فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِك كلاَمَه ألْقَى نَفْسَه عَنْ فَرَسِه وَجَلَسَ بَينَ يدَيه وَقَالَ: أيها الرَّجُلُ! لَقَدْ كدَّرَ علي مَقَالُك صَفْوَ عَيشِيْ، وَمَلَك قَلْبِيْ، فَأعِدْ علي بَعْضَ قَوْلِك، وَاشْرَحْ لِيْ ذَلِك.
فَقَالَ لَه: أمَا تَرَى هذِه الْعِظَامَ الَّتِيْ بَينَ يدَيَّ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: هذِه عِظَامُ مُلُوْك غَرَّتْهمُ الدُّنْيا بِزُخْرُفِها، وَاِسْتَحْوَذَتْ على قُلُوْبِهمْ بِغُرُوْرِها، فَألْهتْهمْ عَنِ التَّأهبِ لِهذِه الْمَصَارِعِ حتى فََاجَأتْهمُ الْآجَالُ وَخَذَلَتْهمُ الْآمَالُ وَسَلَبَتْهمْ بَهاء النِّعْمَة، وَسَتُنْشَرُ هذِه الْعِظَامُ فَتَعُوْدُ أجْسَاماً، ثُمَّ تُجَازَى بِأعْمَالِها، فَإِمَّا إلى دَارِ النَّعِيمِ وَالْقَرَارِ، وَإِمَّا إلى دَارِ الْعَذَابِ وَالْبَوَارِ.
ثُمَّ غَابَ الرَّجُلُ فَلَمْ يدْرَ أينَ ذَهبَ! وَتَلاَحَقَ أصْحَابُ الْمَلِك بِه، وَقَدَ تَغَيرَ لَوْنُه وَتَوَاصَلَتْ عَبَرَاتُه، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيه اللَّيلُ نَزَعَ مَا كانَ عَلَيه مِنْ لِبَاسِ الْمَلِك، وَلَبِسَ طِمْرَينِ وَخَرَجَ تَحْتَ اللَّيلِ فَكانَ آخِرُ الْعَهدِ بِه ِ-رَحِمَه اللّٰه تعالى[1].
مَا أعْظَمَ مَا ذُكرَ في هذِه الْحِكاية مِنْ بَيانِ طُوْلِ سَفَرِ الْآخِرَة وَالْأحْوَالِ الْوَارِدَة فِيها، وَمَا صَوَّرَ هذَا الْمُبَلِّغُ السَّرِّيُّ الْقَبْرَ وَالْحَشْرَ بِوَضْعِ عِظَامِ الْمُلُوْك بَينَ يدَيه، إِنَّها حَقّاً لَعِبْرَة صَادِقَة، وَنَظْرَة ثَاقِبَة في حَالِ الْعَاقِبَة.
لاَ شَك أنَّ أحْوَالَ الْبَرْزَخِ وَمَا بَعْدَه مِنَ الْحَشْرِ وَالْعَرْضِ وَالسُّؤَالِ شَدِيدَة عَظِيمَة، وَكذَلِك مَا قَبْلَها مِنْ مَرَاحِلِ الْمَوْتِ مِنْ شِدَّة قَبْضِ الرُّوْحِ، وَرُؤْية مَلَك الْمَوْتِ، وَخَوْفِ سُوْء الْخَاتِمَة غَاية فِي الْكرْبِ وَالشِّدَّة.