العام الجديد فرصة للتجديد | محمد سجاد أنجم القادري


نشرت: يوم الجمعة،28-يونيو-2024

العام الجديد فرصة للتجديد

مع حلول العام الهجري الجديد، تشرق علينا ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، حاملةً عبق الإيمان وجلال التضحية، لتُجدّد في قلوبنا مشاعر الإيمان والامتنان، وتُذكّرنا بدروس خالدة ومعاني سامية تجسدت في رحلةٍ عظيمةٍ قادها خاتم المرسلين، صلّى الله عليه وسلم، من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.

تتزامن هذه المناسبة العظيمة مع فرصةٍ ذهبية للتأمل في معانيها ودروسها الخالدة.

بصماتٌ خالدة على درب الهجرة

واجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في ليلة الهجرة المباركة تحدياً عظيماً، حاصره رجال مسلحين بسيوفهم الحادة، عاقدين العزم على قتله، وكان المشهد مليئًا بوحشة الظلام والخطر، إلا أن عزم النبي صلى الله عليه وسلم كان كالبحر المتلاطم، يموج ثقة ويقيناً برعاية الله وحفظه، لم يشأ الله تعالى أن ينزل جبريل ليحمله على براقه السماوي كما حصل له في رحلة الإسراء، بل أراد أن يجعل من هجرته آية ومعجزة تبين قدرته سبحانه وتعالى، فخرج النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من بيته بشجاعة، وتوكل على الله، وتسلح بآية من الذكر الحكيم:

وَجَعَلۡنَا مِنۢ بَيۡنِ أَيۡدِيهِمۡ سَدّٗا وَمِنۡ خَلۡفِهِمۡ سَدّٗا فَأَغۡشَيۡنَٰهُمۡ فَهُمۡ لَا يُبۡصِرُونَ (يس: 9)

فأعمى الله أبصارهم، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم التراب على رؤوسهم، ليزدادوا ذلاً وصغاراً، ولو خرج من سقف البيت، لقالوا سحراً! لكن الله أراد أن يتم ذلك من الباب نفسه، فسار النبي الكريم صلى الله عليه وسلم على مهل، مطمئناً بقضاء الله وقدره، يعلم أن الله معه ولن يضره أحد، فخرج من بين فرسان دون أن يلحظ أحدهم، وهذا دليل واضح على عناية الله به وهو يدل على عظمة الله وقدرته.

أيها القاري الكريم! إذا كنت في أصعب المواقف من حياتك، فتذكر أن الله معك، واتّكل عليه، وكن واثقًا بقدرته على حمايتك، ولا تدع الخوف أو الشك يسيطران عليك، ابذل الجهد، واتّخذ من آيات القرآن الكريم هديًا لك ورفيقًا في رحلة الحياة، واجه التحديات بشجاعة، وصبر، وثقة بالله، وتذكر أن قصة هجرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تُعلّمنا أهمية الثقة بالله، والعمل الجاد، والتمسك بالقرآن الكريم، واتّخاذ الصفات النبيلة مثل الشجاعة والصبر والتوكل على الله سبحانه وتعالى.

وتذكر أن الله ينصر عباده المتوكلين ويحميهم، حتى ولو كان ذلك بأوهن الأشياء، كما نصر الله نبيه صلى الله عليه وسلم في سفر الهجرة من الغار، حيث أخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث ابن عباس رضي الله عنهما بإسناد حسن في قوله تعالى:

وَإِذۡ يَمۡكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ (الأنفال:30)

قال: فلما بلغوا الجبل أي الكفار اختلط عليهم فصعدوا الجبل فمروا بالغار فرأوا على بابه نسج العنكبوت فقالوا: لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال. (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح ج11ص:78)

فستر الله على نبيه ﷺ بنسج العنكبوت على باب الغار، ليؤكد له أن الله قادر على حمايته حتى من أقوى الأعداء بأوهن الأشياء، فلا تيأس أيها القاري أبدا من رحمة الله، وامض قدما في طريقك بثقة ويقين، فالله معك ولن يخذلك.

الهجرة من الذنوب سبيل النجاة والفلاح

بمناسبة هذه الذكرى المباركة، نتذكر أهمية الهجرة من الذنوب والمعاصي، فإن الذنوب والمعاصي ظلمات في طريق الإيمان، تبعد العبد عن الله تعالى وتُحجبه عن نوره، كما تظلم الدنيا حال وجود الغيوم وحجب نور الشمس، وبالمقابل، فإنّ الهجرة من الذنوب والمعاصي تُعتبر طريقًا للنجاة والفلاح، فهي تُقرب العبد من الله تعالى وتُنير قلبه بنور الإيمان، كما تضيء الشمس الأرض وتنيرها، ولئن فاتك ثواب الهجرة إلى الله ورسوله في زمن النبوة، فقد شرع الله لك هجرة من نوع آخر، فيها الثواب العظيم، فاهجر المعصية إلى الطاعة، واهجر التفريط إلى الاستقامة، واهجر الكسل إلى الجد والعمل والاجتهاد فيما يرضي الله، واهجر بقلبك من الركون إلى الدنيا والاطمئنان إليها إلى الدار الآخرة والرغبة فيها، فكما قال النبي صل الله عليه وسلم:

المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسانِهِ ويَدِهِ، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهى اللَّهُ عنْه. (متفق عليه)

المعاصي لها أضرارها على القلوب

لقد ابتليت مجتمعاتنا الإسلامية خاصة في زماننا هذا بكثرة المعاصي والذنوب وانتشار المنكرات والرذائل على اختلاف أنواعها، وهذه المعاصي لها أضرار على القلوب كضرر السموم على الأبدان على اختلاف درجاتها في الضرر، وما في الدنيا والآخرة من شرور وداء إلا سببه المعاصي والذنوب! والإنسان في حياته الدنيوية يتعرض لأمور ومواقف كثيرة، منها ما يقربه إلى الله عز وجل، ومنها ما يبعده عن الطاعة والعبادة، وأهمها المعاصي والذنوب، ولهذا يقول بعض الصالحين رحمهم الله تعالى: لا تنظر إلى صغر المعصية، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت. (الزهد والرقائق لابن المبارك: 1/23)

فالمعصية تورث الوحشة بين الإنسان وربه، ولو اجتمعت للإنسان ملذات الدنيا كلها لم تذهب تلك الوحشة، كما قال سبحانه وتعالى:

وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَةٗ ضَنكٗا وَنَحۡشُرُهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ أَعۡمَىٰ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرۡتَنِيٓ أَعۡمَىٰ وَقَدۡ كُنتُ بَصِيرٗا طه: 124 – 125.

للحسنة ضياء في الوجه ونور في القلب

وفي المقابل، فإن للحسنة والبعد عن المعاصي ميزات كبيرة، كما يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما: إن للحسنة ضياء في الوجه ونوراً في القلب وسعة في الرزق وقوة في البدن ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه وظلمة في القبر والقلب ووهناً في البدن ونقصاً في الرزق وبغضاً في قلوب الخلق، فلنحرص جميعًا على هجر الذنوب والمعاصي، والالتزام بطاعة الله تعالى ورسوله، لننال رضاه وجنته، وبذلك نسير على درب نبيّنا الكريم، ونكون قد حققنا معنى الهجرة الحقيقي في هذه الأيام المباركة، فإن الهجرة باقية إلى يوم القيامة حتى تطلع الشمس من مغربها.

هذه الذكرى المباركة فرصة للتوبة من ذنوبنا

إنّ ترك المعاصي وهجر الذنوب من أعظم أنواع الجهاد، بل الجهاد الأكبر، ففيه يواجه المسلم عدوًا خفيًا يتربص به في كل لحظة، ألا وهو نفسه الأمارة بالسوء، وهذا النوع من الهجرة هو الواجب على كل مسلم ومسلمة في هذا الزمان، بل في كل زمان ومكان، فهو هجرة دائمة لا تنقطع، هجرة من الظلمات إلى النور، ومن المعصية إلى الطاعة، فوجب علينا أن نترك المعاصي والذنوب التي انغمس فيها كثير من الناس، إلا من رحم الله تعالى، نحن نعيش في زمنٍ عصيب، وزمنٍ نحتاج فيه إلى هجرات كثيرة، منها:

هجرة حقيقية من بذاءات اللسان وآفاته

وهجرة من الكذب والسب والقذف

ومن الفاحش من القول أو الفعل

ومن الظلم والعدوان

ومن الاتهام بالباطل

ومن الاعتداء على الآخرين

ومن الاحتيال ونكران الجميل

ومن إفشاء الأسرار والنفاق وغيرها.

فلنجعل هذه الذكرى المباركة فرصةً للتوبة من ذنوبنا، ولنُعزم على هجر المعاصي والوقوف عند حدود الله تعالى، ولنُطهّر قلوبنا من الحقد والحسد والأنانية، ونملأها بالحب والرحمة والإيمان، لنكن قدوةً حسنةً للأجيال، ولنُنير دربهم بِسِرَاجِ الطاعةِ والإيمان، فبذلك ننال رضا الله تعالى وجنته، ونسعد في الدنيا والآخرة.

فهذا النوع من الهجرة هو سبيلُ العودة إلى الله تعالى، واتباع سبيل الرشد، وسلوك طريق الهداية، ممّا يُجلب البركة في العمر والرزق والذرية، كما قال تعالى:

وَلَوۡ أَنَّ أَهۡلَ ٱلۡقُرَىٰٓ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوۡاْ لَفَتَحۡنَا عَلَيۡهِم بَرَكَٰتٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ وَلَٰكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذۡنَٰهُم بِمَا كَانُواْ يَكۡسِبُونَ [الأعراف: 96].

لذلك أيها القارئ الكريم! بمناسبة العام الهجري الجديد نحن في أشدّ الحاجة إلى جهاد النفس، وهجر المعاصي، والعمل من أجل استقرار بلادنا وسلامة أوطاننا، فترك كل الأعمال المؤذية والإمساك عن الشر لأفراد المجتمع نوع من جهاد النفس، ووجب على كل مسلم المداومةُ على عمل الخير ونشر البر وإشاعة المعروف، وترك المعاصي والآثام، والحرص على كل ما فيه مصلحة البلاد والعباد.

خلاصة القول:

إن من جملة الهجر أن يهجر الإنسانُ الاعتقادَ الفاسد إلى الاعتقاد الصحيح، والسلوك الفاسد إلى السلوك الصحيح، والآراء الفاسدة التي تدعو إلى التشدد فيما لا ينبغي إلى الآراء الصحيحة، وأن يهجر البدعة إلى السنة، ويهجر ذل المعصية إلى عز الطاعة، ولنذكر أن هجر المعاصي ليس عسيرًا كما قد يظن البعض، بل هو سهلٌ لمن أراد، بتوفيق الله تعالى وعونه.

اللهمّ في مطلع هذا العام الهجري الجديد، نستغفرك من ذنوبنا الماضية ونتوب إليك بكلّ صدقٍ ونية، ونسألك أن ترزقنا هجر المعاصي والالتزام بحدودك.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة
#مجلة_فصلية

تعليقات



رمز الحماية