هل خلق الكون نفسه بنفسه أم للكون خالق؟ | محمد عدنان الجشتي العطاري المدني


نشرت: يوم السبت،18-يناير-2025

هل خلق الكون نفسه بنفسه أم للكون خالق؟

كان سيّدنا أبو حنيفة نعمان بن ثابت رحمه الله سيفًا على الدهريّة، وكانوا ينتهزون الفرصة ليقتلوه، فبينما كان هو يومًا جالس في مسجده إذ هجم عليه جماعةٌ يُشهرون سيوفهم، وهمّوا بقتله، فقال لهم: أجيبوني عن مسألةٍ ثمّ افعلوا ما شئتم، فقالوا له: هات.

فقال: ما تقولون في رجلٍ يقول لكم: إنّي رأيتُ سفينةً مشحونةً بالأحمال مملوءة مِن الأثقال قد احتوشتها في لجة البحر أمواج متلاطمة، ورياح مختلفة، وهي مِن بينها تجري مستويةً ليس لها ملّاحٌ يجريها، ولا متعهد يدفعها، فهل يجوز ذلك في العقل؟

قالوا: لا، هذا شيء لا يقبله العقل.

فقال سيّدنا أبو حنيفة رحمه الله: يا سبحان الله! إذا لم يجز في العقل وجود سفينة تجري في البحر مستوية من غير متعهدٍ ولا مجرٍ فكيف يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغير أعمالها وسعة أطرافها، وتباين أكنافها من غير صانع وحافظ؟

فبكوا جميعًا وقالوا: صدقتَ، وأغمدوا سيوفهم وتابوا (التفسير الكبير: 1/334، بتصرف).

نستفيد من قصة الإمام أبي حنيفة رحمه الله بأنه لا يمكن وجود شيء بدون صانع، بل لا يمكن أن توجد إبرة صغيرة بنفسها فضلاً عن السفينة الكبيرة.

• والجميع يعلم بأنّ الإبرة يتم صنعها بالطريقة المألوفة، ويستحيل أن تتشكّل بسبب الانفجار.

• وما نشاهده هو أنّ الانفجار يسبّب الخراب، وليس الإيجاد أو الإبداع، والإبرة (الصغيرة) إذا لم تأت نتيجةً للانفجار، فهل يعقل أن ينتظم الكون هكذا بكل ما فيه نتيجةً للانفجار؟ "ولا شك أن هذا القول مضحك للغاية".

• ونرى أن أشياء العالم تتغير باستمرار، لذا فلن تَبْقَ إلى الأبد.

• وهذا العالم حادثٌ وليس أزليًّا، فلا بد أن يكون له متصرّف ومبدع له منذ بدايته إلى نهايته، وليس هو إلا الله، وهو أزليّ، أبديّ، سرمديّ، وهو خالق الكون بما فيه من السماوات، والأرض، والقمر، والنجوم، والإنس، والحيوان، وما كان، وما يكون.

• إذا نظر المسافر على الجبال والصحاري يرى أكوام الرمال الغير المتناسقة، والصخور المبعثرة بغير تناسق، يدرك أن هبوب الرياح جمعت أكوام الرمال، وأن الأمطار تسبّبت بسقوط الصخور من الجبال (قِطعة قطعة) فانتشرت هذه الصخور، ولكن الإنسان نفسه إذا دخل المبنى الجميل، ورأى فيه كل شيء مرتبًا بشكلٍ متناسق، فمثلا: إن رأى السجاد مفروشًا بانسجام، والأواني موضوعة في سلة الأواني بشكل متميز، وأدوات الطاولة مرتبة على الطاولة، والألوان والنقوش الرائعة تلألأ على الجدران، والستائر الأنيقة معلّقَة على الأبواب، فلن يخطر بباله أن هذا التناسق والانسجام بكل ما فيه حصل تلقائيًّا، أو أن الرياح بسطت السجادة، والأمطار نظّمت الأواني، وسقوط الثلج زخرف الجدران، وهبوب العواصف جمع الأحجار من أماكن شتى، ثم تم قيام هذا المبنى بهذا الجمال على ضوء ما حصل دون مُرتِّب! لا شك أن من يعتقد ذلك أحمق لا محالة.

والخلاصة: أن الأشياء التي تم ترتيبها بدقة في المبنى تدل على وجود منظّم ماهر هو الذي رتّبها ونظّمها في أماكنها بكل براعة، فكذلك اختلاف الليل والنهار يدل على وجود خالق لهما ومتصرف فيهما، وإنما هو خالق الكون وخالقنا، وهو الله وحده لا شريك له.

* إذا نظرنا في الكون وجدنا أن المخلوقات على ثلاثة أنواع:

(١) الحيوان العاقل، نحو: الإنس، والجن، والملائكة.

(٢) الحيوان غير العاقل، نحو: الحيوانات، والحشرات، والطيور وغيرها.

(٣) غير الحيوان وغير العاقل، نحو: السماء، والأرض، والجمادات.

والنوع الأول أفضل من قَسِيمَيه؛ لأنه يمتلك الحياة والعقل، ولكن رغم هذه الفضيلة لا يقدرُ حيوان عاقل على خلق الثمار من الأشجار، ولا على خلق الإنسان، فكيف تتمكن المخلوقات الأخرى على الخلق مع أنها أدنى من النوع الأول؟ فعدم قدرة الخلق لغير الحي، ولغير العاقل أظهر من الشمس، فثبت بذلك أن خالق المخلوقات لا بد أن يكون من غير جنس المخلوقات، ويكون أعلى منهم، وهو الله تعالى لا محالة.

* وهذا الأمر أيضًا هو من البديهيات أنه لو اجتمعت الخلائق بأسرهم على أن يخلقوا أدنى مخلوق من الخلائق الله تعالى فلن يقدروا عليه، وعلى سبيل المثال: لم نعلم أحداً من العقلاء قدِرَ على خلق نملة، أو ذبابة حتى الآن. فإذا عجزوا عن صنع أو خلق أدنى مخلوق الله فما الحال بصنع تلك المخلوقات العظيمة التي تبهر العقول.

* بل الذين اتخذهم الناس آلهةً هم أيضًا لا يقدرون على خلق شيء، وأشار إليه ربنا تعالى بقوله:

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَن يَخۡلُقُواْ ذُبَابٗا وَلَوِ ٱجۡتَمَعُواْ لَهُۥۖ [الحج: 73]

وقد ذكر القرآن الكريم في مواضع شتى أن الله تعالى متفرّد بخلق الكون، ومتفرّد بخلق جميع المخلوقات، ولا شريك له فيه، كما قال:

نَحۡنُ خَلَقۡنَٰكُمۡ فَلَوۡلَا تُصَدِّقُونَ ٥٧

أَفَرَءَيۡتُم مَّا تُمۡنُونَ ٥٨

ءَأَنتُمۡ تَخۡلُقُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡخَٰلِقُونَ ٥٩

نَحۡنُ قَدَّرۡنَا بَيۡنَكُمُ ٱلۡمَوۡتَ وَمَا نَحۡنُ بِمَسۡبُوقِينَ ٦٠

عَلَىٰٓ أَن نُّبَدِّلَ أَمۡثَٰلَكُمۡ وَنُنشِئَكُمۡ فِي مَا لَا تَعۡلَمُونَ ٦١

وَلَقَدۡ عَلِمۡتُمُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأُولَىٰ فَلَوۡلَا تَذَكَّرُونَ ٦٢

أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَحۡرُثُونَ ٦٣

ءَأَنتُمۡ تَزۡرَعُونَهُۥٓ أَمۡ نَحۡنُ ٱلزَّٰرِعُونَ ٦٤

لَوۡ نَشَآءُ لَجَعَلۡنَٰهُ حُطَٰمٗا فَظَلۡتُمۡ تَفَكَّهُونَ ٦٥

إِنَّا لَمُغۡرَمُونَ ٦٦ بَلۡ نَحۡنُ مَحۡرُومُونَ ٦٧

أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلۡمَآءَ ٱلَّذِي تَشۡرَبُونَ ٦٨

ءَأَنتُمۡ أَنزَلۡتُمُوهُ مِنَ ٱلۡمُزۡنِ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنزِلُونَ ٦٩

لَوۡ نَشَآءُ جَعَلۡنَٰهُ أُجَاجٗا فَلَوۡلَا تَشۡكُرُونَ ٧٠

أَفَرَءَيۡتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ ٧١

ءَأَنتُمۡ أَنشَأۡتُمۡ شَجَرَتَهَآ أَمۡ نَحۡنُ ٱلۡمُنشِـُٔونَ ٧٢

نَحۡنُ جَعَلۡنَٰهَا تَذۡكِرَةٗ وَمَتَٰعٗا لِّلۡمُقۡوِينَ ٧٣

فَسَبِّحۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلۡعَظِيمِ ٧٤ [الواقعة: 57-74].

هذه الآيات صريحة في أن الله هو من خلق الكون، ويتصرف به وحده دون غيره، وهناك العديد من الآيات الأخرى التي تنير قلب القارئ وتجعله على يقين ظاهر بأن خالق الكون هو الله وحده لا شريك له.

تعليقات



رمز الحماية