مدونات مختارة
الأكثر شهرة
آفات النفس وأهمية المجاهدة لها | الشيخ المفتي محمد قاسم العطاري
قال الله سبحانه وتعالى:
وَنَفۡس وَمَا سَوَّىٰهَا ٧ فَأَلۡهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقۡوَىٰهَا ٨ قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩ وَقَدۡ خَابَ مَن دَسَّىٰهَا ١٠ [الشمس:7-10].
التفسير:
خلق الله تعالى الإنسان، وصيّره مزيجًا من الجسد والروح، ومنحه صفات ظاهرة وباطنة، وجعل فيه قابلية الخير والشر، ووضع في نفسه نوازع الخير والشر كذلك، ووضح له ما ينبغي أن يفعله، وما ينبغي أن يتركه من طاعة أو معصية، بحيث يتميز عنده الرشد من الغي، والخبيث من الطيب، وقد تم ذكر هذه الحقيقة في الآيات السابقة.
وملخص ذلك أن أقسم الله بنفس وما سوّاها، أي عدل خلقها وسوّى أعضاءها، وأعطاها القوى الكثيرة كالقوة الناطقة، والسامعة والباصرة، والمفكرة والمخيلة وغير ذلك.. من العلم والفهم، ثم وضع أمامها طريق الفجور والتقوى، وجعل لها قوة يصحّ معها اكتساب أحد الأمرين، قد أفلح وفاز مَن طهّر نفسها من الذنوب ونقّاها من العيوب، وقد خاب وخسر من أخفاها بمعاصي الله. (تفسير الخازن، 4/382، ملخصا) (جلالين مع حاشية الصاوي، 6/2370، بتصرف)
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه:
كان رسول الله ﷺ إذا مر بهذه الآيات وقف، ثم قال: اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، وَأَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. (المعجم الكبير: 11/87، (11191) (مسند الشهاب القضاعي: 2/338، (1481)
إن النفس هي ألدّ أعداء الإنسان وهي أشد خطرًا وأعظم ضررًا عليه من الشيطان، بل النفس هي من أضلت وأهلكت الشيطان، وأماني النفس لا حد لها ورغباتها لا نهاية لها، وربما تزداد لذلك فإن عبيد النفس يجعلونها بمنزلة المعبود لهم، ويخضعون لها كما يخضع العابد لمعبوده، فيهلكون أنفسهم باتباع كل ما تدعوهم إليه نفوسهم، فأمثال هؤلاء يُطبَع على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يسمعون الهدى والمواعظ ويُجعَل على أبصارهم غطاء يمنعهم من إبصار الحق والصراط المستقيم وقد وصف الله تعالى حالهم هذه بقوله:
أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلۡمٖ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمۡعِهِۦ وَقَلۡبِهِۦ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِۦ غِشَٰوَةٗ فَمَن يَهۡدِيهِ مِنۢ بَعۡدِ ٱللَّهِۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ٢٣ [الجاثية: 23].
وبسبب هذه الآفات المهلكة للنفس، حذر الله تعالى منها مرّات عديدة في القرآن المجيد وقد أوحى الله تعالى لسيدنا يوسف عليه السلام مبيّنًا هذه الحقيقة هكذا:
وَمَآ أُبَرِّئُ نَفۡسِيٓۚ إِنَّ ٱلنَّفۡسَ لَأَمَّارَةُۢ بِٱلسُّوٓءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّيٓۚ إِنَّ رَبِّي غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٥٣ [يوسف: 53].
النفس الأمارة بالسوء: هي النفس التي تأمر صاحبها بكل سوء.
وأعظم سلاح لها هو شهواتها التي تُوقع الإنسان في ﺣﺒﺎﺋـلها فتجعله أسيرًا للملذات ولا يسعى للخروج منها ولا يتذكر الله ولا الآخرة، ولذلك بيّن الله كثيرًا من ضرر شهواتها ونهى مرارًا وتكرارًا عن اتباعها، كما قال سبحانه وتعالى في موضع واحد:
وَلَا تَتَّبِعِ ٱلۡهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمۡ عَذَاب شَدِيدُۢ بِمَا نَسُواْ يَوۡمَ ٱلۡحِسَابِ ٢٦ [ص: 26].
بل أمر أيضًا بالابتعاد عن هؤلاء الذين نسوا الله واتبعوا الشهوات، فقال تعالى:
وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا ٢٨ [الكهف: 28].
ولذلك عدّ النبي الكريم ﷺ اتباعَ الهوى من المهلكات، فقال:
ثَلَاثٌ مُهْلِكَاتٌ شُحٌّ مُطَاعٌ، وَهَوًى مُتَّبَعٌ، وَإِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِه مِنَ الْخُيَلَاء. ["المعجم الأوسط" للطبراني، من اسمه محمد، 4/129، (5452) ]
وقد بيّن المصطفى ﷺ حالَ الإنسان وشأن الشهوات في الحديث التالي بشكل واضح حتى أن العاقل يكفيه هذا الحديث فقط للنجاة من شرور النفس، فقال ﷺ:
"لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء، فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها،
ـ أي طمع في دخولها وجاهد في حصولها، (مرقاة المفاتيح: 10/361)
ثم حفها بالمكاره ـ
أي لا تحصل الجنة إلا بالتحمل على المكاره أي التكاليف الشرعية التي هي مكروهة على النفوس الإنسانية (مرقاة المفاتيح: 10/361، بتصرف) ـ
ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد" قال:" فلما خلق الله النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، ـ
أي لا يسمع بها أحد إلا فزع منها واحترز (مرقاة المفاتيح: 9/3630)
ـ فحفها بالشهوات ـ
أي لا ينجى من النار إلا بترك الشهوات المحرمة (عمدة القاري: 23/78 بتصرف) ـ
ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي رب وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها. [ سنن أبي داوود، كتاب السنة، باب في خلق الجنة والنار، 4/312، (4744) ]
الدرس المستفاد من الحديث أنّ الله تعالى جعل دخول الجنة مشروطًا باجتناب الشهوات، وكذلك النجاة من النار مشروط بالابتعاد عنها، فالنجاح عند الله هو في تطهير النفس من القبائح والرذائل وأما دسّ النفس في المعاصي، وإطلاق العنان لها في شهواتها فهو طريق الهلاك والخسران.
وقد أوضح الله سبحانه وتعالى ذلك في موضع واحد هكذا فقال:
فَأَمَّا مَن طَغَىٰ ٣٧ وَءَاثَرَ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا ٣٨ فَإِنَّ ٱلۡجَحِيمَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ ٣٩ وَأَمَّا مَنۡ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِۦ وَنَهَى ٱلنَّفۡسَ عَنِ ٱلۡهَوَىٰ ٤٠ فَإِنَّ ٱلۡجَنَّةَ هِيَ ٱلۡمَأۡوَىٰ ٤١ [النازعات: 37-41].
يعني: من عتا وتمرّد وجاوز الحدّ في العصيان وفضّل الحياة الدنيا على الآخرة وصار كالعبد لشهواته فإن الجحيم هي مأواه ومرجعه، وأمَّا مَنْ خاف القيام بين يدي ربه للحساب وكفّ نفسه عن اتباع ما تهواه مما حرّمه الله فإن الجنّة هي مستقرّه ومسكنه.
كيفية تطهير النفس من الرذائل:
وتبيّن من الآية السابقة أن تطهير النفس من الرذائل لا يكون إلا بالمجاهدة وهي مخالفة ما تهواه النفس، فأكثر شهوات النفس مذمومة، ويجب كفها عنها حتى تعتاد النفس على تركها فتصبح طاعة الله وطاعة رسوله ﷺ عملًا مفضلًا لها، وبهذا يكمل الإيمان، ويحصل الفوز في الآخرة.
قال رسول الله ﷺ:
«لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ». (السنة لابن أبي عاصم، 1/12، (15)، المكتب الإسلامي بيروت)
وقال تعالى:
وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَيَخۡشَ ٱللَّهَ وَيَتَّقۡهِ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ ٥٢ [النور: 52].
إن التزام العبادات هو شكل من أشكال قمع النفس وقهرها، فإن تهرب النفس من الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من العبادات، وحين يتم إلزامها بالعبادات باستخدام المجاهدة والقوة الإرادية فإن النفس تُقْهِر وتصبح مطيعة، فمن الطرق الصحيحة لقمع النفس إلزامها بكثرة العبادات.
أخيرًا! نسأل الله تعالى أن يوفقنا للاحتراز من اتباع الهوى وللعمل بأوامر القرآن والسنة. آمين بجاه النبي الأمين ﷺ.
تعليقات