من هو الصوفِيّ وما هو التصوّف؟ | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الثلاثاء،12-أبريل-2022

من هو الصوفِيّ وما هو التصوّف؟

سبق في مقالتنا السابقة أن ذكرنا أهمية التصوّف في حياة المسلم، وذكرنا في مقالٍ آخر أنّ التصوّف سلوك وعمل على نهج الشريعة في تربية النفس وتزكيتها، وذكرنا بعض أقوال العلماء الربّانيين في أنّ طريق القوم مقيَّدة بالكتاب، والسنة الشريفة وسيرة الصالحين من العلماء الربّانيين وآدابهم أمثال سيدي الجنيد البغدادي وسيدي السّري السقطي والشيخ معروفٍ الكرخي وسيدي عبد القادر الجيلاني وأمثالهم من العلماء المربّين والمصلحين رحمهم الله تعالى، وقد اجتمعت كلمة الأئمة على إمامة أولئك في الدين والتربية والسلوك، كما أجمعوا على إمامة أبي حنيفةالنعمان ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله تعالى في الفقه والإفتاء، وأخذ عنهم العلماء وتسلسل هذا الأخذ في العلم والتربية عبر ورّاث الحبيب المصطفى ﷺ الذين أخذوا ذلك بحظٍّ وافرٍ ونقلوا لنا فقالوا: إنّ التصوّفَ العملي الذي يسير به المؤمن السالك هو تجربةٌ تصل بك إلى التذوق، والصفاء، والمشاهدة، والوصول إلى سرِّ الذات، والخلافة على الأرض.

وسبيله: العلم والعبادة، فلا يغني عنك فيه سواك، فإنَّه لا يمكن أن يتذوق لك منه غيرك، كما لا يمكن أن ترى بعين رجل آخر.

فهل تستطيع أن تعرف طعم " التفاح" مثلا دون أن تمضغه بالفعل؟ وهل يكفي أن تنظر إلى العسل، أو أن تعرف مكوناته لتتمتع بحلاوته، دون أن يحتويه الفم أو يعركه اللسان؟ كما لا يمكن أن يتحقق الشبع، أو ينطفئ العطش بالتصوّر والخيال دون تناول الطعام والشراب، فعلا وواقعًا!

وكذلك لا يغني عن هذه التجربة مجرّد العلم، وهذه التجربة من الأعمال القلبية الوجدانية، تحتاج إلى معاناة وصدق ومجاهدة في ترك حظوظ النفس والأهواء، ليستطيع المؤمن أن يزجّ بروحه وقلبه في محراب التعبّد بعيدًا عن الدنيا وشهواتها، تاركًا خلفه النفس والخلق وشياطين الإنس والجن وقيوداتهم... بهذا التجرّد مع الهمّة والصدق يصبح قادرًا على تغيير الباطن الذي به يتغير الظاهر، فيُولَد الإنسان ولادةً جديدةً، كلّها إشراقٌ، وحبٌّ، وبركة، وإنتاج... هكذا قال الشيوخ رحمهم الله تعالى!

أمَّا مجرد قراءة كتب التصوف بلا معاناة، فهذه متعة ذهنية، وثقافة عقلية قد تشارك فيها النفس الأمارة بالسوء، فتكون طريقًا إلى الضلالة طردًا أو عكسًا.

وأمَّا المنح الرُّوحية، والإشراقات القلبية، فهي نتيجة الجهود والأعمال، فالصوفية أرباب أحوال، لا أصحاب أقوال، ولم ينل المشاهدة مَنْ ترك الْمُجَاهَدة،

﴿وَٱلَّذِينَ جَٰهَدُواْ فِينَا لَنَهۡدِيَنَّهُمۡ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٦٩﴾

والتصوف الذي نتحدّث عنه هو خدمة تتكيّف بحاجة كل عصر، وكل إنسان، وكل وطن، فهي تجسيد شامل لعملية الاستخلاف على الأرض، ولو تفكّرنا بحقيقة السّفر إلى الآخرة بطريق الهداية الموصل إلى الله تعالى فإنّه جهد ومعاناة، والشيخ المربّي دليل فقط، فمَنْ لم يَسْعَ لم يصل، ومَنْ لم يلتمس المعارج لا يتسامى ولا يرتقي، ومَنْ لم يتحرك لم ينتقل، ومن اعتمد على ما عنده وحده اغترَّ، فتَاهَ وضَلََّ، فحافظ على نسبة عبوديتك لله فهي أقوى من نسبة السببية لأبيك وأمك، ولا شرف أعلى من العبدية لرب البرية ولذا قالوا:

لك من الله نسب أصح من نسبتك إلى أبيك فاحفظه فإنه ينفعك.

ومَنْ استأذن على الله أذن له، ومن قرع بابه تعالى أدخله، والشيوخ يقولون: نحن نشير إلى الحقيقة، ونُبَيِّنُ السبيل، وندع المريدَ الصادق، ليصل إلى غاية الطريق بجهده، فليس شيخُكَ من سمعتَ منه، ولكن شيخك من أخذتَ عنه، ومن جاهد: عدَلَ، ومنْ اجتهد: وصل.. وتأمّل طريق القوم فهم يقولون:

الشَّريعةُ جاءت بتكليف الخَلْقِ، والحَقِيقَةُ جاءت بتعريف الحَقِّ.

فالشَّريعَةُ أن تَعْبُدَهُ، والطريقةُ أن تَقْصِدَهُ، والحقيقةُ أن تَشْهَدَهُ.

ثُمَّ إنَّ الشَّريعَةَ قيامٌ بما أمر به وبصََّر، والحقيقةَ شهودٌ لما قضى وقدَّر.

وهذا رسولُ الله ﷺ: الشَّريعةُ أقوالُهُ، والطَّرِيقَةُ أفعالُهُ، والحقيقَةُ أحوالُهُ.

فشريعَةٌ بلا حقيقة: عاطلة، وحقيقةٌ بلا شريعة: باطلة، ولهذا قالوا: "من تشَرَّع ولم يتحقَّق فقد تعوَّق أو تفسَّق، ومن تحقَّق ولم يتشرّع فقد تهرطَقَ أو تزندق".

ثُمَّ تأمل قولك (لا إله إلا الله) هذه حقيقة، (محمَّد رسول الله) هذه شريعة. فلو فرَّق بينهما أحدٌ هلك، فإن من ردََّ الحقيقة: أشْرَك، ومن ردََّ الشريعة: ألْحَد.

وتأمَّلْ أيضًا قوله تعالى:

﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾

تجد الشريعة،

﴿وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ ٥﴾

تجد الحقيقة، وهما شيءٌ واحد يستحيل طرح أحد جزئيه.. عبادةُ العبد: ظاهر الأمر، وإعانة الله: باطِنُهُ، ولا بُدَّ لكل ظاهر من باطن، كالرُّوح في الجَسَد، والماء في العود.

انظر بعين عقلك، وقلبك إلى هذا الدّعاء، الذي يناجي به أحدُ العارفين من أشياخنا ربََّه فيقول:

"إلهي: إذا طلبْتُ منك الدنيا فقد طلبتُ غيرَك، وإذا سألتُك ما ضمنتَ لي فقد اتهمْتُك، وإنْ سَكَنَ قلبي إلى غيرِك فقد أشْرَكْتُ بِكَ!، جلتْ أوصافُكَ عن الحُدُوثِ، فكيف أكون مَعَك؟، وتنزّهتْ ذاتُكَ من العلل، فكيف أكونُ قريبًا بذاتي منك؟! وتعاليتَ عن الأغيار، فكيف يكون قوامي بغيرك؟!"

إنَّه كلام كأنَه صدًى من روح القُدُس، وكأنَّما اقتبسه الشيخ من ألحان الذين يحملون العرش، ومَن حوله، ومن تسابيح الأرواح المهيَّمَة بآفاق الملأ الأعلى، كلامٌ فيه رائحة مولانا رسول الله ﷺ، واقتباسٌ من أضواء سدرة المنتهى، وملامح من صدى الحقيقة والشريعة.

إذا عرفتَ هذا ثمّ ذقته علمتَ بعده أنّ التصوّف: هو التقوى، والتصوّف: هو التزكية، وهما مقام يجمع الخوف والرجاء، وينهض بالعقيدة والخُلُق، وبه تتحقّق إنسانيّة الإنسان، وإنَّه ما من آية في القرآن إلا وهي تربط الدنيا بالآخرة، وتجعلها وسيلة إليها، من باب التقوى وطريق التزكية.

ألم يقل الله تعالى

: ﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن تَزَكَّىٰ ١٤﴾

و

﴿قَدۡ أَفۡلَحَ مَن زَكَّىٰهَا ٩﴾

ألم يكن مِنْ سِرِّ الرسالات: التزكية،

﴿وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡۖ﴾

نعم: التَّصَوفُ أدب، فالعقيدة أدب، والعبادة أدب، والمعاملة أدب.

وهنا يصل العبد إلى رتبة (الربَّانية) بالعلم، والدرس، والممارسة:

﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩﴾

وهكذا يكون الصُّوفيُّ أكثَرُ من (فقيه)، فالفقيه وقف عند الأقوال، والصُّوفيُّ أكثَرُ من (عابد)، إذ العابِدُ وقف عند الأعمال، أمَّا هو فقد جَمَعَ بينهما، فأثمر (الأحوال).

والصُّوفيُّ أكثَرُ من (زاهد)، إذ الزاهد في الدنيا زاهِدٌ في لا شيء، أمَّا الصُّوفي فلا يزهد إلا فيما يحجبه عن الله، وبهذا يجعل الدنيا في يده، لا في قلبه.

جاء شابّ إلى مرشد صوفيّ، فقال له: يا ولدي: "إن كنت تريد الدنيا، والجنَّة فعليك بفقيه، وإن كنت تريد ربّ الدنيا، ورب الجنة فهلمّ إلينا"؛ لأنّ من وجد الله فما فقد شيئًا وإنْ فَقَد، ومَنْ فَقَدَ الله فَمَا وَجَدَ شيئًا وإنْ وَجَد، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، ولكن العجب ممن نجا كيف نجا!

واعلم أنّ (الصوفيّ) هو صاحب الوصول، و(المتصوّف) صاحب الأصول، والمسْتصْوف (المتمَصْوف) صاحب الفضول.

والمبتدئ في الصوفية يرى نَفْسَه، ولكن يراها ناقصة، فهي -مع هذا- حجاب بينه وبين الله.

أمَّا المنتهي فقد غضَّ بصره عن نَفسه، فلا يراها بالكُلِّيََّة؛ لأنّه يرى قَيومها الموجود الحقّ لا سواه، وما لا قيّوميّة له من نفسه فهو عَدَمٌ مُجَسََّد.

الصوفي المتحقّق هو مؤمن قائم بربِّه على قلبه، وقَائِمٌ بقلبِهِ على نَفْسِهِ، وقَائِمٌ بنَفْسِهِ على مَنْ يليه، وهذه القوامة هي التحقّق بالتصوّف الرفيع:

﴿كُونُواْ قَوَّٰمِينَ لِلَّهِ شُهَدَآءَ بِٱلۡقِسۡطِۖ﴾

والصوفي يقيم أمر الخلق في مقامه، ويقيم أمر الحق في مقامه، فيظهر ما ينبغي أن يظهر، ويستر ما ينبغي أن يُسْتَر، ويقوم بواجب وقته كأفضل ما يقوم رجل، وبه يستقيم عاتق الميزان برُوح الربَّانية.

إنَّ الله أمرنا بالتصوف، فهو يقول:

﴿وَلَٰكِن كُونُواْ رَبَّٰنِيِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ ٧٩﴾

والربَّانية عندنا هي (التصوّف)، فهي في الآية علم ودراسة، ومقتضى ذلك: العمل، والعمل الصحيح.

فالتصوّف: هو الربَّانية، وهو التَّقوى، وهو التزكية، وثلاثتها شيءٌ واحد، لا بدّ لبعضه من بعض، فلا ربَّانية بلا تقوى، ولا تقوى بلا تزكية.

وتستطيع أن تُسَمِّي ذلك جميعاً: البرّ

﴿وَلَٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنِ ٱتَّقَىٰۗ﴾

فاقرأ آيات البرّ

من سورة البقرة وغيرها، وسترى أنّ جِماع ذلك، وملاكه هو (الخُلُق).

فالتَّصوّف: خُلُق (من زاد عليك في الخلق: زاد عليك في التَّصوف)، وبالتالي زاد عليك في الإنسانية، فنفع وانتفع، وأدَّى رسالة البشرية بروح سماوية عَلِيَّة.

وهكذا تشرق لك بعض معاني قوله تعالى:

﴿وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤﴾

فما كان من عظمة في شؤون الدنيا والدين، فإنَّما هي أثر للخُلُق العظيم.

(هذا هو تَصَوُّفُنَا)، وهو (علم فقه المعرفة)، ولا شأن لنا بتصوّف الآخرين، و

﴿كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ ٢١﴾

يعيش الصوفيُّ المتحقق: بَدَنٌ مع الخَلْقِ، ورُوحٌ مع الحَقِّ، الفرق في لسانه، والجَمْعُ مع جَنَانِهِ، وهو يعلم أنَّ العمل مع الغفلة خَيْرٌ من الغفلة عن العمل!

التصوّف: دعوة (الحُبِّ) الذي فقده النَّاس، ففقدوا الحقيقة الإنسانية في الأجساد البشرية.

وعليك أن تتصوَّر مجتمعًا يحكمه: الحبُّ، والسَّلام، والتَّسامح، والتيسير، واللين، والتعبّد، والتعاطف، والشرف، والإيثار، وتحرِّى معالي الأمور؛ كيف يكون أفراده؟ وكيف تمضي حضارته؟

إنَّ العنف، والقسوة، والقهر، والتعالي، والخبث، والتغالي، والبذاءة، والتعالم، والاندفاع، وأذى الناس أقذارٌ لا يعرفها التصوف ولا ينبغي أن يسلكها صوفي.

التصوف دعوةٌ إلى الحريَّة المطلقة، والسِّيَادة التَّامَّة على النفس والشهوة، وعلى الشيطان، وعلى العبودية لغير الله، وعلى كل صَغَار خُلُقي أو فكري، فهو أصْلُ التَّحَرُّر المطلق من أغلال المادة والهوى، لأنَّ الصُّوفيَّ قد تحقق بقوله (لا إله إلا الله).

التصوفُ الحَقُّ: دعْوَةٌ إلى القُوَّة، والعلم، والتوحيد، والعزة، والعدالة، والمساواة، والإحياء، والتكافل، والتكامل، والتجديد، والابتكار، والسِّيَادة، والقيادة؛ لأنَّ الله خَلَقَ المسلم الحقَّ ليُمَارس كُلَّ هذا، وما يترتّب عليه، وما يتفرّع عنه، قولا، وعملا، وحالا،

﴿لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيۡكُمۡ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِۚ﴾

ولكُلِّ كلمة من كل ذلك شَرْحٌ عريقٌ عميقٌ، أصله: الكتاب والسنَّة، وفرعه: الفيض والمدد.

إنَّ النَّاس لا يطلبون الله والجنَّة بما صَحَّ عند غيرهم، وإنَّما يطلبون ذلك بما صَحَّ عندهم، فإن أصابوا فأجران، وإن أخطؤوا فأجر، وعند الله مزيد، ولكل امرئٍ ما نوى.

(مقتبسًا وملخّصًا بتصرّف من (أبجدية التصوف الإسلامي (رسالة الخطاب): 137) وما بعد للعلامة الجليل الربّاني الشهير سيدي الشيخ محمد زكي إبراهيم رحمه الله تعالى.


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مركز_فيضان_المدينة
#مؤسسة_مركز_الدعوة_الإسلامية

تعليقات



رمز الحماية