رمضان شهر صناعة الرجال | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الأَربعاء،31-مارس-2021

رمضان شهر صناعة الرجال

بسم الله والحمد لله الأول والآخر
والصلاة والسلام على حبيبنا صاحب الكوثر الزاخر
ورضي الله عن أصحابه وأهل بيته ذوي المناقب والمفاخر أما بعد:

كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُصَلِّي ثُمَّ يَلْتَفِتُ إِلَى الشَّبَابِ فَيَقُولُ: «إِذَا لَمْ تُصَلُّوا الْيَوْمَ، فَمَتَى؟». (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ٧/ ٥٩) وكان العابد الزاهد مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يقول: «كَابَدْتُ نَفْسِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى اسْتَقَامَتْ». (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء ٣/ ١٤٧)

نداءٌ عاجل:

فِي كُلِّ سَنَةٍ يطرق الْآذَانَ الْمُؤْمِنَةَ صَوْتٌ رَخِيمٌ، ونداء عذْبٌ كريم، يخاطب الناس بالجدّ والإقبال، وترك الغفلة والانشغال، إنه نداء الرحمة والهمّة إِنَّهُ صَوْتُ الْإيمَانِ ذلك الصوت الذي يَنْبَعِثُ مَعَ غُرُوبِ آخِرِ شَفَقٍ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ، وَأَوَّل إِطْلَالَةٍ لِشَهْرِ رَمَضَانَ، مِنْ هُنَاكَ مِنْ بَيْن غَسَقِ الظَّلَامِ، يَشِعُّ هِلَاَل النُّورِ وَالْإيمَانِ، عَلَى أَهْلِ البِرِّ وَالْإِحْسَانِ.. يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ... وهذا النداء المؤمنون منه على يقين وإن لم يسمعوه لأن الذي أخبر به الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم كما في سنن الترمذي.

هكذا ينادي مُبَشِّرًا بِدُخُولِ شَهْرٍ هُوَ مَحَطَّةٌ بَيْنَ الشُّهُوْرِ، يَعْمَلُ فِيهَا الْمُقْبِلُ الطَّائِعُ، وَيَتُوبُ فِيهِ الْمُقَصِّرُ الضَّائِعُ، إنه شهر رمضان المعظّم وكأنه يقول للمقصّرين تعالواْ أقبلوا لربكم فالعبادة سهلة ميسورة ألا تعلموا أنني شَهْرٌ تَصَفَّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، وَتَفَتَّحَتْ فيه أَبْوَابُ الْجِنَانِ وَالنَّعِيْمِ، وَغُلِّقَتْ فيه أَبْوَابُ النِّيرَانِ وَالْجَحِيْمِ، فَأَقْبِلُوْا عَلَى شرَاءِ نصيبكم فِي جَنَّةِ اللهِ الرحيم، وَغَرْسِ أَشْجَارِ الصَّالِحَاتِ فِيهَا، لِتُعَمِّرُوا بُسْتَانَ آخِرَتِكُمْ فِي جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأرْضُ..

رمضان حديقة المقرّبين:

لا تقل كم بقي لرمضان، فالسنة عند المحبين كله رمضان، ولا تقل كم باقي على رمضان فأنت في عبادة ما دمت تستشعر زيادة الإيمان ببركة الصيام والقيام وحضور صلاة التراويح ، وإذا كنت تسأل عن رمضان فإن رمضاننا في طاعة الله ينقضي ورمضان الغافلين باللهو ينطوي.

ما أجمل الأيام التي يصنع فيها شهر رمضان الإيمان في قلوب أحبابه، فأولئك أهل رمضان وأهل الصيام والقيام، يتشوّقون لرمضان ويسألون عنه دائما ويقولون:متى رمضان وكم بقي لرمضان.. نعم.. يسألون لأنهم سمعوا حديث سيدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا حَضَرَهُ شَهْرُ رَمَضَانَ، قَالَ:

سُبْحَانَ اللَّهِ، مَاذَا تَسْتَقْبِلُونَ وَمَاذَا يَسْتَقْبِلُكُمْ؟، قَالَهَا ثَلاثًا، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَحْيٌ نَزَلَ، أَوْ عَدُوٌّ حَضَرَ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ لِكُلِّ أَهْلِ هَذِهِ الْقِبْلَةِ... (ورواه البيهقي في الشعب )

رمضان شهر صناعة الرجال:

يقاس رجال الدنيا بنجاحهم في أعمالهم ووظائفهم، وعلى قدر ذلك النجاح ينالون الشهرة بين أهل الدنيا، ولكنَّ أهل الآخرة إلى جانب نجاحهم في الدنيا يحرصون على الفلاح الأبدي بالتجارة مع رب الأرباب وخالق الأرض والسماوات جاء عن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْت عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْته يَقُولُ:

إنَّ الْقُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ يَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُك، فَيَقُولُ لَهُ: أَنَا صَاحِبُك الْقُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُك فِي الْهَوَاجِرِ وَأَسْهَرْت لَيْلَك، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّك الْيَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، قَالَ: فَيُعْطَى الْمُلْكَ بِيَمِينِهِ وَالْخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ، لَا يَقُومُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذَا؟ قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمَا: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا الْقُرْآنَ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجِ الْجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذَا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا. ( أخرجه الإمام أحمد)

هذا مشهد لصناعة الرجال وهي فرصة يهبها رمضاننا لكل مؤمن صادق،

وهكذا يجتمع لك أيها المحب في شهر رمضان جهادان للنفس:

  • جهاد بالنهار على الصيام
  • وجهاد بالليل على القيام

فمن جمع بينهما ووفّى بحقوقهما وصبر عليهما وُفِّيَ أجرُه بغير حساب وكان رجلاً صبغه شهر الصيام بصبغة الإيمان،جاء عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّهُ قَالَ:

يُنَادِي فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُنَادٍ: أَنَّ كُلَّ حَارِثٍ يُعْطَى بِحَرْثِهِ، وَيُزَادُ، غَيْرَ أَهْلِ الْقُرْآنِ وَالصِّيَامِ يُعْطَوْنَ أُجُورَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. (شعب الإيمان للبيهقي)

رمضان شهر صلاح وإصلاح:

وشهر رمضان شهر صلاح فإن الصيام والقيام يشفعان لصاحبهما عند الله وهذا من إصلاح الله لعبده وتشويقه "يَقُولُ الصِّيَامُ:

أَيْ رَبِّ إِنِّي مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النُّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ، فَيُشَفَّعَانِ. (رواه الإمام أحمد في المسند)

وهو من وجه آخر إصلاح فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرّم كالغيبة والنميمة والكذب والأيمان الكاذبة والنظر المحرم والسماع المحرم والكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ويقول: يا رب منعته شهواته فشفّعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته.

فأما من ضيّع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يُضرب به وجهُ صاحبه ويقول له: ضيعك الله كما ضيعتني كما ورد مثل ذلك في الصلاة، وكذلك القرآن إنما يشفع لمن منعه من النوم بالليل فمن قرأ القرآن وقام به فقد قام بحقه فيشفع له. (لطائف المعارف لابن رجب)

ومضة من اجتهاد السلف في رمضان:

كان سيدنا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَدْ أَمَرَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَتَمِيمًا الدَّارِيَّ أَنْ يَقُومَا بالنَّاسِ في شهر رمضان قال:

فكَانَ الْقَارِئُ يَقْرَأُ بِالْمِائتينِ، حَتَّى كُنَّا نَعْتَمِدُ عَلَى الْعِصِيِّ مِنْ طُولِ الْقِيَامِ، وَمَا كُنَّا نَنْصَرِفُ إِلَّا عند الْفَجْرِ. (موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى)

وكانوا يربطون الحبال بين السواري ثم يتعلقون بها وروي أن عمر جمع ثلاثة قراء فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأ بالناس ثلاثين وأوسطهم بخمس وعشرين وأبطأهم بعشرين ثم كان في زمن التابعين يقرؤون بالبقرة في قيام رمضان في ثمان ركعات فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة رأوا أنه قد خفف ...وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كلِّ ثلاثِ ليالٍ، وبعضهم في كلِّ سبع منهم قتادة، وبعضهم في كلِّ عشْرة منهم أبو رجاء العطاردي ...
قال موسى بن معاوية: كان وكيع بن الجراح يقرأ في رمضان في الليل ختمةً وثلثاً.

وعن عبد الملك بن حبيب قال: "رحلت من القيروان وما أظن أن أحدًا أخشع من البُهلول بن راشد حتى لقيت وكيعًا، وكان يقرأ في رمضان في الليل ختمة وثُلُثًا، ويصلي ثنتي عشرة من الضحى، ويصلي من الظهر إلى العصر".

وقال الربيع بن سليمان: كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين ختمة، وفي كل شهر ثلاثين ختمة، فقال أبو بكر بن الحداد: " أخذتُ نفسي بما رواه الربيع عن الشافعي أنه كان يختم في رمضان ستين ختمةً سوى ما يقرأ في الصلاة، فأكثر؛ ما قدرتُ عليه تسعًا وخمسين ختمةً، وأتيتُ في غير رمضان بثلاثينَ ختمة".

قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ زُهَيْرٍ بن محمد بن قمير: كَانَ أَبِي يَجْمَعُنَا فِي وَقْتِ خَتْمِهِ لِلْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَخْتِمُ تِسْعِينَ خَتْمَةً فِي رَمَضَانَ.

وكان لأحمد بن عطاء البغدادي في كل يوم ختمة، وفي رمضان تسعون ختمة، وبقي في ختمةٍ مفردةٍ بضع عشرة سنة يتفهَّم ويتدبر وبقي في ختمة يستنبط مُودَعَ القرآن بضعَ عشْرَةَ سنة فمات قبل أن يختمها

وكان ابن المؤذن: صاحب مقامات وكرامات، حسن الصلاة جداً، وكان يختم في رمضان مائة ختمة

ملاحظة: هذه الأخبار من: سير أعلام النبلاء للذهبي من ترجمة أولئك العظام، و"حلية الأولياء لأبي نعيم رحمه الله "، وطبقات ابن سعد، وصفة الصفوة لابن الجوزي رحمه الله ، وشذرات الذهب لابن العماد الحنبلي والبداية و النهاية للحافظ ابن كثير، والدرر الكامنة لابن حجر، وغيرها من كتب أهل السنة المعتبرة.

هكذا كان اجتهاد السلف في شهر رمضان، لقد عاشوا مع القرآن بقلوبهم وأرواحهم وغرفوا من معانيه وأنواره فأثّر على حياتهم فاستنارت حتى انعكس هذا على أبدانهم وأجسادهم حتى قال أحدُهم: كُنَّا نَعْرِفُ قَارِئَ القُرْآنِ بِصُفْرَةِ لَوْنِهِ، يُشِيرُ إِلَى سَهَرِهِ وَطُولِ تَهَجُّدِهِ. (لطائف المعارف لابن رجب ص٣٢١)
ولذا أنشد ذو النون المصري:

مَنَعَ الْقُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوعِيدِه***مُقَلَ الْعُيُونِ بِلَيْلِهَا لَا تَهْجَعُ
فَهِمُوا عَنِ الْمَلِكِ الْكَرِيمِ كَلَامَهُ***فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ
(لطائف المعارف لابن رجب)

فما أعظم اهتمام أولئك السلف في شهر رمضان وصيامه وقيامه وما أكبر زهدنا فيه!

دعاء الصائم مقبول:

لا نفرّط في الدعاء فإنك في شهر الإجابة ولك عند فطرك دعوة لا ترد فقد جاء عن سيدنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

لِلصَّائِمِ عِنْدَ إِفْطَارِهِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ ". فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو إِذْ أَفْطَرَ جَمَعَ أَهْلَهُ، وَوَلَدَهَ وَدَعَا. (رَوَاهُ الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ)
وفي حديث آخر:
ثَلَاثَةٌ لَا تَرُدُّ دَعْوَتُهُمُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ، وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللَّهُ دُونَ الْغَمَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ: بِعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ. (ررواه الْإِمَامِ أَحْمَدَ)

فما أجمل أن نغتنم هذا الشهر العظيم المبارك، حيث الرحمات وحيث العطاء من الله تعالى، وطوبى لعبد بالخير اغتنمه وبالطاعة ملأه، وبالاستغفار والإنابة استقبله وودّعه، يقول صلى الله عليه وسلم:

افْعَلُوا الْخَيْرَ دَهْرَكُمْ، وَتَعَرَّضُوا لِنَفَحَاتِ رَحْمَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ لِلَّهِ نَفَحَاتٍ مِنْ رَحْمَتِهِ يُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَسَلُوا اللَّهَ أَنْ يَسْتُرَ عَوْرَاتِكُمْ، وَأَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِكُمْ. (رواه الطبراني)

أخيراً ليكن مشروعك الرمضاني لهذا العام الدعوة إلى الله تعالى مستشعراً بأن هذه الأيام من أعظم الفرص، فلئن يهدي الله عز وجل بك رجلاً خير لك من حمر النعم، ويمكن أن يكون مشروعك أيضاً القيام على حوائج المحتاجين وإعانتهم وسد حاجتهم ما أمكنك ذلك، وتوّج ذلك بالإخلاص لله فهو رأس مال قبول الأعمال والله الموفق وهو المقصود.

تعليقات



رمز الحماية