في عصر واحد لما وصلنا إلى عدد معين لعدم إمكان إحصائها" مع أننا كتبنا مجلدات لتراجمهم، فكيف يمكن إحصاء الشعراء من عصر رسول الله ﷺ إلى الآن؟

وقد انتخبنا "سيرة شيخ القراء والمحدثين الإمام محمد بن محمد الجَزَرِيّ الدمشقيّ رحمه الله تعالى" واخترنا لكم "قصيدته الرائية المعروفة في مدح خير البرية" بمناسبة مرور شهر ولادته رحمه الله تعالى في رمضان المبارك بدمشق.

السيرة الذاتية للإمام محمد بن محمد الْجَزَرِيّ رحمه الله تعالى

كان الإمام الجَزَرِي رحمه الله تعالى مقرئ الممالك الإسلامية، شيخ الإقراء في زمانه، أستاذًا للمقرئين والمحدّثين، وكان إمامًا في القراءات حتى حصلت له شهادة على العلوم والفنون في القرنين الثامن والتاسع، حافظًا للحديث، واشتهر بعلمه وعمله وكتبه مثل كتيب في الأدعية "الحصن الحصين"، و"النشر في القراءات"، و"المنظومة الجزرية"، هي منظومة في علم القراءة والتجويد، وسنذكر هنا طرفًا من سيرته العطرة الطيبة رحمه الله تعالى:

اسمه ونسبه:

الإمام شمس الدّين أبو الخير محمّد بن محمّد بن محمّد بن عليّ بن يوسف الْعمريّ الدمشقيّ ثمّ الشيرازيّ الجَزَرِيّ الشافعيّ

نسبته:

يعرف بـ"ابن الجَزَرِي" نسبة لـ"جزيرة ابن عمر" قريب الموصل

مولده ونشأته:

كان والده محمد بن محمد تاجرًا، وسافر لغرض التجارة كثيرًا، فمكث 40 سنة لا يُولد له فأراد الحجّ، لما وصل إلى بيت الله تعالى وحين نظر إليه امتلأ قلبه بالحزن، فأدّى فريضة الحجّ وذهب إلى شرب ماء زمزم فرفع يديه بعد شربه، ودعا لولد عالم صالح، وبعد أداء جميع مناسك الحجّ عاد إلى بلده، حتى مضت بضعة أَشْهُر، ثم في شهر رمضان المبارك وُلد له طفل بعد صلاة التَّرَاوِيح من ليلة السبت 25 من رمضان سنة 751 هـ داخل خطّ القصاعين بن السورين بدمشق، وهو العلامة ابن الجزري رحمه الله تعالى، ونشأ بدمشق، فحفظ القرآن وأكمله سنة 764 هـ وهو ابن اثني عشر أو ثلاث عشر، وصلّى به في الّتي بعدها، وحفظ "التَّنْبِيه لأبي إسحاق إبراهيم الشيرازي" على مذهب الشافعيّ رحمه الله تعالى، ولهج بطلب الحديث والقراءات حتى برّز فيهما، وتفرّد بعلوّ الرواية وحفظ الأحاديث والجرح والتّعديل ومعرفة الرُّواة المتقدّمين والمتأخّرين، وأخذ "الفقه" عن الأسنوي والبلقيني والبهاء أبي البقاء السّبكي رحمهم الله تعالى، وأخذ "الأُصُول" و"المَعَانِي" و"البيان" عن الضياء القرمي رحمه الله تعالى، و"الحديث" عن العماد بن كثير وابن المحبّ والعراقي رحمهم الله تعالى، وكان الإمام الجزري رحمه الله تعالى يلقّب في بِلاده "الإمام الأعظم"

أسفاره العلمية:

أكمل ابن الجزري رحمه الله العديد من العلوم في سنّ مبكّرة، وكان أساتذتُه معجبين جدًّا به وبذكائه، وأذنوا له بالتدريس والتعليم والإفتاء، كما يقول الإمام السخاوي رحمه الله: أذن له غير واحد بالإفتاء والتدريس والإقراء بالعادلية ثمّ مشيخة دار الحديث الأشرفية ثمّ مشيخة تربة أمّ الصَّالح ، وكان الإمام الجزري رحمه الله تعالى قد بنى مدرسة "دار القرآن الكريم الجزرية" كما نقل مؤرّخ دمشق عبد القادر بن محمد النعيمي في كتابه "الدارس في تاريخ المدارس" عن الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى قال: لهج بطلب الحديث والقرآن، وبرّز في علم القراءات، وعمّر مدرسة للقراء وسمّاها "دار القرآن" وأقرأ الناس فيها

أخذ القراءات وجمعها على أبي المعالي بن اللبان رحمه الله تعالى، وبمكّة قرأها على أبي عبد الله محمّد بن صلح خطيب طيبة وإمامها، ودخل القاهرة فأخذها عن أبي عبد الله بن الصَّائِغ والتقى البغداديّ رحمهما الله تعالى وآخَرين بهذه الأماكن وغيرها واشتدّ اعتناؤه بها، وسمع على بقايا من أَصْحَاب الفخر بن البخاريّ وجماعة من أَصْحَاب الدمياطي والأبرقوهي رحمهم الله تعالى، وآخَرين بدمشق والقاهرة والإسكندرية وغيرها، وعمل في مشيخة تربة أمّ الصّالح إجلاسًا بِحُضُور الأَعْلام كالشهاب بن حجّي وسافر بسبب ذلك لمصر غير مرّة، وفي سنة 798 هـ ركب البحر من إسكندرية ولحق ببلاد الرّوم، فاتصل بالْمُؤَيّد أبي يزيد بن عثمان صاحب مدينة "بورصا" فأكرمه وعظّمه وأنزله عنده بضع سِنِين فنشر علم القراءات والحديث وانتفعوا به، ثم سافر إلى "روم" و"سَمَرْقَنْد"، وبعدهما إلى "شيراز"، ثمّ قصد الحجّ سنة 822 هـ ولكنه لم يُدرك الحجّ وأقام في الطريق وفي مستهلّ رجب دخل مكّة ثمّ قدم دمشق في سنة 827 هـ، ومنها إلى القاهرة فاجتمع بـ"السلطان الأشرف" فعظّمه وأكرمه وتصدّى للإقراء والتحديث، ولما قدم "القاهرة" انهال النّاس عليه للسماع والقراءة واجتمعوا وأتوه من كل ناحية، فسافر منها لمكّة فأَسْمع الحديث عند صاحبها ووصله فرجع منه ببضائع كثيرة ثمّ رجع إلى القاهرة فأقام بها مدة إلى أن سافر منها على طريق "الشّام" ثمّ على طريق "البصرة" إلى أن وصل "شيراز"، وحصل له في البلاد اليمنية بسبب ذلك رواج عظيم وتنافسوا في تحصيله وروايته

ولايته وقضائه:

من صفاته الحميدة كان رحمه الله تعالى قاضي القضاة، أستاذًا ومدرّسًا ماهرًا في العلوم العديدة وابتنى مدرسته المسمّاة بـ" دار القرآن" بدمشق ثم عُيّن لقضاء الشام مرة في سنة 773 هـ ولم يتمّ ذلك لعارض، ثم ولي توقيع الدست في سنة 779 هـ، وبعده ولي من برقوق خطابة جامع التوتة عن الشهاب الحسباني ثم ولي تدريس مدرسة "الصالحية الشافعية القدسية" في سنة 795 هـ فدام فيها إلى سنة 797 هـ ، وبعده سافر إلى بلاد شتى: "روم" و"سمرقند" ثم إلى "شيراز" ونشر بها أيضًا القراءات والحديث وانتفعوا به وولي قضاءها وغيرها من البِلاد من جهة أولاد تمر مدّة طويلة

أسفاره للحجّ:

كان يحجّ إذا زاد حبّه لزيارة الحرمين الشريفين، عندما حجّ أول مرّة تتلمّذ على خطيب طيبة وإمامها أبي عبد الله محمّد بن صلح، ومرة أخرى في سنة 822 هـ قصد الحجّ فنهب في الطّريق ففاته الحجّ وبعد إقامته في الطريق دخل بمكّة مستهلّ رجب فجاور إلى أن حجّ، ورجع إلى العراق ثم ذهب إلى القاهرة في سنة 827 هـ، فسافر منها لمكّة مع الحجّاج ثمّ سافر في البحر لبلاد اليمن تَاجِرًا، وعاد لمكّة فحجّ سنة 828 هـ، ولما أقام بمكّة نسخ بخطّه من أول المقدمة لأوّل شرح البخاريّ واستعان بجماعة حتّى أكملها تحصيلاً

أسماء بعض أساتذته وشُيُوخه:

من أهل الإسكندرية وبعلبّكّ ومن بلاد أخرى:

البَهَاء عبد الله الدَّماميني وابن موسى، وأحمد بن عبد الكريم، وابن أميلة وابن الشيرجي، وابن أبي عمر، وإبراهيم بن أحمد بن فلاح، والعماد بن كثير، وأبو الثّناء محمود المنيجي، والكمال بن حبيب، والتقي عبد الرّحمن البغداديّ رحمهم الله تعالى

تأليفاته وتصنيفاته:

كم من تأليف طوى ذكره ولم يستغل به الناس وكم من تأليف لم يُترك من الأيدي، فتأليفات هذا الإمام الجليل من القسم الثاني، تقبّل الله كتبه.

سبحان الله! لقد نال البركة العظيمة في أوقاته، كان يقرأ القرآن ويسمع الأحاديث ويتطوّع، مع هذه المشغوليات الجميلة صنّف كتبًا أيضًا وأجاد فيها، وقديمًا صنّف "الحصن الحصين" في الأدعية وهذا الكتاب من أسباب شهرته، ولهج به أهل اليمن واستكثروا منه، وكتب الطباق وعنيَ بالنظم، وكانت عنايته بالقراءات أكثر، فجمع "ذيل طبقات القراء" للذهبي وأجاد فيه ونظم قصيدة في قراءة الثلاثة، وجمع "النشر في القراءات العشر" وجوّده، فعددُ تصانيفه كثير، قال عمدة المفسرين العلامة عبد العزيز الدَّهْلَويّ رحمه الله تعالى في كتابه "بستان المحدّثين" نقلاً عن الحافظ تقي الدين بن فهد: عدد تصانيفه "39" ، وكل تصانيفه مفيدة ونافعة جدًّا حتى قال الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: لم يُصنَّف مثله ، ومن أشهر كتبه:

1- "النشر في القراءات العشر" في مجلدين و"التقريب" مُخْتَصره.

2- "تحبير التَّيْسِير في القراءات العشر" و"التمهيد في التجويد" وهما ممّا ألّفه قديمًا.

3- "طبقات الْقُرَّاء" في مجلد ضخم.

4- "الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين" في الأذكار والدعوات.

5- "التعريف بالمولد الشريف" و"عرف التعريف" مُخْتَصره.

6- "التوضيح في شرح المصابيح".

7- "الأولوية في أحاديث الأولية.

8- "عقد اللآلي في الأحاديث المسلسلة العوالي".

9- "المسند الأحمد فيما يتعلّق بـ"مسند أحمد".

10- "الإبانة في العمرة من الْجِعِرَّانَة".

11- "أسنى المطالب في مَنَاقِب عليّ بن أبي طالب" رضي الله تعالى عنه.

12- "الجوهرة" في النّحو، وغير ذلك.

وخرّج لنفسه "الأربعين العشارية"، وخرج "جُزْءًا" فيه مسلسلات بالمصافحة وهو مفيد

وفاته ومنيته:

كان رحمه الله تعالى ذا شكلٍ حسنٍ، فصيحًا بليغًا، له نظم ونثر وخطب، وبالجملة كان عديم النظير، طائر الصيت، انتفع الناس بكتبه وسارت في الآفاق مسير الشمس، توفي بـ"شيراز" قبل ظهر يوم الجمعة خامس ربيع الأول سنة 833 هـ بمنزله من سوق الإسكافيّين، ودفن بمدرسته الّتي بناها رحمه الله تعالى

أقوال العلماء في شخصيته:

1- قال الإمام ابن حجر العسقلانيّ رحمه الله تعالى: كان رحمه الله تعالى فصيحًا بليغًا، قد انتهت إليه رياسة علم القراءات في الممالك

2- قال الإمام السيوطي الشافعي رحمه الله تعالى: كان إمامًا في القراءات، لا نظير له في عصره في الدنيا

أخيرًا ختمتُ المقال بهذه الجملة الجميلة:

ليس على الله بمستنكرٍ*****أن يجمع العالَم في واحد


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية