مدونات مختارة
الأكثر شهرة
معركة القادسية ملحمة البطولات ونصر الإسلام | محمد إلياس سكندري
هذا المقال من مجلة نفحات المدينة: 18
تعد معركة القادسية من أعظم المعارك في تاريخ الإسلام، وقد شكلت نقطة تحول كبرى في مسار الأمة، وقف فيها المسلمون، بقيادة القائد الفذ سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، في وجه أعظم جيوش الأرض آنذاك، جيش الفرس بقيادة رستم فرخزاد ورغم قلة عددهم، كان إيمانهم، وتخطيطهم، وصدق قيادتهم سبيلا للنصر. وفي خضم المعركة، تجلت بطولات خالدة، امتزج فيها الإيمان بالسيف، والصبر بالتضحية، ليسطّر التاريخ صفحات من الشجاعة والوفاء لا تنسى.
من أسباب المعركة
شهد العراق مواجهات متكررة بين المسلمين والفرس خلال خلافتي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ورغم انتصار المسلمين في معركة البويب، فإن الفرس تمسكوا بسيطرتهم، وعملوا على تعزيز قواهم العسكرية والسياسية، مما دفع الأمور نحو معركة فاصلة.
وبعد هزيمتهم في البويب، دبت الخلافات بين قادتهم، حتى اختير يزدجرد بن شهريار، من نسل كسرى، ملكا جديدا، وبدأ بإعادة تنظيم الجيش واستعادة هيبة الدولة. وفي تلك المرحلة، أمر الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه القائد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بإرسال وفد إلى يزدجرد لدعوته إلى الإسلام، فبعث سعد جماعة من خيار الصحابة، قدّموا الدعوة بأسلوب رفيق يبين عدل الإسلام ورحمته، إلا أن يزدجرد أساء استقبالهم، ورفض الدعوة، واستخف بحسن تعاملهم، وعده علامة ضعف.
وبعد عدة مفاوضات، رفض الملك الفارسي الإسلام والجزية، واختار الحرب، فكلف القائد رستم فرخزاد بقيادة الجيش. (البداية والنهاية: 7/44-45 بتصرف)
وكان رستم مترددا في خوض المعركة، وقد روي أنه رأى في منامه ملكا يختم على سلاح الفرس ويدفعه لرسول الله ﷺ ثم إلى عمر رضي الله عنه، فتشاءم من عاقبة الحرب، وسعى لتأجيل اللقاء عدة أشهر حتى يمل المسلمون، ولولا استعجال الملك لما خاضها.
وحين التقى الجيشان، طلب رستم من سعد أن يبعث إليه رجلا عاقلا عالما، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فخاطبه رستم متعجبا من سبب قتالهم، فرد عليه المغيرة: "ما خرجنا طلبا للدنيا، وإنما لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله"، فانبهر رستم بكلامه، لكن قومه أبوا الإسلام. فأرسل إليه سعد ربعي بن عامر رحمه الله، ليؤكد نفس الرسالة بأسلوبه البليغ، ممهدا بذلك لوقوع معركة القادسية العظيمة". (البداية والنهاية: 7/46-47 بتصرف)
الحوار التاريخي بين رستم وربعي بن عامر:
في خضم معركة القادسية، حيث التقى جيش الإسلام بقيادة القائد الباسل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه مع الجيش الفارسي بقيادة رستم فرخزاد، دار حديث تاريخي بين رستم وسيدنا ربعي بن عامر رضي الله عنه، حين سأل رستم عن سبب قدوم المسلمين، قال مستهزئا: "ما الذي جاء بكم؟". فرد ربعي بن عامر بجواب مليء بالحكمة والإيمان، إذ قال بكل ثقة: "الله جاء بنا، وهو بعثنا لنخرج من يشاء من عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام..." (الكامل في التاريخ: 2/298)
هذه الكلمات العميقة كانت بمثابة رسالة شاملة، تجسد معنى الدعوة الإسلامية الحقيقية التي جلبت معها نور الحق والعدالة، لتمنح البشرية طريقا للخلاص من الظلم والفساد. كلماته كانت تجسيدا للغرض السامي الذي حمله المسلمون، وهو تحرير الناس من قيود الجور ليعيشوا في عدالة الإسلام ورحمته، ليبقى هذا الموقف شاهدا على قوة الإيمان التي لا تعرف الخوف أمام الجيوش الظالمة.
التحضيرات والمواجهة الأولى: بداية معركة القادسية
بعد فشل المفاوضات بين المسلمين والفرس، أصبح الخيار الوحيد هو المواجهة العسكرية الحاسمة. قام القائد المسلم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بتحديد موقع استراتيجي في قصر قديم ليشرف منه على مجريات المعركة ويخطط لتحركات الجيش، وذلك بسبب إصابته بعرق النسا وعدد من الدمامل التي منعت مشاركته الفعلية في القتال، وبالرغم من حالته الصحية، لم يتوقف عن قيادة العمليات، فكان يشرف على الجيش عن كثب، ويعطي التوجيهات اللازمة لقيادة المعركة على الأرض، قام بتعيين القائد الفذ خالد بن عرفطة العذري ليتولى قيادة الجيش الإسلامي في ساحة المعركة وجعل على الميمنة جرير بن عبد الله البجلي وعلى الميسرة قيس ابن مكشوح. (السيرة النبوية وأخبار الخلفاء: 2/ 469 بتصرف)
بدأت المعركة ببعض المبارزات الفردية السريعة، حيث أظهر فرسان المسلمين شجاعة منقطعة النظير، وتجلت براعتهم في التصدي للهجمات، إلا أن المفاجأة الكبرى جاءت من جيش الفرس حين أطلقوا 16 فيلا ضخمة تجاه المسلمين، مما أحدث نوعا من الفوضى في صفوفهم، ورغم هذا الهجوم المفاجئ، تصدى المسلمون بكل شجاعة ودامت أحداث المعركة 4 أيام، عرفت بقساوتها وشدتها، حيث حارب جنود الجيش الإسلامي لأول مرة في الليل، على الرغم من أن من عادة العرب ألا تقاتل ليلا، ولكن تطلب الأمر ذلك.
تفاصيل أحداث معركة القادسية: يومًا بيوم
اليوم الأول: "أرماث"
في اليوم الأول من معركة القادسية، اشتبك الجيش الإسلامي بقيادة سعد بن أبي وقاص، الذي بلغ عدده أكثر من 30 ألف مقاتل، مع الجيش الفارسي الضخم الذي بلغ 200 ألف مقاتل بقيادة رستم، وضم 33 فيلا، بدأ الفرس هجومهم على قبيلة "بجيلة"، التي كانت تشكل جزءًا من الجيش الإسلامي، لكن سرعان ما وجه سعد بن أبي وقاص قبيلتي أسد وبني تميم لصد الهجوم، وأرسل فرسانًا لتدمير التوابيت على ظهور الفيلة، ففي تلك اللحظة الحرجة، نهض عاصم بن عمرو التميمي كالأسد الهصور ومعه شخص آخر وانطلقا مع فرسانه كالبرق، يموجون بسيوفهم صوب جيش الفيلة، فهزوا الأرض وزلزلوها، واشتعلت معركة ضارية لم تر لها القادسية مثيلا حتى تمكنوا من صد هجوم الفيلة الهائل، ورغم القوة الهائلة للعدو، استمر القتال حتى غروب الشمس دون حسم واضح، حيث أدرك المسلمون أن المعركة ستكون أطول مما اعتادوا.
اليوم الثاني: "أغواث"
في اليوم الثاني، وصل جيش الإمداد من الشام بقيادة هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخي سيدنا سعد رضي الله عنهم وفي مقدمة الجيش القعقاع بن عمرو التميمي رحمه الله تعالى، وقد برز القعقاع بن عمرو التميمي كأحد أبرز القادة العسكريين، وقد وصفه الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه بقوله: "لا يهزم جيش فيهم مثل هذا"
كان القعقاع يمتاز بحكمته ودهائه العسكري، حيث ابتكر خططا حربية غير تقليدية واستخدم مناورة عسكرية لخداع الفرس، بحيث قسم فرقته إلى أعشار، وهم ألف فارس، وانطلق أول عشرة ومعهم القعقاع، ثم تبعتهم العشرة الثانية، وهكذا حتى اكتملوا مساء، وكان الجنود يرددون "الله أكبر" بصوت مدوٍّ، ما أحدث ارتباكا ورعبا في صفوف الفرس، وأدى ذلك إلى إيهام الفرس بأن 100 ألف قد وصلوا من الشام، فشعروا باليأس ووهنوا، وحذا حذو القعقاع قادة مددِ الشام جميعهم.
تقدَّم القَعقاعُ بنُ عمرو التميمي يطلبُ المبارزةَ، فخرجَ له القائدُ الفارسيُّ بَهْمَن جاذويه، المعروفُ بذي الحاجب، وهو الذي سبق أن هزم المسلمين في موقعة الجسر، لكن القَعقاع تمكَّن من قتله.
ثم عاد القَعقاع يطلب المبارزةَ من جديد، فخرج البِيرَزان والبُنْدُوان، فاشترك معه في القتال الحارثُ بن ظَبْيان، فبارز القَعقاعُ البِيرَزان، وقطعَ رأسه، بينما قضى الحارثُ على البُنْدُوان، فكان لسقوط هؤلاء القادة أثرٌ بالغٌ في انهيارِ معنوياتِ جيشِ الفُرس. (تاريخ الطبري: 3/ 543 بتصرف)
ولم يكتفِ القَعقاع بذلك، بل نفَّذ انسحابًا تكتيكيًّا في الليل، ثم باغتَ الفُرسَ صباحًا، فأوقع فيهم الفوضى والارتباك. وكان من أبرز حِيَله الحربية مواجهتَه للفيلة، فزيَّن الجِمالَ بالأجراسِ والتمويه، فأفزعت الفيلةَ ودفعتها إلى التراجع. وقد بلغ من بأسه أن كتب عمرُ إلى سعد: مَن أفرسُ الناسِ يوم القادسية؟
فأجابه: ما رأيتُ مثل القَعقاع، حمل في يومٍ ثلاثين حملة، يقتل في كلِّ حملةٍ بطلًا." (الإصابة: 5/ 343)
دور أبي محجن الثقفي
لما اشتعلت الحرب في اليوم الثاني في القادسية، وارتفعت أصوات الأبطال، وقُيد أبو محجن الثقفي، إلا أن روحه لم تقيد فتوسل إلى زوجة القائد سعد بن أبي وقاص، فاقترض منها فرس زوجه "البلقاء".
فانطلق أبو محجن على "البلقاء"، يخترق صفوف الأعداء كالريح العاصفة، يلعب برمحه وسلاحه بين الصفين على الميمنة أحيانا وعلى الميسرة أحيانا والقلب أخرى، ولم يعرف أحد هويته؛ لأنه كان ملثما، يصول ويجول كالسهم المميت، كأنه ملك لا يبارى، يمزق صفوف الفرس حتى جعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مكبّ من فوق القصر: والله! لولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء!
بعض الناس قال: إن كان الخضر يشهد الحروب فنظن صاحب البلقاء هو الخضر.
وقال بعضهم: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال لقلنا: إن هذا الفارس هو ملك أرسله الله ليثبتنا. (تاريخ الطبري: 3/ 549 بتصرف)
اليوم الثالث: "عماس"
استمر المسلمون في القتال، وعاد الفرس بإحضار الفيلة، لكن القعقاع وعاصم بن عمرو تمكنوا من إصابة الفيل الأبيض، مما دفع الفيلة للفرار، واستمر القتال حتى الليل، وعرفت تلك الليلة بـ"ليلة الهرير"، وكان القعقاع هو محورها. (تاريخ الطبري: 3/ 562 بتصرف)
وقد قيل: إنه كان أول من حارب ليلا في تاريخ العرب، كما أنه اضطلع بعبء التخلص من الفيل الأبيض الذي يقود باقي فيلة الجيش الفارسي في أرض المعركة، فلما قتل هذا الفيل وقع الارتباك في صفوف الفرس.
اليوم الرابع: "القادسية"
في اليوم الرابع، استمرت المعركة بعزيمة قوية من المسلمين، فقام القعقاع بتوجيه هلال بن علقمة لقتل رستم، وبالفعل تم قتله، ثم تراجع الجيش الفارسي نحو النهر حيث وقعوا في فخ، وقتل منهم العديد. وأسفرت المعركة عن مقتل أكثر من 50 ألفا من الفرس، واستشهاد 8500 من المسلمين، ليحقق الجيش الإسلامي نصرا حاسما.
خاتمة:
لقد كانت معركة القادسية أكثر من مجرد مواجهة عسكرية، بل كانت اختبارًا حقيقيا للإرادة الإيمانية للمسلمين، تلك المعركة لم تكن فقط حاسمة لمستقبل الأمة الإسلامية، بل كانت أيضًا بداية لتحول هائل في تاريخ المنطقة، حيث جلبت فتح العراق ودمجت الأمة الفارسية ضمن نطاق الدولة الإسلامية كما كانت بمثابة الأساس الذي بنيت عليه سلسلة من الانتصارات الكبرى التي شملت فتح المدائن وجردت أعداء المسلمين من هيبتهم، ليبدأ بعدها انتشار الدعوة الإسلامية في أرجاء فارس.
ومع مرور الأيام، أصبحت معركة القادسية رمزا للعزيمة والإصرار، ودليلاً على أن الإيمان بالله وحسن التخطيط قادران على تحقيق النصر في وجه أقوى الأعداء، مهما كانت الفوارق في العدة والعتاد.
هذه المعركة التي حدثت في قلب الصحراء العراقية، لا تزال تذكرها الأجيال المتعاقبة باعتبارها أحد أعظم انتصارات المسلمين وأكثرها تأثيرًا في رسم معالم تاريخ الأمة الإسلامية.
تعليقات