ثمرة العلم العمل والتزكية | الشيخ طارق المحمد


نشرت: يوم الثلاثاء،20-سبتمبر-2022

ثمرة العلم العمل والتزكية

كنت في مجلس عامرٍ بالذكر والمذاكرة والعلم والمعرفة فقرأ شيخي حفظه الله تعالى وأمتع به بعض الوصايا من كتاب "إحياء علوم الدين للإمام الغزالي رحمه الله تعالى" بشرح الإمام مرتضى الزبيدي رحمه الله تعالى فكان مما قرأه علينا وتأثّر به كلاماً عجيباً للإمام الجليل سهل بن عبد الله التستري رحمه الله تعالى الذي يقول فيه:

"العلم كله دنيا والآخرة منه العمل به والعمل كله هباء إلا الإخلاص"

ومن الطرف التي تذكر ما نُقل عن الإمام الشَّعبي رحمه الله تعالى قوله: العلم ثلاثةُ أشبار فمن نال منه شِبْراً شمخ بأنفه وظنّ أنّه ناله، ومن نال الشّبر الثّاني صغرتْ إليه نفسُهُ وعلم أنّه لم ينله، وأمّا الشّبر الثّالث فهيهات لا يناله أحدٌ أبداً

أي: من دخل في الشِّبْر الأول تكبر، ومن دخل في الشبر الثانى تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لا يعلم.

ولذلك دائماً يحرص العلماء المربّون على العلم والعمل مع الإخلاص ودائماً يوجّهون إخوانهم لهذا غيرةً منهم على الدين وحمَلَتِه أن ينحرف بهم المسار عن سيرة النبي المختار ﷺ الذي قال:

"غيرُ الدجالِ أخوَفُ على أمّتي من الدّجال، .....وفيه: أيُّ شيء أخوف على أمتك من الدجال؟ قال: الأئِمَّةُ المضِلِّيْن"

قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: وهذا؛ لأن الدجال غايته الإضلال، ومثل هذا العالم -وإن صرف الناس عن الدنيا بلسانه ومقاله- فهو داعٍ لهم إليها بأعماله وأحواله، ولسان الحال أفصح من لسان المقال، وطباع الناس إلى المساعدة في الأعمال أميل منها إلى المتابعة في الأقوال.

فما أفسده هذا المغرورُ بأعماله أكثرُ مما أصلحه بأقواله؛ إذ لا يستجرئ الجاهل على الرغبة في الدنيا إلا باستجراء العلماء، فقد صار علمه سبباً لجراءة عباد الله تعالى على مَعَاصِيْه، ونفسُه الجاهلة مدلّةٌ -مع ذلك- تُمَنِّيْه وتُرَجِّيْه، وتدعوه إلى أن يَمُنَّ على الله تعالى بعلمه، وتُخَيِّل إليه نفسُه أنه خيرٌ من كثير من عباده

ولهذا نبّه الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في بداية الهداية إلى أهمية تحرير النية في طلب العلم وجعل طلب العلم على ثلاثة أحوال، فقال:

1) رجل طلب العلم ليتخذه زاده إلى المعاد، ولم يقصِد به إلا وجهَ الله تعالى والدار الآخرة؛ فهذا من الفائزين.

2) ورجل طلبه ليستعين به على حياته العاجلة، وينالَ به العزَّ والجاهَ والمالَ وهو عالم بذلك مستشعر في قلبه ركاكةَ حالِه وخِسَّة مقصِده؛ فهذا من المخاطرين.

فإن عاجله أَجَلُه قبل التوبة خِِيف عليه من سوء الخاتمة وبقي أمره في خطر المشيئة، وإن وُفِّق للتوبة قبل حلول الأَجَل وأضاف إلى العلم العملَ، وتدارك ما فرط منه من الخَلَل؛ التحق بالفائزين، فإن

"التائب من الذنب كمن لا ذنب له"

3) ورجل ثالث استحوذ عليه الشيطان، فاتخذ علمَه ذريعةً إلى التكاثُر بالمال والتفاخر بالجاه والتعزُّز بكثرة الأَتْباع، يدخل بعلمه كلَّ مدخلٍ رجاءَ أن يقضي من الدنيا وَطَرَهُ، وهو مع ذلك يُضْمِر في نفسه أنّه عند الله تعالى بمكان لاتّسامه بِسِمَة العلماء وترسُّمه برُسُومهم في الزَّيِّ والمنطق مع تَكَالُبه على الدنيا ظاهراً وباطناً؛ فهذا من الهالكين ومن الحَمْقَى المغرورين؛ إذ الرجاء منقطع عن توبته لِظَنِّه أنّه من المحسنين، وهو غافل عن قول الله تبارك وتعالى:

﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٢ كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لَا تَفۡعَلُونَ ٣﴾

فما أدقّ هذه الأحوال وما أجمل أن يكون منها طالب العلم والداعية والمتكلّم والمؤلّف والمحاضر في دين الله تعالى وعلوم الشريعة والقرآن ومن في حكمهم على دراية وعمل بما يرضي الله تعالى منها كما قال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى في نهايتها:

فكن أيها الطالب! من الفريق الأول، واحذر أن تكون من الفريق الثاني، فكم من مُسَوِّفٍ عاجله الأَجَلُ قبل التوبة فخسر، وإياك ثم إياك أن تكون من الفريق الثالث فتهلكَ هلاكاً لا يُرْجَى معه فلاحُك، ولا يُنتظر صلاحُك

ولو أردنا أن نستعرض الأمر من أساسه ونرجع إليه من بدايته لرأينا أن الإمام الغزالي رحمه الله تعالى وضع كتابه "بداية الهداية" قاعدة لكل طالب ومنهجاً تربوياً لكل راغب فإن مطلع كتاب "بداية الهداية" ومقدمته خلاصة عظيمة شرحها في كتابه إحياء علوم الدين ولا بأس أن نستعرض بعض سطور تلك المقدمة التي ذكرنا بعضها آنفاً لنكون منها على علم ونأخذ حظَّنا منها في التوجيه ونسلك بأنفسنا بها طريق التزكية والعمل الذي هو ثمرة العلم:

قال الشيخ الإمام أبو حامد محمد بن محمد الغزالي رحمه الله تعالى :

اعلم أيها الحريص! المقبل على اقتباس العلم، المظهر من نفسِه صدقَ الرغبة وفرطَ التعطُّش إليه: أنّك إن كنتَ تقصِد بالعلم المنافسةَ والمباهاةَ، والتقدّمَ على الأقران، واستمالةَ وجوه الناس إليك، وجمعَ حُطام الدنيا؛ فأنت ساعٍ في هدم دينِك وإهلاكِ نفسك وبيع آخرتك بدنياك، فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة، ومعلّمك معين لك على عصيانك، وشريك لك في خسرانك، وهو كبائع سيفٍ من قاطعِ طريقٍ؛ فالدال على الشرّ كفاعله.

وإن كانت نيتُك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم: الهداية دون مجرّد الرواية؛ فأبشر فإن الملائكة تبسط لك أجنحتَها إذا مشيتَ، وحيتانَ البحر تستغفر لك إذا سعيتَ.

ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن الهداية التي هي ثمرة العلم لها بداية، ونهاية، وظاهر، وباطن، ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها، ولا عُثُور على باطنها إلاّ بعد الوقوف على ظاهرها.

وها أنا مشير عليك بـ"بداية الهداية" لتجرّب بها نفسك، وتمتحنَ بها قلبَك، فإن صادفتَ قلبك إليها مائلاً، ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة؛ فدونك التطلّعَ إلى النهايات، والتَّغَلْغُل في بحار العلوم والمكاشفات.

وإن صادفتَ قلبك عند مواجهتك إياها بها مُسَوِّفاً، وبالعمل بمقتضاها مماطلاً؛ فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمّارة بالسوء، وقد انتهضتْ مطيعة للشيطان اللعين ليُدلّيك -أي: ليوصلك- بحبل غروره، فيستدرجَك بمكيدته إلى غمرة الهلاك، وقصده أن يروّج عليك الشرّ في معرض الخير حتى يلحقك:

﴿بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ١٠٣ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا ١٠٤﴾

وعند ذلك يتلو عليك الشيطان فضلَ العلم ودرجة العلماء وما ورد فيه من الأخبار والآثار، ويلهيك عن مثل قوله ﷺ:

"يؤتى بالرّجل يوم القيامة، فيُلْقى في النّار، فتَنْدَلِقُ أَقْتابُ بَطْنِهِ، فيدورُ بها كما يدور الحمار بالرَّحَى، فيجتمع إليه أهلُ النّار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟ ألم تكن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، قد كنت آمر بالمعروف ولا آتِيْه، وأنهى عن المنكر وآتِيْه"

وكان من دعاء النبي ﷺ:

" اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجابُ لَها"

فإياك يا مسكين أن تذعن لتزويره فيدلّيك بحبل غروره. فويل للجاهل حيث لم يتعلم مرة واحدة، وويل للعالم حيث لم يعمل بما علم ألف مرة

فإن قلت: فما بداية الهداية لأجرّب بها نفسي؟

فاعلم أن بدايتها ظاهرة التقوى، ونهايتها باطنة التقوى، فلا عاقبةَ إلا بالتقوى ولا هداية إلا للمتقين، والتقوى: عبارة عن امتثال أوامر الله تعالى، واجتناب نواهيه

وفي هذه الكلمات كثيرٌ من التنبيهات ينبغي أن نقف عليها جميعاً على مختلف المستويات ونأخذ أنفسنا بها بجدّ لنكون في طريق سيدنا محمد ﷺ سيد السادات، اللهم وفّقنا لذلك بنفحة من نفحاتك اللطيفة، وخلّصنا بكرمك من كل نقيصة، واجعلنا من أهل الإخلاص في جميع الأقوال والأفعال والأحوال . آمين!


#مركز_الدعوة_الاسلامية
#مركز_الدعوة_الإسلامية
#الدعوة_الإسلامية
#مجلة_نفحات_المدينة
#نفحات_المدينة

تعليقات



رمز الحماية