مدونات مختارة
الأكثر شهرة
العمل بالعلم بين أهل الفقه والتصوف | الشيخ طارق المحمد
من أهم أسرار أهل التصوف في إقبال أهل الإيمان عليهم هو مخاطبتهم للقلوب، ومناداتهم أهل الإيمان بالحرص على الإخلاص والعمل، فإذا كان الإخلاص سرًّا من أسرار الله يضعه في قلوب عباده المخلصين، فإن من دواعي الإخلاص انجذاب أهل الصفاء إليه، وشبه الشيء منجذب إليه، ولذلك قال بعضهم: سرّ الخصومة بين أهل الفقه وأهل التصوف هو "التنافس على النجاح بين الجماهير"، "فإن الجهل هو الذي يُحرِّك الخصومة"، هذه العبارة الأخيرة هي من كلام الإمام الشعراني رحمه الله تعالى (التصوف الإسلامي والإمام الشعراني لطه عبد الباقي سرور: صـ 135) ، فإنه حصل للمدارس العلمية جمود وانحدار؛ بعد أن كانت متّقدة بالروح والنور سنين متعاقبة، وحصل ذلك له حين عكف أهل العلم على شرح المتون والحواشي التي هي علمٌ موروث تُحفظ به الشريعة في ظاهرها ولا يذم هذا أبدًا إلا إن كان المقصود منه مجرّد الثقافة أو تحصيل العلم والإجازة، فإن العلم موضوع للعمل ورفع الجهل؛ ليكون العمل صحيحًا، وروح العلم: العمل به والإخلاص فيه، ولهذا غلب على بعض تلك المدارس في حقبة من الزمن ركود روحي، وجمود معنوي، فتحول أهل العلم فيه إلى الجدل والفلسفة وكتابة الردود، أو كتابة الحواشي وتدريسها، واكتفوا بالشرح والإعراب، ودراسة أوجه القراءات القرآنية، وافتراضات الفقهاء الشرعية وحِيلها.
في هذا الظرف المضطرب برزَ الإمام عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى كعالمٍ ربّاني وعارف بحيل النفس، وتوجيه العلماء والعوام لجوهر الدين وروحه، كيف لا وهو العالم الذي تربّى على أيدي أهل القلوب والعارفين من أهل زمانه، واشتهر أخذه عنهم بالحال والقال، ولم يكن كهؤلاء الذين اكتفوا بالسطور وحفظ المتون أو شرحها، فصار يقرع أسماعهم ويهاجمهم، لأجل بعدهم عن التزكية والأخلاق الدينية، وإن كان كثيرًا منهم وإن تحلّى بالعلم، إلا أنَّ تغافلهم عن فضائل النفس وطهارة القلب، يفرّغ الدين من غايته، فأراد بدعوته أن يعيدهم إلى غاية العلم، تمامًا كما فعل الإمام الغزالي رحمه الله في إحيائه حين كتبه في عصر الفلسفة والجدل وقلة العمل، لذلك كان دائمًا يذكر هؤلاء بالآية القرآنية:
مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوۡرَىٰةَ ثُمَّ لَمۡ يَحۡمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلۡحِمَارِ يَحۡمِلُ أَسۡفَارَۢاۚ بِئۡسَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِٔايَٰتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ [الجمعة: 5]
وبناء على هذا صار قال الإمام الشعراني بكل صراحة وجرأة:
"فالمتصوّفة علموا أن المراد من العلم وتلاوة القرآنِ "الاتعاظُ والزجرُ والتخويفُ"، وأنهم يُسألون عن كل مسألة علموها ولم يعملوا بها، ولذلك كان أهل الله غائبين عما يقصده غالب القراء بقراءتهم؛ لما هم فيه من الخشوع عند التلاوة، فلم يبق متسعٌ لسواه، فلم يشغلوا أنفسهم بالقراءات والاختلاف فيها؛ لأن فيها يضيع العمر، والاتعاظ يحصل برواية أبي عمرو مثلًا، ولم يقدر كي لم يشغل أحد من السلف بأن يقرأ بجميع هذه الروايات، فرقة تمد، وفرقة تفخم، وفرقة ترقق، وغير ذلك من وجوه الأداء الذي برع فيه رجال المدارس العلمية، بل كانوا علماء لله، وبالله عاملين صائمين قائمين زاهدين خائفين، لم يصرفوا حياتهم في علم القراءات ووجوهها، وإنما اتجهوا بقلوبهم إلى ما في القرآن من مواعظ وتهديدات وتخويفات وآيات بينات" (الأنوار القدسية في آداب العبودية: صـ 93).
ثم ضرب الإمام الشعراني رحمه الله لذلك مثلاً في غاية الأهمية ينبغي أن نتأمله ونتدبره:
«كالذي أرسل إليه السلطان كتابًا يأمره وينهاه بأمور كثيرة، فأخذه وقبَّله وصار يدرس ألفاظه ليلًا ونهارًا بالمد والإمالة والتفخيم والترقيق، ثم أرسل إليه السلطان ينظر ما فعل في الأوامر والنواهي، فوجده لم يفعل شيئًا منها وهو على هذه الحالة، فهل هذا مراد السلطان؟ وهل هذا فعل من له قلب أو عقل؟»
ثم نبّه رحمه الله متهكّمًا على من جمُد على المعلومات جمودًا أقعده عن العمل فقال:
«وهل يقول للملكين في القبر وللزبانية على جهنم: دعوه لأنه كان يحفظ أبواب المعاملات، أو يحفظ أبواب الفقه والنحو والأصول على ظهر قلبه، أو يقرأ بالمد والإمالة والتفخيم والترقيق؟ كلَّا والله، لا يكرم بشيء من ذلك، إنما يكرم بالتقوى والعمل الصالح ومعرفة الله تعالى، وكف الأذى عن جميع الأنام، ومن شك في ذلك فسيراه يقينًا» (الأنوار القدسية في آداب العبودية: صـ ٩٧).
ولأجل هذا صار كثير من علماء زمان الشعراني رحمه الله إلى قسمين:
الأول يناصره ويؤيده، ويدعو بدعوته، والثاني يلاحقه ويعاديه فجاءه الأذى والدس عليه من ورائهم، ونسبوا إليه الأباطيل الكاذبة، والتصقت به إلى يومنا هذا، وصار يتناقلها من لم يعرف حقيقة الأمر، فنسبوا أقواله المدسوسة للتصوف ليشوهوا مدرسة التصوف التي كانت ومازالت ناعية على كل من لم يعمل بعلمه أو كان غرضه من العلم "الدنيا وحشد الجماهير".
نعم إن قوله السابق: وهل يقولُ للملكين في القبر وللزبانية على جهنم: دعوهُ؛ لأنه كان يحفظ أبواب المعاملات...إلخ..، هذا ليس على إطلاقه! إذ لا عمل صالح إلا بعلم صحيح، وإخلاص مريح.
وقد بيّن العلماء أنه إذا صارت الأوامر والنواهي والمواعظ والتهديدات والترتيبات التي في القرآن يقرأها لمجرد القراءة والحروف وتعليمِ أو تعلّمِ مخارجها فحسب، وهو لا ينتفع بها ولا يأخذ بأوامرها ولا ينتهي بنواهيها، ولا يبالي بتوجيهات الشريعة، كالمحبوس يدقق على الرسوم وينظر متتبعًا للأخطاء، هذا الذي لا يقيم حروف القرآن، وذاك لا يُحسن التجويد، وآخر لا يعرف الحديث الصحيح من الضعيف والحسن من المردود، ويقف عند هذه الحدود ولا يتجاوزها للعمل بما فيها من الحدود، ليظفر بما ترتب عليها من الوعود وذكر الودود، فهو وإن أحسن الجواب، وأجاد معرفة الفقه والأبواب، وعرف صحيح السنة والكتاب، فلا شكّ أنه المقصود بما جاء أصلاً في كتاب رب الأرباب ذمّاً للمؤمنين بطريق التوبيخ والعتاب:
يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ [الصفّ: 2]
وكلام الإمام الشعراني رحمه الله تعالى هو تنبيه لجميع المدارس العلمية، حين اكتفوا بالشرح والإعراب، وعكفوا على مسائل الكلام والإغراب، ويلتحق بهم في زماننا من انحرفوا عن العمل والإخلاص واكتفوا بتزويق جدرانهم بالإجازات، وحرصوا على موضة (الحرص) على العلم وقلوبهم خاوية من العمل؛ وقاسية من ذكر الله فثقُلت عليهم الأذكار، وصحبتهم الغفلة والوقيعة في أهل الذكر الذين انتسبوا إلى الله بذكرهم، فإن صح أنهم انتسبوا للعلم فأين هم من "الخشية"؟ والعلم الممدوح في الشريعة هو ما قارنته "الخشية"، وزادت مع زيادته الخشية والتواضع، وكان بسببه الحرص على العمل، وليس هو ما يُرى على كثير ممن سار في ركب السطور، وعرف شيئًا من العلم وامتلأ قلبه بكثيرٍ من الغرور، فإنه قد بلغنا في كتاب ربنا أن المبلّغ للعلم موصوف بالخشية:
ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَٰلَٰتِ ٱللَّهِ وَيَخۡشَوۡنَهُۥ [الأحزاب: 39]
فمن بلّغ بلا خشية صار كالخشبة التي تزخرفت؛ جميلة في ظاهرها، وحقيقتها أنها مسنّدة صمّاء جامدة في باطنها، لذلك فمن جمّل ظاهره بالعلوم الظاهرة للشريعة فليجمّل باطنه بآدابها الباطنة، وليعلم كل عالم ومتعلم أن المنتدلِقة أقتابهم يوم القيامة كُثر، نسأل الله أن يحفظنا جميعًا من ذلك الحال الذي لا يُحمد عليه صاحبه، ونعوذ بالله من أن نكون أوّل من تسعّر فيهم النار، والمقصود والله أعلم لزوم الدراسة والحفظ الذي يقود للعمل فمن درس وانحرف عن الذكر والعمل فهو ممقوت ولو حوى فنون العلم؛ وخصوصًا إذا كان ممن يكثر علمه ويقلّ عمله ويَكبُر في نفسه "صنم العلم" ويَصغُر في قلبه أهمية العمل والذكر، ويحتقر غيره، فهذا علمه وبال عليه وعلى غيره، وهذا ما نبه إليه الإمام الشعراني رحمه الله تعالى في عامة كتبه ولذلك فإن الإمام الشعراني رحمه الله تعالى كان سيفًا قارعًا على فقهاء السطور ليكسر لهم صنم العلم والغرور، وينصحهم بالعمل مع العلم، ولذلك دسّ عليه الحاسدون والمتنطّعون الكثير من الأكاذيب في كتبه وأقواله حتى طاله الدس في حياته، نسأل الله أن يحفظنا وإياكم وأن ينفعنا بوصاياهم وإرشاداتهم.
تنبيه آخر
ثم يَحسُن هنا تنبيه آخر لكل نبيه يرجو الله واليوم الآخر، أن يحذر الوقوع أو التطاول على أهل الذكر من الأكابر أو الأصاغر، فإن الوقيعة بهم مضرة بالمتطاول المسكين، وتطال من يقع فيهم بسوء الظن أو سوء النقد والكلام فهم مقبلون على الله في أحوالهم فليتنبه هذا إلى ما ينقله الصالحون ومنه ما نقله الإمام الشعراني عن الشيخ أبو عبد الله القرشي أحد الرجال الأكابر من أولياء مصر رحمهما الله يقول:
* من وقع في عرض وليٍّ لله عز وجل ضُرب بسهم مسموم في قلبه ولم يمت حتى تفسد عقيدته.
* وينقل عنه أيضًا أنه قال: إنهم قوم انتسبوا إلى الله تعالى.
* ومن أقواله: ما رأينا أحدًا قط أنكر على الفقراء يعني أهل التصوف وأساء بهم الظن إلا ومات على أسوأ حال.
* وكان رضي الله عنه يقول: احتقار الفقراء سبب لارتكاب الرذائل يقصد احتقار (المريدين من أهل التصوف) وهو نوع من احتقار المؤمنين. ويؤيد هذا قول الله تعالى في الحديث القدسي الصحيح:
"من عادى لي فقد آذنته بالحرب" (صحيح البخاري: 6137)
فليتأمل ذلك المؤمن وليحذر من الوقيعة والقطيعة والله حسيب كل إنسان (انتهى من بتصرف يسير من الأخلاق المتبولية: 1/109 وما بعد).
يقول سيدي ابن عطاء الله السكندري رحمه الله تعالى: "العلم إن قارنته الخشية فلك، وإلا فعليك" (الحكم العطائية: الحمكة الثالثة والثلاثون بعد المئتين).
* أي فلك أجره، وإلا فعليك وزره، وعلامة الخشية الإعراضُ عن الدنيا، وقلةُ المبالاة بالخلق إقبالاً وإدبارًا، فكل علم لا خشية معه لا خير فيه (شرح الحكم العطائية المسمى بـ"الهُدى للإنسان إلى الكريم المنان: صـ 203).
* ويقول سيدي ابن عجيبة رحمه الله في إيقاظ الهمم:
قلت: لأن العلم الذي تصحبه الخشية يمنع صاحبه من الغفلة وأسبابها، ويزهده في كل ما يشغل عن العمل به، ويرغبه في كل ما يقربه إلى ربه فيكون عونًا له على الوصول إلى معرفة الله، والقريب من ساحة رضاه، فإن لم تقارنه الخشية كان وبالاً عليه؛ لأنه حينئذ حجة عليه؛ لأن المعصية مع العلم أقبح من المعصية مع الجهل..
* وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رحمه الله: العلم كالدنانير والدراهم إن شاء الله نفعك بها، وإن شاء ضرك بها (إيقاظ الهمم في شرح الحكم: صـ 485).
* وقال في "لطائف المنن": فشاهد العلم الذي هو مطلوب الله تعالى من عباده "الخشية لله"، وشاهد الخشية موافقة الأمر.
أما علمٌ تكون معه الرغبة في الدنيا والتملق لأربابها وصرف الهمة لاكتسابها والجمع والادخار والمباهاة والاستكبار وطول الأمل ونسيان الآخرة، فما أبعد من هذا علمه من أن يكون من ورثة الأنبياء عليهم السلام، وهل ينتقل الشيء الموروث إلى الوارث إلا بالصفة التي كان بها عند الموروث! ومثل من هذه الأوصاف أوصافه من العلماء، كمثل الشمعة تضيء على غيرها وهي تحرق نفسها، جعل الله العلم الذي علمه من هذا وصفه، حجة عليه وسبباً في تكثير العقوبة لديه. اه (غيث المواهب العلية: صـ 276).
* وقال العلامة الشيخ سيدي أحمد زروق رحمه الله تعالى: وفيه إشعار بأن العالم غير المتقي ليس بوارث، وفيه نظر لأن إفساد الموروث والعمل به في غير حق لا يخرج عن كون الوارث وارثاً والعقوق لا ينفي النسب، لكن يقال فيه وارث سوء، وقد أثبت الله العلم لمن لا يخشاه وما نفاه عمّن لم يخشه. اه
* قلت: وقد يقال الموروث عن الأنبياء هو غاية العلم وثمرته، وهي الخشية والمعرفة به، لا مجرد الرسوم لأن ذلك واسطة فإذا لم يحصل الموسوط فلا عبرة بالواسطة.
فإذا لا وراثة لعالم الرسوم إذ ليست مقصودة بالذات وقد كان الشيخ الولي الكبير ابن أبي جمرة يقول في علماء وقته: إنما هم معلمون يعني أنهم محترفون بحرفة العلم فهم صناع وليسوا بعلماء والله تعالى أعلم.
* وقد أشبع الشيخ ابن عباد الكلام في هذا الموضع فليطالعه من أراد تخليص نفسه من حجة العلم، وبالله تعالى التوفيق (مختصرًا من إيقاظ الهمم: صـ 485 وما بعدها).
نسأل الله أن يلهمنا العمل مع العمل وأن يكرمنا بالإخلاص في القول والعمل وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه سميع مجيب والحمد لله رب العالمين.
تعليقات