مدونات مختارة
الأكثر شهرة
صحابي جليل من أهل فلسطين | محمد جنيد القادري
في زمن كانت فيه الرحلات البحرية محفوفة بالمخاطر، انطلق تاجر من بلاد الشام في رحلة بحرية بصحبة ثلاثين من رفاقه، لكن سرعان ما انقلبت رحلتهم إلى مأساة بحرية، حين عصفت بهم الأمواج الهائجة، فظلوا تائهين في وسط البحر شهرًا كاملًا، حتى دفعتهم الرياح إلى جزيرة نائية وغريبة.
حيث واجهوا مشهدًا مروّعًا ومهولاً، إذْ وجدوا رجلاً مكبلًا بالسلاسل، فسألوه، وكشف لهم عن حقيقته بأنه هو المسيح الدجال، ذاك الذي وصفه النبي ﷺ بأعظم فتنة عرفها التاريخ، حيث قال:
"مَا بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، أَمْرٌ أَكْبَرُ -أي فتنة أكبر- مِنَ الدَّجَّالِ". (مسند أحمد: 16253)
عاد التاجر من تلك الرحلة المذهلة بقلبٍ موقن، وفي السنة التاسعة للهجرة قدم على رسول الله ﷺ في المدينة، فروى له القصة العجيبة، فصدّقه النبي ﷺ، فكان ذلك من دلائل نبوته، فأعلن التاجر إسلامه مع عشرة من قومه.. (صحيح مسلم: 2942)
هل عرفتَ -أخي القارئ- من هذا التاجر الذي وقعت له هذه القصة؟
إنه الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري رضي الله تعالى عنه.
مولده ونشأته وتفانيه في العبادة:
وُلد الصحابي الجليل سيدنا تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، في فلسطين ونشأ في قبيلة لخم، وكان يُعرف قبل إسلامه برهبانيته وورعه، حتى عُدّ من كبار العُبّاد في فلسطين، (معرفة الصحابة لأبي نعيم: 1/448)
وبعد أن تنوّر بالإيمان قلبه، ازداد صلاحًا وزهدًا، حتى صار من عبّاد الصحابة وزهّادهم، فكان لا يمرّ عليه أسبوع إلا وختم فيه القرآن الكريم، (الجزء المتمم لطبقات ابن سعد: 336) بل أحيانًا يختمه في ركعة واحدة، (مصنف ابن أبي شيبة 3691)
ولشدّة خشيته، فقد ورد أنه قضى ليلة كاملة في الصلاة وهو يبكي ويردّد آية واحدة من سورة الجاثية:
أَمۡ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجۡتَرَحُواْ ٱلسَّيِّـَٔاتِ أَن نَّجۡعَلَهُمۡ كَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ سَوَآءٗ مَّحۡيَاهُمۡ وَمَمَاتُهُمۡۚ سَآءَ مَا يَحۡكُمُونَ ٢١ [الجاثية] (الإصابة في تمييز الصحابة: 1/488)
وذات ليلة فاته قيام الليل، فعاقب نفسه بقيام سنةٍ كاملة لم ينم فيها.. (سير أعلام النبلاء 2/445)
زواجه وذريته:
تزوّج تميم الداري رضي الله عنه بعد إسلامه مرتين؛ الأولى: من أم فروة، أخت الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، (المعارف لابن قتيبة: 168)
والثانية: من أم المغيرة القرشية، التي زوّجه إياها النبي ﷺ بنفسه، تكريمًا له على إسراجه المسجد النبوي الشريف، (أسد الغابة: 5719)
لم يُرزق تميم بأبناء من الذكور، وإنما كانت له ابنة واحدة اسمها: رُقيّة، ولذلك كان يُكنى بـ أبي رُقيّة. (الاستيعاب في معرفة الأصحاب: 1/193)
قصة إقطاع النبي ﷺ له أرضًا بفلسطين:
طلب سيدنا تميم بعد إسلامه من النبي ﷺ أن يمنحه هو وقومه أرضًا في فلسطين، فاستجاب له ﷺ، وكتب لهم كتابًا نبويًا يُقطِعهم فيه أراضي شاسعة تشمل بلد سيدنا الخليل وما حولها، وقد ورد في الروايات الموثوقة أن هذه الأراضي شملت: حبرون، وبيت إبراهيم، وبيت عينون، والمرطوم، وصهيون، وبيت لحم، وغيرها من قرى تلك الديار المباركة.
وتواترت الأخبار بهذه القصة منذ العصور الأولى، وذكرها المؤرخون في القرون المتأخرة ممن عاينوا الوثائق والتقوا بأعقاب سيدنا تميم في ديار الخليل، وأثبتوا حقهم الموروث في هذه المنحة النبوية الشريفة وتتفق الروايات في مضمونها مع اختلاف يسير لا يغيّر من حقيقتها شيئًا، مما يزيد من قيمة هذا الإقطاع علميًا وتاريخيًا، وقد جاء في إحدى الروايات نص الإقطاع كالتالي:
"بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم هَذَا مَا أنطاه -أي أعطاه- مُحَمَّد رَسُول الله ﷺ لتميم الدَّارِيّ وإخوته: حبرون والمرطوم وَبَيت عينون وَبَيت إبراهيم وَمَا فِيهِنَّ، نطية -عطية- بت بَينهم ونفذت وسلمت ذَلِك لَهُم ولأعقابهم فَمن آذاهم آذاه الله، فَمن آذاهم لَعنه الله، شهد عَتيق ابْن أبي قُحَافَة وَعمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان وَكتب عَليّ بن أبي طَالب وَشهد". (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: 2/82)
وفي رواية أخرى، جاء مكتوبٌ من رسول الله ﷺ لأخي تميم، نعيم بن أوس رضي الله عنهما، جاء فيه:
"أنَّ له حبرى وعينون بالشام قريتها كلها سهلها وجبلها وماءها وحرثها وأنباطها وبقرها، ولعقبه من بعده، لا يُحاقّه فيها أحد، ولا يلِجُه عليهم بظلم، ومن ظلمهم وأخذ منهم شيئًا فإنّ عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". (الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/204)
وبعد فتح بيت المقدس في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قام بتسليم الأرض إلى سيدنا تميم وأخيه كما أمرَ بذلك النبي ﷺ، (سير أعلام النبلاء: 4/75)
واستمرّ هذا الوقف النبوي في يد أعقابه من آل تميم حتى مرّ العصور، ينتفعون به ويورثونه جيلًا بعد جيل.
ومع مرور الزمن، حاول بعض الولاة سلب هذا الوقف، فرُفِعَ الأمر إلى قاضي القدس في ذلك الوقت، أبو حاتم الهروي الحنفي، فاحتجّ الداريّون بالكتاب، لكنه اعترض قائلاً: "هذا الكتاب ليس بلازم، لأن النبي ﷺ أقطع تميمًا ما لم يملك" فاستفتى الوالي الفقهاء، وكان الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى في بيت المقدس، فأفتى بأنّ: "هذا القاضي كافر، فإن النبي ﷺ قال: (زويت لي الأرض كلها) وكان يقطع في الجنة فيقول: قصر كذا لفلان، فوعده صدق وعطاؤه حق"، فخزي القاضي والوالي وثبت الحق لأهله، وبقيت الأرض وقفًا في يد آل تميم. (الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل: 2/82)
وجاء في سيرة الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك أنه كان إذا مرَّ بها -أي بأراضي آل تميم- لم يُعرَّج ويقول: "أخاف أن تمسَّني دعوة رسول الله ﷺ" (معجم ما استعجم: 420)
فهو يتجنب المرور بأرض الوقف لئلَّا يتعرض لأصحابه الداريّين بالإيذاء، فأراضي هذا الوقف النبوي هي أمانة نبوية محفوظة، وميراثٌ موصول بأعقاب سيدنا تميم حتى اليوم، ومن يعتدي عليها بغير حق، تمسّه دعوة النبي ﷺ، ويكدر الله عليه دنياه، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
ملامح شخصيته البارزة:
ومن أبرز ملامح شخصيته أنه:
- أول من أسلم من أهل فلسطين، وأول من أسرج سراجًا في المساجد، (سنن ابن ماجه: 760) وأول من صنع المنبر لرسول الله ﷺ. (سنن أبي داود: 1081)
- وكان يُهدي إلى رسول الله ﷺ بين الحين والآخر، ومن هداياه فرس أصيل يُقال له: "الورد"، (الطبقات الكبرى لابن سعد: 1/380) كما أهدى له يومًا زبيبًا، (العقد الفريد: 7/301) تعبيرًا عن محبته العميقة للنبي الكريم ﷺ.
- وكان من أولئك الصحابة الذين جمعوا القرآن الكريم، (سير أعلام النبلاء: 2/445) وقد حفظه وأتقنه حتى صار من أبرز قرّائه المعروفين بينهم، ولتميّزه في القراءة، اختاره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إمامًا لصلاة التراويح في مسجد رسول الله ﷺ. (مصنف عبد الرزاق: 7730)
- وكان يعظ الناس ويقصّ عليهم في مسجد النبي ﷺ؛ يومين في الأسبوع في خلافة سيدنا عمر، ثم ثلاثة أيام في خلافة سيدنا عثمان رضي الله عنهما. (مصنف عبد الرزاق: 5400)
- وكان يهتمّ بالعبادة اهتمامًا كبيرًا، فيتجهّز لها بكل عناية، فكان إذا قام من الليل بدأ بسواكه، وتطيّب بأزكى الطيب، وارتدى حُلّة لا يلبسها إلا في تهجّده، بل اشترى حُلّة بألف درهم ليصلي بها، وأخرى بأربعة آلاف درهم خصّ بها ليالي الوتر من العشر الأواخر من رمضان. (التهجد وقيام الليل لابن أبي الدنيا: 97)
- وكان مضرب المثل في الكرم، فما إن ينتهي من صلاة المغرب حتى يأخذ بيد مَن بجواره – يمينًا أو شمالًا – ويدعوه إلى بيته، فيُكرمه بأصناف الطعام، ويُحسن ضيافته بتواضع وسخاء. (الزهد لأبي داود: 380)
- وقد تولّى إمارة بيت المقدس بعد فتح بلاد الشام، (المعجم الكبير للطبراني: 1254) فجمع بين شرف الحصول على عطايا النبي ﷺ ورفعة القيادة في أرض الإسراء.
- وتفرّد برواية حديث الجسّاسة، حيث روى عنه النبي ﷺ قائلاً: "حدثني تميم الداري"، مما يُعدّ من شرفه وعلو مكانته، وله من الكرامات ما يدل على مكانته الرفيعة بين الصالحين.
وفاته ومدفنه:
أقام سيدنا تميم في المدينة المنورة خلال عهد الخلفاء الراشدين الثلاثة: أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وبعد استشهاد سيدنا عثمان، رحل إلى أرض فلسطين، حيث أمضى ما تبقَّى من عمره المبارك هناك، (الطبقات الكبرى لابن سعد: 7/286)
وتوفي سنة 40 من الهجرة، ودُفن في قرية بيت جبرين التابعة لقضاء الخليل، (الوافي بالوفيات للصفدي: 10/252)
ومقامه معروف هناك، وقد اشتهرت أعقابه من بعده بلقب: "الداريّين"، ثم "التميميّين"، وتوزّعوا في مدينة الخليل ونابلس وغيرها من مدن وقرى فلسطين.
نسأل الله تعالى أن يتغمّده بواسع رحمته، ويجزيه عنا خير الجزاء، ويحفظ ذريته من المسلمين في الأرض المباركة، ويجمعنا به في جنات النعيم، في صحبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا، كما نسأله سبحانه أن يردّ الحق إلى أهله، ويُعيد أرض فلسطين المباركة لأهلها، ويحفظ بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، والمسجد الأقصى وبلاد الشام، ويعيد إلى الأمة عزها ومجدها وسلطانها، إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
تعليقات