الاعتكاف وليلة القدر استجمام من كفاح الحياة | الشيخ طارق


نشرت: يوم الخميس،29-أبريل-2021

الاعتكاف وليلة القدر استجمام من كفاح الحياة

كان بعضهم لا يزال منفردًا في بيته خاليًا بربه. فقيل له: أما تستوحش؟ قال: كيف أستوحش وهو يقول: أنا جليس مَن ذَكَرني.

أَوْحَشَتْنِي خَلَوَاتـي *** بِكَ مِنْ كُلِّ أَنِيسِي
وَتَفَـرَّدتُ فَعَايـنْ *** تُكَ بِالْغَيْبِ جَلِيسي
(لطائف المعارف ٢٨٩)

وجاء عَنْ عَطَاءٍ الخراسَانيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ يُقَالُ: مَثَلُ المعْتَكِفِ كَمَثَلِ عَبْدٍ أَلْقَى نَفْسَهُ بَينَ يَدَي رَبِّهِ ثُم قَالَ: رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي، رَبِّ لا أَبْرَحُ حَتَّى تَغْفِرَ لي». (شُعب الإيمان للبيهقي برقم ٣٩٧٠ شرح ابن بطال على البخاري (٤/١٨١))

مما تتشوّف له النفس والروح الاستجمام بلغتنا المعاصرة، وأجمل ما يستروح به العبد نفسه ما كان فيه مرضاة ربه أولاً وراحة قلبه ونفسه ثانياً.

ولذلك حين تضيق النفس ويقسو القلب وتعصر الحياةُ الإنسانَ أيَّا كان فإنه يبحث عن مكان وبيئة يستعيد فيها طراوة قلبه، وطمأنينة نفسه وروحه، فيخرج من بيته وربما بلدته ومدينته بل إنه إذا كان من أهل السعة خرج لفعل استجمام إلى دولة أخرى باحثاً عن بيئة ومكان ينتعش فيهما قلبه وروحه إذا اضطربت أحواله، ويفعل ما يسمى وإلى الأمس القريب كان كثيراً من المؤمنين يجدون في السفر إلى العمرة وسيلة قوية لذلك، وكثيراً أيضاً يخرجون إلى المنتزهات والأماكن الخضراء التي تجوبها الأنهار والمياه العذبة فيقضون ما يشاؤون من أجل ذلك الهدف..

لكن الحقيقة التي ينبغي أن نقف عندها أن الله أعطانا شهر رمضان كل عام ليكون إن صح التعبير استجماماً بعد كفاح سنوي، وخصوصاً العشر الأواخر منه فهي وسيلة ناجعة لاسيما الاعتكاف فيها فإن ذلك استجمام من كفاح الحياة وراحة يقف فيها الصائم في محراب العبودية لربه ويبحث عن قلبه وصلته بخالقه، فالعبادة والعمل الصالح مظهر للإيمان، وأجواء رمضان أسهل وسيلة للقيام بهذا الاستجمام، وغاية هذا الاستجمام اغتنام العشر الأواخر من رمضان والحرص على إدراك ليلة القدر، والاقتداء بسيدنا رسول الله ﷺ في شدّ المئزر وطويِ الفراش من أجل انقطاع خاص لله حتى آخر ليلة من شهر رمضان المبارك ذلكم الاستجمام يسمى بالاعتكاف في المسجد فما هو وما حكمه وأهميته؟

حكم الاعتكاف:

الاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ على الكفاية في العشر الأواخر ومسنونة لكامل شهر الصيام، وهُوَ مِنَ العِبَادَاتِ العَظِيمَةِ الَّتي يُتَقَرَّبُ بها إلى الله تَعَالى؛ ولِذَا وَاظَبَ عَليهِ النَّبيُّ ﷺ. ولذا قاَلَ الزُّهَريُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالى: «عَجَباً لِلمُسْلِمينَ، تَرَكُوا الاعْتِكَافَ، وإِنَّ النَّبيَّ ﷺ لم يَتْرُكْهُ مِنْذُ دَخَلَ المدِينَةَ كُلَّ عَامٍ في العَشْرِ الأَوَاخِرِ حتَّى قَبَضَهُ اللهُ تَعَالى».(شرح ابن بطال على البخاري (٤/١٨١).)

وانشغال العبد مدّة بالآخرة فضيلةٌ كبيرةٌ وثوابه جزيل، فالاعتكاف يعين على تفريغ القلب من الدنيا، لأننا سننسلخ عنها شئنا أم أبينا.

والاعتكاف الحقُّ يجعل المعتكفَ متشبهاً بالملائكة حتى لا يعصي ربّه بإذن الله تعالى فيملأ وقته بين ذكر وتلاوة وتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وصلاة وقيام واستغفار وقيام بالأسحار.

الاعتكاف في مركز الدعوة الإسلامية:

وبلا شكٍ فإن لكل شيخٍ في مدرسته برامج عباديّة خاصةً في استقبال شهر رمضان لاغتنامه والاحتفاء به فيما يرضي الله سبحانه وتعالى، ومركز الدعوة الاسلامية الذي هو مركزٌ عالميٌ له برامجه ونشاطاته الجميلة المتنوعة في شهر رمضان المبارك.

وهكذا المشارب والمدارس عند الصالحين تتلاقى في الشرق والغرب بنشاطاتها وأسلوبها وطريقة دعوتها بل وحتى منهاجها..فالمقصود واحدٌ عند الجميع إلهي انت مقصودي ورضاك مطلوبي.

الشيخ محمد إلياس القادري رائد إحياء السنن النبوية في الشرق في عصرنا الحاضر:

الشيخ محمد إلياس العطّار القَادري حفظه الله تعالى في كراتشي وهو مؤسس مركز الدعوة الاسلامية قبل أربعين عاماً من الآن أنه قد برزَ عنده جانب الاهتمام بالسنن النبوية وخاصة السنن العملية التي تربّي المؤمن على أخلاق النبوة والقرآن ومنها هذه السنة العظيمة، (إحياء سنّة الاعتكاف في البلاد) حيث استجاب له الكثير من المؤمنين في باكستان وبنجلاديش والهند، ونيبال وسريلانكا وفي دول من أوروبا وإفريقيا وأمريكا وأستراليا وغيرها في المحافظة على هذه السنّة التي كادت أن تندثر لولا هؤلاء الربّانيون، ولعل نجاح الشيخ محمد إلياس العطار القادري في تشويق الناس للمحافظة على نشاط رمضان عموماً والاعتكاف بشكل أخص هو طبيعة البلاد المهيئة لإقامة العبادات والاعتكافات بحريةٍ دون عوائق؛ وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على بلاد باكستان وما حولها، ومع أن هذا الاعتكاف برز ظُهوره ونشَاطه في باكستان وفي مدينة كراتشي خصوصاً إلا أنه قد امتد إلى مدن أخرى في العالم من خلال فروع مركز الدعوة الاسلامية امتداداً ظاهراً يعتكف فيه المئات والآلاف حسب البلد والمسجد، ولكن تقيدت الاعتكافات في العامين الأخيرين بسبب الوباء المنتشر.

مدة الاعتكاف في المركز:

اشتُهِر في مركز الدعوة الاسلامية القيام بهذه السنّة وخاصة في المقر الرئيسي وكثير من فروعه، ويكون الاعتكاف فيها للشهر كاملاً وقسم من المعتكفين للعشر الأواخر ويقوم المركز بتنظيم برامج للعبادة والتعليم والمذاكرة والصلاة والقيام وتجد نفسك في المعتَكَف كأنك في روضة من رياض الجنة، نعم لا أبالغ بهذا؛ فإنّك حين ترى حلقات للعلم وأخرى للقرآن، وحلقات للمنافسة في بعض الطاعات، يقوم على كل حلّقة مبلّغ وداعية وطالب علم، وحين ترى هذا النشاط الجماعي الكبير تتهلل سروراً بأن الأمة تحمل الخير الكثير وستنجب خيراً كثير بإذن الله تعالى، وهكذا تنقضي أجواء رمضان ويعتكف في تلك الفروع والمراكز والمساجد التابعة لمركز الدعوة الاسلامية المئات من المحبين والمنتسبين ويشاركهم عامة المؤمنين اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبأعداد ملفتة تدخل السرور على قلب المؤمن الطائع لربه جلّ وعلا.

فضل الاعتكاف:

لا تترك أخي المسلم هذه السنة ولو الاعتكاف الجزئي فإلى متى ترضى أن يقوم غيرك بسنة الاعتكاف عنك؟ وأنت تعلم يا أخي أن حبيبنا ﷺ المعصوم ما ترك الاعتكاف بعد فريضة صيام شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل.

فقد جاء عن السيّدةِ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا أَنَّ النَّبيَّ ﷺ

كَانَ يَعْتَكفُ العَشرَ الأَواخِرَ من رَمَضَانَ حتى تَوَفَّاهُ اللهَ، ثمَّ اعْتَكَفَ أَزواجُهُ من بَعدِهِ. (رواه البخاري (١٩٢٢) ومسلم (١١٧٢))

فالجواب منه ﷺ صريح في فضل الاعتكاف وقدْره:

من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتين وعمرتين. (رواه البيهقي)

فلنحاول أن نقضي بعض الوقت في المسجد ولو بنية الاعتكاف الجزئي على أقل تقدير كيلا نُحرمَ من بركات الاعتكاف وفقنا الله وإياكم لذلك إنه كريم جواد مجيب.

وإذا كان أهل الدنيا ضاعفوا الاجتهاد لدنياهم، فأهل الآخرة يضاعفون الاجتهاد لآخرتهم، تأسِّياً بالحبيب الأعظم ﷺ، حيث كان إذا دخل العشر شدَّ المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل كله.

ليلة القدر في العشر:

جاء في الصحيح عَنْ أَبي هُريرةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، عن النَّبِيِّ ﷺ قال:

مَنْ قام لَيْلَةَ القَدْرِ إِيماناً واحْتِسَاباً، غُفِر لَهُ ما تقدَّم مِنْ ذنْبِهِ. (متفقٌ عليه)

وأخفى الله علينا ليلة القدر كإخفاء وقت الوفاة، وساعة الاجابة يوم الجمعة، ويوم القيامة حتى يُرَغِّب المؤمن في الطاعات، ويزيد في الاجتهاد، ويملأ بالخير الأوقات، وهكذا في سائر الأمور الغيبية، يذكرونه ولم يروه، ويسألونه الجنة ولم يروها، ويستعيذون به من النار ولم يروها، فجَدّوا واجتهدوا في المظنون فكيف لو كان معلوماً؟

لكانوا أشدَّ لك ذكراً، لكانوا أشد لها طلباً، لكانوا أشدَّ منها هرباً، لذلك قال تعالى في حق المجدّين:

أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، قَالَ: فَيَقُولُونَ: فَإِنَّ فِيهِمْ فُلَانًا الْخَطَّاءَ لَمْ يُرِدْهُمْ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُ: هُمْ الْقَوْمُ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ. (رواه الإمام مسلم )

وليلة القدر في هذه العشر تُلتمس في الليالي الوترية ففي الحديث أَنَّ رسولَ الله صلّى الله تعالى عليه وآله وسلّم قال:

تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ فِي الوِتْرِ، مِنَ العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. (أخرجه البخاري: ٢٠١٧)

فضل ليلة القدر:

  • نزل القرآن في ليلة القدر فقال الله: (إِنَّا أَنزَلْنَٰهُ فِي لَيْلَةِ ٱلْقَدْرِ). (القدر: ١)
  • جعل فضلها كبير ومضاعف فقال: (لَيْلَةُ ٱلْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر). (القدر: ٣) قال مجاهد رحمه الله تعالى: «عَمَلُهَا وَصِيَامُهَا وَقِيَامُهَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ». (تفسير الطبري: ٢٤/٥٤٥)
  • بشَّر الحبيب ﷺ مغتنم هذه الليلة فقال: مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (أخرجه البخاري: ١٩٠١)

علامات ليلة القدر:

عن أُبيِّ بنِ كَعبٍ رضِيَ اللهُ عنهُ قال:

هي ليلةُ صَبيحةِ سَبعٍ وعِشرين، وأمارتُها أنْ تطلُعَ الشَّمسُ في صَبيحةِ يومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها. (مسلم: ٧٦٢)

دعاء ليلة القدر:

يصح فيها أيّ دعاء ويستحسن الإكثار من الدعاء بشكل عام ومن جوامع دعاء ليلة القدر ما جاء عَنْ السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قُلْتُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: " قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي (أخرجه الترمذي: ٣٥١٣)

بعض أعمال ليلة القدر:

  1. القيام فيها بصلاة التهجد وغيرها لأنَّ قيامَها مكفّر للذنوب وسبق حديث من قام ليلة القدر.
  2. قراءة القرآن الكريم بالتدبّر وهي عبادة تشفع لصاحبها وخصوصاً إذا قُرِنَت بالصيام فالنبي ﷺ يقول: الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. (رواه أحمد: ٦٦٢٦)
  3. المحافظة على صلاة الفجر والعشاء في جماعة، فهما يعدلان الليل كلِّه، قال النبي ﷺ: مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا صَلَّى اللَّيْلَ كُلَّهُ. (رواه مسلم: ٦٥٦)
  4. الدعاء للنفس والأهل والأقارب والأمة الإسلامية جميعاً، وسبق حديث السيدة عَائِشَةَ رضي الله عنها في ذلك.
  5. الاجتهاد بأنواع العبادات، فعن أنس رضي الله تعالى عنه، قال: العَمَل فِي لَيْلَة الْقدر وَالصدقة وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة أفضل من ألف شهر.(الدر المنثور: ٨/٥٦٨)

أخيراً لا بد لنا أن نَلْتَمِسَ ليلة القدر، ونغتنمَ كلَّ ليلةِ وترٍ مِنَ العشر الأواخر فيه ونَحْذَرَ مِن الغفلَة، فإنَّ مَن حُرِمَ مِنْ خَيرِ هذه الأيام فَهُو المَحْرُوم حَقاًّ.. قال عليه الصلاة والسلام:

إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ. (رواه ابن ماجه: ١٦٤٤)

بهذا الاغتنام والحرص على الدعاء والعبادة في هذه الأيام يكون الاعتكاف أجمل استجمامٍ لدى المؤمن، فيخرج من ضيقه وتنفرج أساريره وتُغفر ذنوبه ويكون في رضى ربّه.

فما أجمل أن نكون هكذا مقتدين بحبيبنا صلى الله عليه وسلم.

اللهم أكرمنا بليلة القدر ولا تجعلنا من المحرومين واغفر لنا واجعلنا من أهل العتق والقبول بفضلك وكرمك يا أكرم الأكرمين والحمد لله رب العالمين.

تعليقات



رمز الحماية