مدونات مختارة
الأكثر شهرة
صلح الحديبية بين الدروس والعبر | الشيخ محمد إلياس يماني
قاعدة أساسية للتقدم والنجاح والصلاح في جميع الأمور والتي بيّنها الله تعالى في كتابه:
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.(الأحزاب:٢١)
يقول الإمام بن كثير رحمه الله تعالى: هذه الآية الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله؛ ولهذا أمر الناس بالتأسي به ﷺ في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته وانتظاره الفرج من ربه عز وجل. (تفسير ابن كثير:٦/ ٣٩١ بتصرف)
فإذا أراد المسلم التقدم والنجاح فلا بد من تطبيق لهذه القاعدة تطبيقًا عمليًا في جميع المجالات الحياتية، لأن رسول الله ﷺ سيد الناجحين على كافة المستويات، وقد تحقق له أعلى مستويات النجاح كقائد وزوجٍ أو حاكم ومفاوض ومعاهد ومحارب ومسالمٍ وفي كل شيء، لذلك إن كل فكر أو رؤية بعيدة عن السنة النبوية تعد محاولة فاشلة، والواقع يشهد بذلك كما أثبتت التاريخ وأظهرته الأحداث والوقائع، وسوف أبرهن عليه من خلال السيرة النبوية، وبالتحديد من خلال الحادثة العظيمة التي سماها الله سبحانه وتعالى بالفتح المبين والتي سميت بصلح الحديبية، فهذا الصلح برهان عملي على أن التأسي بالنبي ﷺ هي الطريق الأوحد لنجاح الأمة وصلاحها وفي هذا المقال لن أسرد لكم أحداث هذا الصلح العظيم فهي موجودة في كتب السير والتاريخ، ولكن سأقف مع هذه الحادثة العظيمة وقفة تأمل لتكون لنا نورًا نستضيء به وهديًا نتبعه.
الأحداث الهامة
- تبشير النبيﷺ أصحابه بالرؤية التي رآها والتي فرحوا بها.
- إنطلاق النبي ﷺ مع ألف وأربعمائة من أصحابه لأداء أول عمرة بعد الهجرة.
- محاولة قريش منع المسلمين من دخول مكة.
- إرسال النبي ﷺ سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى قريش ليخبرهم بأنهم جاؤوا معتمرين لا للقتال.
- تأخر سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وانتشار إشاعة استشهاده.
- اختبار المؤمنين بدعوة النبي ﷺ إلى البيعة التي سميت ببيعة الرضوان.
بنود صلح الحديبية
- هدنة بين الطرفين بحيث تتوقف الحرب بينهما لمدة عشر سنوات.
- رجوع المسلمين بدون عمرة هذا العام وقضائها في العام القادم.
- أن يرد المسلمين من أتى مسلمًا من قريش وأن لا ترد قريش من أتاهم مرتدًا.
- الحرية للقبائل الأخرى في دخولهم للعهد سواء دخلت في عهد قريش أو في عهد النبي ﷺ.
نتائج صلح الحديبية
- تفرغ النبي ﷺ لنشر الإسلام دون خوف من قريش.
- اعتراف قريش بالمسلمين كدولة ذات سيادة وقيادة.
- تفرغ المسلمين ليهود خيبر الذين نقضهوا العهد.
- دخول عدد من القبائل العربية في الإسلام وإلى حلف النبي ﷺ منهم قبيلة خزاعة.
- إسلام ثلاثة قادة من أعظم قادة قريش ( عمرو بن العاص، خالد بن الوليد، وعثمان بن أبي طلحة).
- يعد صلح الحديبية سبباً عظيماً لفتح مكة.
الدروس والعبر
إن صلح الحديبية مليءٌ بالعبر والدروس ما يعجِز مداد الحبر عن الإحصاء ولكن سأقف على بعض تلك الدروس:
- عدم تردد الصحابة في قبول الأمر النبوي.
- تعظيم الصحابة للنبي ﷺ.
- الحزم عند خرق الأعراف والقوانين المسلّم بها.
- خلاصة في المطلوب من المسلم في الدنيا.
- الأخذ بالتفاؤل وتربية الناس على ذلك.
- اختيار الله لعباده هو الخير.
- أهمية دور المرأة وتكريمها في الإسلام.
- التربية بالقدوة الحسنة.
- الوعد الإلهي لا يتبدل ولا يتخلف.
وإليكم بعض التفصيل حول هذه الدروس:
- عدم تردد الصحابة في قبول الأمر النبوي
- تعظيم الصحابة للنبي ﷺ
- الحزم عند خرق الأعراف والقوانين المسلّم بها
- خلاصة في المطلوب من المسلم في الدنيا
- الأخذ بالتفاؤل وتربية الناس على ذلك
- اختيار الله لعباده هو الخير
- أهمية دور المرأة وتكريمها في الإسلام
- التربية بالقدوة الحسنة
- الوعد الإلهي لا يتبدل ولا يتخلف
تبدأ القصة بشيء غريب جدًّا وهو أن النبي ﷺ رأى رؤيا بأنه دخل بيت الله الحرام مع أصحابه معتمرين فانشرحت صدورهم لهذه العمرة مع خطورتها، فأمرهم النبي ﷺ بذلك وتقبل الصحابة هذا الأمر بلا تردد طائعين لأمر رسول اللهﷺ، بل تشوّقوا إليه مع شدته وخطورته، فمنتهى العجب أن يذهب النبي ﷺ بأصحابه إلى مكة المكرمة حيث قريش التي جمعت الأحزاب قبل عام فقط وجاءت بعشرة آلاف مقاتل لقتالهم ، ولم يمضِ بعد إلا سنة واحدة على ذلك فكيف سيذهبون إلى قريش في عقر دارها وبسلاح المسافر، فهذا الأمر خطير فعلاً، ولذلك لم يخرج من المدينة إلى مكة إلا المؤمنون الثابتون ومن كانت قلوبهم مطمئنة ونواياهم طيبة طاهرة وكانوا ألف وأربعمائة تقريبًا ، وأما المنافقون كرهوا أن يخرجوا مع النبي ﷺ إلى هذه المهمة الصعبة، فلم يخرج منهم مع المؤمنين الصادقين إلا رجل واحد اسمه الجد بن قيس.
نترك هذا الأمر لعروة بن مسعود الثقفي الذي كان من المشركين يروي ما رآه بنفسه من شدة تعظيم الصحابة رضوان الله عليهم لرسولِ اللهِ ﷺ، وانقيادهم له، فلما رجعَ عروة إلى قريش قال لهم:
واللهِ لقد وفِدتُ على الملوكِ، كسرى وقيصر والنجاشي، ووالله ما رأيت ملكًا قط، يعظمه أصحابه كما يعظم أصحاب محمد محمدًا. ثم بدأ يذكر أفعال الصحابة.(صحيح البخاري :٢٧٣١ باختلاف يسير)
ويظهر لنا هذا حين وصلت المسلمين إشاعة استشهاد سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه حيث يُعَدّ هذا أمرًا خطيرًا ومخالفةً جسيمة للأعراف والقوانين المسلّم بها عند جميع الملل والأديان، وفيه إهانة كبيرة جدًّا للدولة التي قُتل رسولها، فما كان من رسول الله ﷺ إلا أن دعا المسلمين إلى البيعة وقد بايع جميع الصحابة على هذا إلا واحدًا من المنافقين وقد مر ذكره آنفا.
وهذه البيعة تعد من أعظم البَيْعات في تاريخ الأرض والتي سميّت ببيعة الشجرة لأنها وقعت تحت الشجرة في الحديبية أو ببيعة الرضوان، لأن الله سبحانه وتعالى صرح بأنه رضي عن الّذين بايعوا حبيبه ﷺ تحت الشجرة حيث قال تعالى:
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا.( الفتح:١٨)
كل شيء في حياة المؤمن الصادق هو لله سبحانه وتعالى وفي سبيله حتى آخر لحظاته من حياته طاعة كاملة لله تعالى ولرسوله ﷺ، كما اتّضح لنا من هذه الفئة المؤمنة وقد جاءت للعمرة تاركةً الأهل والوطن ولا تحمل السلاح غير سلاح المسافر لم يفكر أحد منهم في زوجاته أو أولاده ولم يفكر أحد بتجارته ولا في أعماله ولم يقل أحد بأن ظروفي لا تسمح ولم يعقد أحد هذه البيعة حرجًا من المسلمين أو حرجًا من رسول الله ﷺ إنما عقدوها بالصدق والإيمان وقلوبهم مؤمنة مطئمنة وبذلك صرحّ ربنا سبحانه وتعالى في سورة الفتح، وهذه هي الخلاصة فيما هو مطلوب من المؤمن في دنياه.
كان التفاؤل خلقاً من أخلاقه وخصلةً من خصاله ﷺ، فإن من قرأ سيرة الحبيب المصطفى ﷺ يجدها مليئة بالفأل الحسن حتى مع لقائه بالأعداء كما حصل ذلك في صلح الحديبية حين أقبل سهيل بن عمرو رجل قريش فقال ﷺ:
لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ. (صحيح البخاري:٢٧٣١)
الإنسان لا يعلم ما هو خير له في حياته وربما يكره المرء شيئا وقد جعل الله تعالى له فيه خيرًا كثيرًا، ويظهر لنا هذا في اعتراض بعض أصحاب النبي ﷺ على بنود الصلح وعلى رأسهم سيدنا الفاروق عمر بن الخطاب فكانوا يرونها في حق المشركين، سوى البند الذي نصّ على حرية دخول القبائل في حلف أي فريق منهما. ولكن أدركوا بعد ما عرفوا الخير الذي يكمن وراء هذا الصلح العظيم فتيقّنوا بأن ما على المسلم إلا الرضى والتسليم لأوامر الله تعالى وأوامر رسوله ﷺ والاطمئنان لها فالخير موجود وربما هو آت وإن لم يراه المرء المسلم حينها، وقد وصف ربنا جل وعلا هذا الصلح بالفتح المبين وأنزل سورة كاملة في هذا الحدث مطلعها:
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا.( الفتح:١)
كثيراً ما نسمع العبارات الرنانة والشعارات الزائفة عن حقوق المرأة وتكريمها ولكن لا فائدة منها إن لم تتوج بتطبيق عملي، فإننا لا نرى تكريمها الحقيقي إلا في الإسلام وفي سيرة سيد الأنام ﷺ، لأن الإسلام منذ ظهوره احترم المرأة وقدّرها أعظم تقدير، فمشاورة النبي ﷺ زوجه أم سلمة رضي الله عنها في إتخاذ القرار للأمة بأكملها خير دليل على تكريم المرأة ومكانتها في المنهج الديني والتربية الإسلامية.
أسلوب التربية بالقدوة شيء مؤثر وأسرع بالدخول إلى القلوب والعقول وذلك حين أمر النبي ﷺ أصحابه بالتحلل فتردد بعضهم، لكنه بعد خروجه ﷺ على أصحابه ثم نحره لهديه وحلقه لرأسه، كان هذا جمعاً بين القول والفعل بعد المشورة مع زوجته أم سلمة رضي الله عنها؛ حيث كان لذلك تأثيرا مباشراً فيهم فلا بد للمربي إذا أمر بفضيلة أن يكون سباّقاً إلى التحلي بها وإذا نهى عن رذيلة فلا بد أن يكون أول من يحذر من اقترافها. فهل يا ترى يصلح أن يأمر الأستاذ أو الوالد ابنه او تلميذه بالصلاة وهو بنفسه يتهاون بها! أو ينهاه عن صحبة أصدقاء السوء، أو ينهاه عن التدخين، ولم يجتنبه وهل ينفع أن يأمره بالصدق ولكنه يكذب!
لا شك بأنَّ الوعود الإلهية لا تتخلف ولا تتبدل ولكن لابد من السير على منهجه الذي جاء به رسوله ونبيه واتّباع هداه ولذلك وعد الله حبيبه بعد هذا الصلح فقال تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ.(القصص:٨٥) وهكذا ختم السورة ببشارة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم برده إلى مكة قاهرا لأعدائه. وهو قول جابر بن عبد الله وابن عباس ومجاهد وغيرهم. قال القتبي: معاد الرجل بلده، لأنه ينصرف ثم يعود.( تفسير القرطبي:١٣/ ٣٢١)
فمن كان يظن في تلك الأيام بأن القوم الذين أخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيله -وقد كانوا قلة- أن يرجعوا إلى وطنهم فاتحين منتصرين، ولكنه التقدير الإلهي الذي له التدبير والإرادة والمشيئة، ولأن الوعود الإلهية لا تتخلف ولا تتبدل ولكن لا بد من الوفاء بالعهد مع الله تعالى ورسوله ﷺ والسير على منهجه وهداه كي ننال ما نتمناه.
تعليقات