ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله ومنهج كتابه | الأستاذ عبد الواحد الحنفي


نشرت: يوم الثلاثاء،29-يوليو-2025

ترجمة الإمام الطحاوي رحمه الله ومنهج كتابه

هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18

في تاريخ الإسلام لمعَت أسماء أهل العلم نذروا أنفسهم لخدمة الشريعة، فخلّدهم التاريخ بمداد الفضل والتقوى، ومن بين أولئك الأعلام يبرز اسمٌ لا يُذكَر الفقه والحديث إلا يقترنان به إجلالًا وتعظيمًا، إذْ هو علمٌ بارز، جمع بين الرواية والدراية، وفاق أقرانه علمًا وورعًا، حتى صار مرجعًا للأئمة، ومحلّ اتفاق بين العلماء على إمامته وتميّزه.

تلك الشخصية العظيمة التي أُقِرَّ لها بالتميّز في واحة علم الحديث والفقه معًا، ووُصِفَتْ بعلمها لجميع مذاهب الفقهاء، ولم يكن لها نظير في عصرها في العلم وإمامة الفقه الحنفي (الحاوي: صـ 12-13، بتصرف)

هي شخصية عظيمة من القرن الثالث الهجري: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي، رحمه الله الهادي.

نشأته وبداياته: وُلِد الإمام الطحاوي رحمه الله في قرية طحا التابعة لمحافظة المنيا في صعيد مصر الأعلى، سنة 239 هـ (سير أعلام النبلاء: 11/505)،

وتلقّى تعليمه الأوّلي في مصر، ثم سافر إلى الشام ليروي ظمأه العلمي، فأخذ عن كبار علماء زمانه حتى بلغ من العلم والزهد منزلةً رفيعةً، فصار محلّ تقدير السلاطين والعامة والخاصة جميعًا.

كان جريئًا في قول الحق ولا يخشى في ذلك لومة لائم، كما كان نائبًا عن القاضي أبي عبد الله محمد بن عبدة. (تذكرة الحفاظ: 2/22).

تحوّله المذهبي: كان في بداياته على مذهب الإمام الشافعي، وتلقّى العلم عن خاله الإمام الكبير إبراهيم بن يحيى الْمُزَني رحمه الله الكافي، أحد أعلام المذهب الشافعي، لكنه لاحظ أن خاله –رغم مكانته العلمية الكبيرة في الفقه الشافعي– كان كثيرًا ما يرجع إلى كتب الإمام الأعظم أبي حنيفة رحمه الله، فترك المذهب الشافعي وانتقل إلى المذهب الحنفي. (الحاوي: صـ 17، بتصرف).

وهذا هو السبب الذي يليق بمقام هذا الإمام العظيم، فقد اختار المذهب الحنفي لما وجده فيه من قوة في منهج الاستنباط، ومتانة في الدليل. (الطبقات السنية في تراجم الحنفية: 2/51).

وفاته: بعد حياةٍ مليئةٍ بالعلم والعمل دامت 82 عامًا، توفي الإمام الطحاوي رحمه الله الهادي في أول ذي القعدة سنة 321 هـ (المنتظم: 13/318).

ويقع ضريحه المبارك في العاصمة المصرية القاهرة، في مقبرة القرافة الكُبرى، في شارع الإمام الليث، داخل قبة قديمة، جعلنا الله ممن ينال شفاعة العلماء، وأدخلنا في بركاتهم التي لا تُعد ولا تُحصى.

مؤلفاته: ذكر المترجمون أن له نحو ثلاثين مؤلفًا، من أشهرها: شرح معاني الآثار والعقيدة الطحاوية، وقد نالا شهرة عالمية.

ومن مؤلفاته الأخرى: اختلاف العلماء، الشروط، وأحكام القرآن (سير أعلام النبلاء: 11/516).

أما كتابه "شرح معاني الآثار"، فهي أولى مصنفاته، وهي في ظاهرها كتاب حديث، لكنها تجمع بين علوم الحديث والفقه وعلم الرجال بأسلوب رصين متقن، وكان الغرض منها ليس مجرد جمع الأحاديث، بل نصرة المذهب الحنفي، وبيان أن مواقف الإمام أبي حنيفة في المسائل الشرعية لا تخالف السنة، وأن ما يُظَنُّ مخالفته له إما مؤوَّل أو منسوخ.

بعض شروح هذا الكتاب والحواشي والتعليقات:

- نخب الأفكار - مباني الأخبار - مغاني الأخيار هذه ثلاث شروحات للعلامة العيني

- الإيثار في رجال معاني الآثار لقاسم بن قطلوبغا

- تصحيح معاني الآثار لمحمّد الباهلي

- تعليقات الإمام أحمد رضا خان الهندي الماتريدي

- حاشية المحدث وصي أحمد السورتي

- كشف الأستار لأمجد علي الأعظمي

- كشف الأستار لأبي تراب رشد الله شاه السندي

- الحاوي في بيان آثار الطحاوي للعلامة عبد القادر القرشي رحمهم الله تعالى

- حاشية "مباني الأبرار" لمركز البحوث والدراسات الإسلامية

منهج مركز البحوث والدراسات الإسلامية في تحقيق كتاب "شرح معاني الآثار":

في إطار عنايته بإحياء كنوز التراث الإسلامي، ووفاءً لعطاء أئمة أهل السنة والجماعة، قام "مركز البحوث والدراسات الإسلامية بالمدينة العلمية" بخدمة كتاب "شرح معاني الآثار" للإمام الطحاوي رحمه الله تحقيقًا علميًا يتّسم بالضبط والدقة والمنهجية الرصينة.

وقد استند مركز البحوث والدراسات الإسلامية بالمدينة العلمية"(عمل عليه الأستاذ ابن داوود عبد الواحد الحنفي صاحب الحواشي والشروحات على الكتب النحوية والبلاغية.) في تحقيقه إلى نسخ خطية نادرة، مع مراجعة ما طُبع سابقًا من نسخ، ومقارنة الألفاظ، وضبط النصوص، وإخراج الأحاديث، مع العناية باللغة والفقه وعلم الرجال، مما يعكس حرص المحقق على تقديم عمل علمي يليق بمقام الإمام الطحاوي وكتابه العظيم، وأضاف المركز فهارس علمية دقيقة، وضبط المسائل الفقهية، وبيّن الوجوه المختلفة في فهم النصوص، وحرص على مراعاة لغة المؤلف الأصلية دون إخلال، مما يجعل هذه الطبعة مرجعًا متميّزًا للباحثين والمدرسين على حدّ سواء.

ومن أبرز ما اعتمد عليه المحقق من الشروحات والحواشي خلال عمله:

- نخب الأفكار للعلامة العيني

- كشف الأستار لأمجد علي الأعظمي

- حاشية المحدث وصي أحمد السورتي

- تعليقات الإمام أحمد رضا خان الهندي الماتريدي رحمهم الله تعالى، وغيرها من المصنفات الفقهية والحديثية المعتمدة.

مكانة ومنهج الإمام الطحاوي رحمه الله في هذا الكتاب:

إن كتاب "شرح معاني الآثار" من أعظم دواوين الإسلام وأنفسها، وأكثرها فائدة ونفعًا، وقد تضمن مزايا عديدة، وفوائد فريدة يجدها من يمعن النظر فيه، وأذكر هنا بعضًا منها:

1 - إنّ من أعظم النفع وأوقع الأمر أنّ الإمام أبا جعفر الطحاوي رَحِمَهُ اللهُ الْقَوِي أورد وأخرج الأخبار والآثار في هذا الكتاب بأسانيد نفسه.

2 - وقد صرح الإمام الطحاوي في مقدمته سبب تأليفه للكتاب، وحاصله أنه يذكر فيه الآثار المأثورة عن رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الأحكام ويُبيّن الناسخ منها والمنسوخ، وما يجب به العمل مما يشهد له الكتاب الكريم والسنة المُجْمَع عليها؛ ليندفع بذلك توهم أهل الإلحاد والضعفاء من أهل الإسلام أن بعضها ينقض بعضًا، فهو يذكر فيه الناسخ والمنسوخ، وتأويلات العلماء، واحتجاج بعضهم على بعض، ويقيم الحجة لمن صح عنده قوله بكتاب أو سنة أو إجماع أو تواتر أقاويل الصحابة وتابعيهم.

3 - رتب الطحاوي مصنفه هذا على الكتب والأبواب الفقهيّة، وأكثرَ من سرد أسانيد الحديث المختلفة تحت الباب، وقد أشار بإيراد الحديث مع تعدّد الأسانيد إلى فوائد مهمة ونكت لطيفة تظهر للمحدث؛ منها ما يتعلق بالسند كوقوع الحديث في كتابه بسند قويّ وقد كان في غيره ضعيف السند، وزيادة الحديث قوة وقد كان في غيره قويًا، وكون الحديث فيه متصلاً أو مرفوعًا وقد كان في غيره منقطعًا أو مرسلًا أو موقوفًا، وتبيين نسبة من لم ينسب في غيره، وتسمية المبهم، وتمييز المشتبه، وتفسير المجمل، وبيان السبب واضطراب الراوي، ومنها ما يتعلّق بالمتن ككونه في كتابه مطوّلًا أو مفسَّرًا أو مقيدًا وقد كان في غيره مختصرًا أو مجملا أو مطلقا..

4 - إنه يترجم على مسائل الفقه ويورد الأحاديث ويُنبه على استنباطات عزيزة من الأحاديث لا يكاد ينتبه إليها، ويتلطف في استخراج مناسبات يورد فيها الأحاديث التي يتوهم القاري أنها ليست متعلقة بالمسألة التي عقد لها الباب، وهذا في كتابه كثير يظهر بالتتبع والتأمل كإيراده حديث: «المسلم لا ينجس، وحديث بول الأعرابي في باب المياه، وكإيراده أحاديث القراءة في الفجر في باب وقت الفجر.

5 - يشتمل هذا الكتاب القويم على كثير من الأحاديث المرفوعة، والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمة بعدهم وآرائهم في الفقه ما لا يوجد في غيره من الكتب حاشا "مصنف عبد الرزاق" و"مصنف ابن أبي شيبة".

6 - تراه بالعموم في كتابه هذا أنه يبدأ بعدة من الآثار والأدلة التي يذهب إليها المخالفون ويذكر المخالفين المتمسكين بها من الفقهاء والمحدثين بعنوان "قوم"، ثم يتبعها بالآثار المعارضة التي يراها هي أولى بالاتباع ويرجحها، ويذكر المستنبطين منها بعنوان "آخرون"، ثم يصرح في آخر الباب بأن هذا هو قول أبي حنيفة وأصحابه أو أحد منهم أو هذا خلاف قولهم، أما غير الأحناف فنادرًا ما يصرح بأسمائهم، ورأينا الطحاوي أنه يختار هو نفسه ما ذهب إليه الآخرون سواء كان منهم أبو حنيفة أو أحد أصحابه أو لا.

7 - قد اعتنى الطحاوي ببيان النظر الصحيح أي: الدليل العقلي في آخر كل باب تأييدا للقول الصحيح عنده، ويهتم أيضًا ببيان فساد النظر إذا كان الخصم يأتي به تقوية لمذهبه.

وبالجملة فهذا الكتاب خير كتاب في التفقّه وتعليم طرق التفقه وتنمية ملكة الفقه، فلو نظر فيه المنصف وتأمله لوجده راجحًا على كثير من كتب الحديث كسنن ابن ماجه وأبي داود وجامع الترمذي؛ وذلك لزيادة ما فيه من بيان وجوه الاستنباط وإظهار وجوه المعارضة وتمييز الناسخ من المنسوخ؛ فإنّ هذه هي الأصل والعمدة في معرفة الحديث، وأما سنن الدارقطني والدارمي والبيهقي ونحوها فلا يقاس قدرها بقدره.

آراء فحول العلماء في هذا الكتاب الجليل:

* قال العلّامة العيني رحمه الله تعالى في مقدمة مغاني الأخيار: إنّ الناظر فيه المنصف إذا تأمله يجده راجحًا على كثير من كتب الحديثالمشهورة المقبولة ويظهر له رجحانه بالتأمل في كلامه وترتيبه، ولا يشك في هذا إلا جاهل أو متعصب. (مقدمة المحقق لنخب الأفكار: 1/5).

* قال الإمام الذهبي في ترجمة هذا الإمام في سير الأعلام: من نظر في تواليف هذا الإمام علم محله من العلم وسعة المعرفة. (مقدمة المحقق لنخب الأفكار: 1/6).

* قال زاهد الكوثري من مصنفات الطحاوي الممتعة كتاب "معاني الآثار" في المحاكمة بين أدلة المسائل الخلافية، يسوق بسنده الأخبار التي يتمسك بها أهل الخلاف في تلك المسائل ويخرج من بحوثه بعد نقدها إسنادًا ومتنا رواية ونظرًا ما يقنع به الباحث المنصف المتبرئ من التقليد الأعمى، وليس لهذا الكتاب نظير في التفقيه وتعليم طرق التفقه وتنمية ملكة الفقه رغم أعراض من يعرض عنه.. (مقدمة المحقق لنخب الأفكار: 1/7).

أخيرًا!

فهذا هو الإمام الطحاوي، عَلَمُ الفقه والحديث، صاحب النظر الدقيق، والبيان المحكم، الذي ألّف كتاب شرح معاني الآثار ليُثبت أن مذهب الإمام أبي حنيفة لا يخالف السنة، بل هو متمسّك بها منضبط بأصولها.

وكتابه هذا، رغم مرور القرون، ما زال منارًا للباحثين، وديوانًا لا يُستغنى عنه في فهم الخلاف الفقهي واستنباط الأحكام.

نسأل الله تعالى أن يجزي الإمام الطحاوي رحمه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء، وأن ينفعنا بعلمه، ويجعلنا من خُدّام تراث العلماء، آمين يا رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية