الحث على كسب المال الحلال | أبو رجب محمّد آصف العطّاري المدني


نشرت: يوم الأَربعاء،26-مارس-2025

الحث على كسب المال الحلال

روي عن السيّدة عَائِشَةَ الصدّيقة رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ، وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ» (سنن الترمذي: 3/76، (1363)).

شرح الحديث:

جاء في هذا الحديث الشريف أمران:

الأوّل: «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».

الثاني: «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ».

شرح الجزء الأوّل من الحديث:

* قال العلّامة الملّا علي القاري رحمه الله في معنى قوله ﷺ «إِنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»:

أي: الحاصلُ من وِجْهَةِ الواصل من جهةِ صِنَاعَةٍ أو تجارة أو زراعةٍ (مرقاة المفاتيح: 6/21).

وهذا يدل على أنه مهما كان مصدر الكسب وأيًّا كان نوعه، يجب أن يكون متوافقًا مع أحكام الشريعة الإسلامية ويكون خاليًا من الحرام والغشّ، وهذا فقط الذي يُعدّ فيه الكسب حلالًا وطيّبًا.

الحثّ على الكسب الحلال:

مَن خرج مجتهدًا في طلب الرزق الحلال جعله رسولُ الله ﷺ في سبيل الله، كما في الحديث الشريف أنّه: مَرَّ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ فَرَأَى أَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ جَلَدِهِ ونَشَاطِهِ مَا أَعْجَبَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَوْ كَانَ هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟!

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:

«إِنْ كَانَ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى وَلَدِهِ صِغَارًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ خَرَجَ يَسْعَى عَلَى أَبَوَيْنِ شَيْخَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ يَسْعَى عَلَى نَفْسِهِ يَعِفُّها فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ خَرَجَ رِيَاءً وتَفَاخُرًا فَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ» (المعجم الأوسط: 5/137، (6835)).

* قال المفتي أحمد يار خان النعيمي رحمه الله في معنى قوله «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»:

أي: لا تتركْ نفسك بلا عملٍ، بل اسْعَ لكسب الحلال، وكُلْ ممّا تكسب (مرآة المناجيح: 4/233، تعريبًا من الأردية).

هذا هو الدرس الّذي أخذناه من سيرة رسول الله ﷺ، حين قام رسول الله ﷺ بتدريب عمليّ للصحابة على ذلك كما جاء في حديث روي عن سيّدنا أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه،

أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ ﷺ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟».

قَالَ: بَلَى، حِلْسٌ نَلْبَسُ بَعْضَهُ وَنَبْسُطُ بَعْضَهُ، وَقَعْبٌ نَشْرَبُ فِيهِ مِنَ المَاءِ.

قَالَ: «ائْتِنِي بِهِمَا».

فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِيَدِهِ، وَقَالَ: «مَنْ يَشْتَرِي هَذَيْنِ؟».

قَالَ رَجُلٌ: أَنَا، آخُذُهُمَا بِدِرْهَمٍ.

قَالَ: «مَنْ يَزِيدُ عَلَى دِرْهَمٍ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا».

قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ، وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ وَأَعْطَاهُمَا الْأَنْصَارِيَّ، وَقَالَ: «اشْتَر بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَر بِالْآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ».

فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عُودًا بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: «اذْهَبْ فَاحْتَطِبْ وَبِعْ، وَلَا أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا».

فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ، فَاشْتَرَى بِبَعْضِهَا ثَوْبًا، وَبِبَعْضِهَا طَعَامًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: هَذَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَجِيءَ الْمَسْأَلَةُ نُكْتَةً فِي وَجْهِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ (سنن أبي داود: 2/168-169، (1641)).

فوائد أخرى للكسب الطيب الحلال:

لإبراز أهمّية الكسب الحلال والطيّب نستعرض ثلاثة أقوال للحبيب المصطفى ﷺ:

(1) «أَيُّمَا رَجُلٍ كَسَبَ مَالًا مِنْ حَلَالٍ فَأَطْعَمَ نَفْسَهُ أَوْ كَسَاهَا فَمَنْ دُونَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ فَإِنَّ لَهُ بِهَا زَكَاةً» (صحيح ابن حبان: 6/218، (4222)).

(2) قال سيّدُنا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ! ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ.

فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ:

«يَا سَعْدُ! أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ» (المعجم الأوسط: 5/34، (6495)).

(2) من أَكَلَ الحلالَ أربعين يومًا نَوَّرَ اللهُ قلبَه، وأجرى ينابيع الحكمة مِن قلبه على لسانه، وفي رواية: زهّده الله في الدنيا (اتحاف السادة المتقين: 6/450).

شرح الجزء الثاني من الحديث: يقول المفتي أحمد يار خان النعيمي رحمه الله في معنى قوله «وَإِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبِكُمْ»: إنّ كسبَ الأولاد أيضًا كسبكم، وكأنّكم كسبتموه بشكلٍ غير مباشر (مرآة المناجيح: 4/233، تعريبًا من الأردية).

* وقد جاء في حديث: أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِي مَالًا وَوَلَدًا، وَإِنَّ وَالِدِي يَحْتَاجُ مَالِي، قَالَ:

«أَنْتَ وَمَالُكَ لِوَالِدِكَ، إِنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ أَطْيَبِ كَسْبِكُمْ، فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ» (سنن أبي داود: 3/403، (3530)).

* يقول المفتي أحمد يار خان النعيمي رحمه الله تعالى: فتبيّن لنا من هذا الحديث الشريف بعض الأحكام: يجب على الأبناءِ الأغنياءِ نفقةُ الوالديْن المعسريْن، وأمّا إذا كانا غنيَّيْن ولا يحتاجان لمال الأبناء فيستحبّ تقديم الهدايا لهما.

* وأضاف المفتي أحمد يار خان النعيمي رحمه الله: لا تنسوا أنّ الأم تضطلع بدورها في تربية أبنائها بينما الأب يربّيهم بإنفاق المال عليهم وعليها، يعني أنّ الوالدة تخدم أولادها الخدمة الجسديّة، بينما الوالد يخدمهم الخدمة الماليّة، وقد قال ﷺ في فضلها:

«الْجَنَّةُ تَحْتَ أقْدَامِ الأُمَّهَاتِ» (مسند الشهاب: 1/102، (119))،

وقال في فضله:

«أَنْتَ وَمَالُكُ لِأَبِيكَ» (المعجم الصغير للطبراني: 2/63، (944))،

فيكون الشكر والتقدير متناسبًا مع الخدمة، وهذا هو عدل سيّدنا رسول الله ﷺ (مرآة المناجيح: 4/233، تعريبًا من الأردية).

* روي عن سيّدنا جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِلرَّجُلِ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِأَبِيكَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ: إِذَا جَاءَكَ الشَّيْخُ، فَسَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ.

فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَا بَالُ ابْنِكَ يَشْكُوكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ؟».

فَقَالَ: سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَلْ أَنْفَقْتُهُ إِلَّا عَلَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «إِيهِ، دَعْنَا مِنْ هَذَا أَخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ قُلْتَهُ فِي نَفْسِكَ مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاكَ».

فَقَالَ الشَّيْخُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا يَزَالُ اللَّهُ يَزِيدُنَا بِكَ يَقِينًا، لَقَدْ قُلْتُ فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ.

فَقَالَ: «قُلْ، وَأَنَا أَسْمَعُ».

قَالَ: قُلْتُ:

غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا ... تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ

إِذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْكَ بِالسُّقْمِ لَمْ أَبِتْ ... لِسُّقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ

كَأَنِّي أَنَا الْمْطَرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي ... طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ

تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا ... لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ

فَلَمَّا بَلَغْتَ السِّنَّ وَالغَايَةَ الَّتِي ... إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ

جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً ... كَأَنَّكَ أَنْتَ المُنْعِمُ المُتَفَضِّلُ

فَلَيْتَكَ إِذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي ... فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ المُجَاوِرُ يَفْعَلُ

تَرَاهُ مُعَدًّا لِلْخِلَافِ كَأَنَّهُ ... بِرَدٍّ عَلَى أَهْلِ الصَّوَابِ مُوَكَّلُ

فَحِينَئِذٍ أَخَذَ النَّبِيُّ ﷺ بِتَلَابِيبِ ابْنِهِ وَقَالَ: «أَنْتَ وَمَالُكُ لِأَبِيكَ» (المعجم الصغير للطبراني: 2/63، (944)).

ما هو مقدار الاكتساب الضروري؟

من المهم جدّا أنْ نعرف ما هو مقدار الاكتساب الضروري والمستحب؟:

جاء في "الفتاوى الهنديّة":

أنّ الكسبَ فَرْضٌ: وَهُوَ الكَسْبُ بِقَدْرِ الكِفَايَةِ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ اكتَسَبَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ، إنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ مُعْسِرَانِ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الكَسْبُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمَا.

وَمُسْتَحَبٌّ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِيُوَاسِيَ بِهِ فَقِيرًا أَوْ يُجَازِيَ بِهِ قَرِيبًا، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِنَفْلِ العِبَادَةِ.

وَمُبَاحٌ: وَهُوَ الزِّيَادَةُ لِلزِّيَادَةِ وَالتَّجَمُّل.

وَمَكْرُوهٌ: وَهُوَ الجَمْعُ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكَاثُرِ وَإِنْ كَانَ مِنْ حِلٍّ (الفتاوى الهندية: 5/348-349، ملخصًا).

مقتطفات من الحديث الشريف

تبيّن لنا من الحديث السابق وشرحِه بعضُ الأمور التالية:

• ينبغي بذل الجهد في الكسب الحلال.

• من الضروري أنْ يكتسب المرء ما يكفيه لتلبية احتياجات أسرته ووالديه، ليكون بعيدًا عن سؤال الآخرين.

• بقاء الرجل بلا عمل يتناقض مع احترامه لذاته ويسهم في تدهور اقتصاد الوطن أيضًا.

• بذل الجهد في كسب الرزق الحلال يُقلّل من البطالة، ويسهم في تعزيز الاقتصاد الوطني.

• العاطلون عن العمل لا يتحمّلون مسؤوليّةَ أنفسهم، ويظنون الوظيفة والعمل الكبير يأتي دون سعي جهد، وهذا ليس مِن تعاليم الشريعة، بل يجب على كلِّ شخصٍ أنْ يبذل جهده وما في وسعه لكسب الرزق الحلال، كما نبّه قدوتُنا وسيدنا رسول الله ﷺ الشابَ الأنصاريَّ إلى العمل وتر سؤال الناس، وقدمّ له درسًا عمليًا في السعي من أجل الكسب الحلال ولو باستعمال الأسباب البسيطة.

الملّخص: المال نعمة من نِعَم الله تعالى لا أحد يستطيع أنْ يستغني عنها، سواءً كان رجلًا أو امرأة، طفلًا أو مُسنًّا عالِمًا أو جاهلًا؛ لأنّ البقاء على قيد الحياة يتطلّب الطعام لسدّ الجوع، والملابسَ لستر البدن، والمسكن للمأوى، ووسيلة النقل للسفر، والدواء للعلاج من الأمراض، وكلّها من الاحتياجات الأساسيّة لكلِّ إنسان، ولا يمكن الحصول على هذه الأشياء إلّا بالمال.

إذا لم يمتلك الإنسان مالاً فسيفتقر للآخرين، وإذا حصل على المال بكثرة ربما زاد طغيانه، ومع وجود المال فإن فوائده لا تعدّ ولا تحصى، وكذلك مخاطره أيضًا لا تعدّ ولا تحصى.

نسأل الله العظيم أنْ يوفّقنا وإيّاكم لبذل الجهد في كسب الرزق الحلال والابتعاد عن أي مصدر غير شرعي.

تعليقات



رمز الحماية